“الحرّة” توقف عقود 500 موظف بينهم 57 لبنانيًا بلا مستحقات أو حقوق


2025-04-29    |   

 “الحرّة” توقف عقود 500 موظف بينهم 57 لبنانيًا بلا مستحقات أو حقوق
المصدر: news cast studio

قبل حوالي أسبوعين وتحديدًا في 12 نيسان الماضي، وصل موظفي قناة “الحرّة” ومنصّاتها الرقميّة رسالة موحّدة من جيفري غدمن الرئيس والمدير التنفيذي لشبكة الشرق الأوسط للإرسال MBN التي تضمّ تحت مظلّتها قناة “الحرّة”، تُبلغهم “آسفة” بقرار الاستغناء عن خدماتهم. الرسالة التي وصلت 500 موظّف، لم تتضمّن أيّ إشارة إلى حقوق ومستحقات الموظفين، الأمر الذي أثار مخاوفهم ودفع بعضهم إلى اللجوء إلى القضاء أو الجهات المعنيّة لتحصيلها.  

وذكر غدمن في الرسالة التي اطلعت عليها “المفكرة” أنّ الأسباب وراء اتخاذ ما أسماه “القرار الصعب” هو قيام وزارة الكفاءة الحكومية في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقطع “غير مسؤول وغير قانوني” لتمويل الشبكة والذي كان الكونغرس قد وافق عليه في آذار الماضي. وأشار إلى أنّ كاري ليك المستشارة الخاصة التي عيّنها الرئيس دونالد ترامب لمتابعة شؤون الوكالة الأميركية للإعلام العالمي (U.S. Agency for Global Media  – USAGM) التي تدير المنحة التي تحصل عليها الشبكة من الحكومة الأميركية، ترفض التحدث مع الشبكة و”تحرمها عن قصد ممّا تحتاجه من أموال لدفع رواتب الموظفين المخلصين المجتهدين”. 

وكان الكونغرس في 14 آذار الماضي، خصّص تمويلًا للشبكة، ولكنّ الوكالة الأميركية للإعلام الفدرالي المسؤولة عن المحطات المموّلة من الحكومة والتي تبث للخارج، جمّدت التمويل في اليوم التالي مستندة إلى أمر تنفيذي صادر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وجاء في الأمر التنفيذي الذي حمل عنوان “استمرار تقليص البيروقراطية الفيدرالية” أنّ ثماني وكالات فدرالية وُجِّهت إليها تعليمات بتقليص نشاطاتها وموظفيها إلى أدنى مستوى منها الوكالة الأميركية للإعلام العالمي. وتدير هذه الوكالة بالإضافة إلى “الحرّة” عددًا من الإذاعات من بينها إذاعة “صوت أميركا” (VOA)، كما تموِّل محطات بث مستقلة رسميًا مثل إذاعة “أوروبا الحرة”، و”راديو ليبرتي” وإذاعة “آسيا الحرة”. 

وكرّر من تواصلنا معهم من موظفين لبنانيين في “الحرّة” في دبي وفرجينيا وبيروت، أنّ أحدًا من المؤسّسة لم يجب عن أسئلتهم المتعلّقة بمستحقاتهم وإجازاتهم السنويّة، والتي أرسلها البعض من بريده الإلكتروني الشخصي لأنّ المؤسّسة قد أوقفت بريد الموظفين الخاص بالعمل بعد ساعات قليلة من وصول رسالة الاستغناء عن الخدمات، والتي ورد فيها أنّ القرار “ساري المفعول بشكل فوري”.

وتقدّمت شبكة الشرق الأوسط للإرسال بدعوى قضائية فيدرالية ضدّ الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، وأصدر الأسبوع الماضي قاضٍ فيدرالي في المحكمة الإقليمية لمقاطعة كولومبيا حكمًا يُلزم الوكالة بصرف الأموال التي خصّصها الكونغرس للشبكة. وطالب القرار القضائي الأوّلي، الوكالة بـ “إعادة منح التمويل للسنة المالية 2025” بما يضمن “قدرة هذه الوسائل الإعلامية الدولية على تقديم أخبار دائمة الموثوقية والدقة والموضوعية والشمول”، إلّا أنّ كاري ليك أعلنت نيّة الوكالة استئناف القرار القضائي. وجاءت شكوى شبكة الشرق الأوسط بعد اتخاذ خطوات قانونية مشابهة من قبل “راديو أوروبا الحرة” و”راديو آسيا الحرة”. 

ويوضح المدير التنفيذي جيفري غدمن في مقابلة مع “المفكرة” تعليقًا على القرار القضائي إنّ “الأولوية عند حصولنا على المال ستكون تقديم مكافأة نهاية الخدمة. لا أعرف كم سيعطوننا. لذا لا أعرف بالتفصيل ما الذي سنتمكّن من تقديمه”.

ويؤكد أنّ الشبكة تبذل قصارى جهدها للحفاظ على نشاط محدود لقناة “الحرّة” ومنصّاتها، وإنّ هناك 500 موظف تمّ الاستغناء عن خدماتهم بشكل عام ما يُشكّل حوالي 92% من الموظفين، بينهم 57 لبنانيًا، 18 في لبنان و39 موظفًا في الخارج (15 في دبي و24 في الولايات المتحدة).

“فصلنا ونحن على رأس عملنا”

“يوم السبت، في 12 من الشهر الماضي وصلني إيميل ليس حتّى باسمي، وصل نفسه إلى حوالي 500 موظف، وبعدها بأقل من ساعة خرجت إيميلات العمل الخاصة بنا عن الخدمة، هكذا قرّروا إنهاء خدماتنا” تقول إحدى الموظفات في مكتب بيروت والتي عملت مع “الحرّة” لأكثر من عشر سنوات. تروي هذه الموظفة التي فضّلت عدم ذكر اسمها أنّ الإدارة في فيرجينيا كانت اتخذت بعض الإجراءات التقشفيّة في مكاتب بيروت منذ الأشهر الأخيرة في العام الماضي. فقد أقفلت مكاتبها وطلبت من الموظفين العمل من المنزل بعد أن وزّعت عليهم بعض المعدّات الأساسية وشحن الجزء الآخر إلى دبي، وقلّصت العمل الميداني. “لم يخبروننا حينها أنّنا متجهون إلى إقفال أو تسريح هذا العدد من الموظفين، حتّى أنّ عدم السماح لنا بالعمل من الميدان كان بحجّة الحفاظ على سلامتنا خلال الحرب، ربما كانوا يدفعوننا إلى الاستقالة، كيف يمكن أن نغطّي حربًا من المكاتب؟”. 

تُخبرنا هذه الموظفة كما آخرون تواصلنا معهم من مكتب بيروت أنّه بعد رسالة فصلهم عادت الإدارة وتواصلت مع عدد من الأشخاص (بحدود 3 موظفين) ووعدتهم بعقود عمل جديدة لم يعرفوا شكلها حتّى اللحظة. كما يُشير الموظفون إلى أنّهم أرسلوا من إيميلاتهم الخاصة إلى المعنيين والدائرة القانونيّة أسئلة عن حقوقهم ومستحقاتهم (إجازاتهم السنويّة المتراكمة، فترة الإنذار، تعويض بدل الصرف..) ولم تأتهم أيّ إجابة. “لا أحد يتحدّث معنا، ولكن قبل رسالة إنهاء الخدمات بأيام وفي اجتماع عام سألنا عن مستحقاتنا في حال التسريح، جاءتنا الإجابة من محامية الشركة بأنّه لا تعويضات بسبب عدم وجود المال” يقول موظف آخر فضّل أيضًا عدم ذكر اسمه. 

ويخبرنا هذا الموظّف بأنّه يشعر وكأنّه يتعرّض “لعمليّة احتيال” وأنّ الإدارة تحاول أن تظهر الموضوع وكأنّه مالي ومتعلّق بإجراءات الرئيس الأميركي “في حين أنّ هناك إداريين برواتب عالية جدًا لم يتم تسريحهم، وهناك إداريين بالإنابة تمّ تثبيتهم، وهناك موظفون تمّت ترقيتهم، فضلًا عن التواصل مع أشخاص آخرين ليعرضوا عليهم عقودًا جديدة، لا توجد شفافيّة في التعاطي”.

كما في مكتب بيروت يتحدّث الموظفون في مكتب دبي عن فصل من العمل بلا سابق إنذار إذ يقول أحد المسؤولين في مكتب دبي: “بلحظة، توقفت حساباتنا عن العمل، سحبت الصلاحيات بلمح البصر، ونحن على رأس عملنا وأثناء الدوام، بعد ساعات يصل إيميل من الرئيس التنفيذي وليس حتّى من الموارد البشريّة، بأنه تم الاستغناء عنا، رسالة طويلة منمّقة موحّدة للجميع، من دون ذكر أي شيء عن حقوقنا”، معتبرًا أنّ المؤسسة “فضلت إيقاف الموظفين قبل تراكم الحقوق المالية طالما أنّ الدعوى المقامة في وجه الإدارة الأميركية لا تبشر بالخير”. ويقول: “نحن خسرنا عملنا ولن ننال إلّا راتب أيام قليلة، أما التعويضات كتعويض نهاية الخدمة، تعويض شهر الإنذار، بدل الإجازات فلا يوجد طريقة لنيله لعدم وجود التمويل حتى الساعة، علمًا أنّ القضاء الأميركي حكم بصرف التمويل”.

ومن مكتب فيرجينيا يقول موظف لبناني آخر تمّ فصله أنّه بعد تخفيض ميزانيّة شبكة الشرق الأوسط للإرسال وتسريح 160 موظفًا في أيلول الماضي أُبلغوا أنهم سيستمرّون مع تخفيض 20% من الميزانيّة، “لنُفاجأ الشهر الماضي بتسريح 95% من الموظفين”. ويتساءل هذا الموظّف عن سبب التسريح قبل حتّى صدور الحكم القضائي “لماذا لم يبقونا في إجازة غير مدفوعة كما كان حاصلًا قبل فترة أسبوعين من رسالة الصرف، ثمّ إنّ الميزانية موضوع القضية على أساس 600 موظف وبعد تسريحنا على أي أساس سيحكم القاضي. هناك علامات استفهام”، مشدّدًا على أنّ التسريح غير قانوني ولم تسبقه حتّى فترة الإنذار التي تُحدّد بستين يومًا. واعتبر هذا الموظّف أنّ من أبقتهم الشبكة من موظفين ليسوا من يشغّلون المحطّة، وكان بإمكانها إعطاء الموظفين إجازة بلا راتب بدلًا من فصلهم قبل قرار القضاء “لو كانت مصلحتهم تهمّها فعلًا” يقول. 

كما في مكاتب بيروت أخبرنا من تواصلنا معهم من لبنانيين في الولايات المتحدة أنّه تمّ التواصل مع بعض الموظفين بهدف عقود جديدة. 

تساؤلات الموظفين المفصولين نقلناها إلى غدمن الذي يبرّر اتخاذ الشبكة قرار فصل أكثر من 90% من الموظفين قبل صدور قرار المحكمة، بنفاد المال. فيشير إلى أنّه قبل أسبوع من اتخاذ القرار، أخبره الفريق القانوني بأنّ الشبكة لن تحصل على المال قبل 18 نيسان والفريق المالي اقترح الإغلاق، فقرروا اللجوء إلى ما وصفه بـ “القرار المؤلم” بتسريح 90% من الموظفين “لتوفير القليل من المال من أجل إبقاء الحرّة على قيد الحياة في نيسان وأيّار في انتظار الحكم القضائي”. 

ويوضح غدمن بأنّ الشبكة تحصل على المال من الحكومة شهريًا لسداد رواتب الموظفين وتغطية تكاليف التشغيل، وبالتالي حين تنفقه تُفلس إن لم يحوّل لها المال في الشهر التالي. ويتابع أنّه “عندما خفّضت الحكومة تمويل الشبكة فجأة وبشكل غير قانوني في 15 آذار الماضي، بعد يوم من موافقة الكونغرس على التمويل، لم يكن لدينا ما يكفي لتوفير تعويض نهاية الخدمة والمساعدة الاقتصادية لـ 500 موظف”. 

ويضيف “ها نحن في 26 نيسان لا زلنا على قيد الحياة وأمامنا أسابيع لنرى ما إذا كنا سنفوز في المحاكم ونحصل على المال”. 

ويعد غدمن الموظفين بأنّه في حال كان الحكم القضائي في النهاية لصالح الشبكة فسيقومون بدفع مستحقات المفصولين وإعادة بعض الموظفين إلى عملهم، متحدّثًا عن الإبقاء على حضور رقمي متواضع، وبث تلفزيوني يومي لحوالي 8 ساعات وإعادة بثّ بعض البرامج التلفزيونية يوميًا (evergreen programs). وذلك بهدف إشعار الجمهور بأنّ الحرّة لا تزال على قيد الحياة، ولإشعار المموّل (أي الكونغرس) بأنّ الشبكة لا تزال تلتزم باتفاقية المنحة للإنتاج الصحافي. ​​

توجّه نحو القضاء للحصول على المستحقّات

في ظلّ عدم قدرة الموظفين المفصولين على الحصول على أيّ إجابات عن مصير أيّ مستحقّات ومع وصول أخبار بالتواتر بعد رسالة الفصل، على حد تعبير أكثر من موظف، عن عدم وجود أيّ نيّة للتعويض بسبب عدم وجود المال الكافي، وجد بعض الموظفين أنفسهم مضطرين إلى اللجوء إلى الجهات الرسميّة المعنيّة بحقوق العمّال أو حتّى القضاء. 

ففي لبنان توجّه أكثر من 12 موظفًا إلى وزارة العمل خلال المهلة القانونيّة (30 يومًا من التبليغ بالفصل). “هناك أكثر من شكوى منها جماعيّ ومنها فرديّ” تقول إحدى الصحافيات مضيفة: “بعدما عرفوا أننا سنتجه إلى القضاء، صاروا يتصلوا بالموظفين كلّ على حدة، ليس مع الجميع طبعًا، نحن مسجّلون في لبنان وليس أمامنا خيار غير وزارة العمل حاليًا، ثمّ أنّنا عرفنا أنّ مكتب بيروت متخلّف عن تسديد اشتراكاتنا بالضمان منذ أربعة أشهر”. 

أمّا الموظفون المفصولون من مكتب الحرّة في دبي فقد احتكموا إلى ما يُسمّى “عمل وعمّال” حيث وجدوا تجاوبًا وتعاونًا. “تمّ توجيه رسالة للقناة تسأل عن التفاصيل بهدف إجراء تحكيم، وبعدها سنذهب إلى مرحلة التنفيذ” يقول رئيس تحرير القناة في دبي عمر حرقوص مضيفًا: “المشكلة ستكون في مرحلة التنفيذ، لأنّ الإدارة لا تملك مالًا في حساباتها المصرفية في دبي، وحتّى لو كان الحكم لصالحنا فلا شيء يضمن حصولنا على مستحقاتنا”.

أمّا اللبنانيون المفصولون من مكتب الحرّة في الولايات المتّحدة، فلا يزالون يتباحثون مع محامين مختصين ويدرسون سبل اللجوء إلى القضاء أو الجهات المعنيّة.

وفي هذا الإطار يُشير المحامي في “المفكرة القانونيّة” كريم نمّور إلى أنّ حقوق الموظفين المفصولين ترتبط بقوانين البلد المسجّلة عقودهم فيها. وفي ظلّ تخوّف الموظفين في لبنان من اعتبار قرار ترامب قطع الأموال “قوّة قاهرة” وبالتالي نزع صفة الصرف التعسفي عنهم، يوضح نمّور أنّ اعتماد “القوّة القاهرة” ليس بهذه البساطة في القانون، إذ إنّ الفقرة “واو” من المادة 50 من قانون العمل والتي أعطت لصاحب العمل الحقّ في إنهاء بعض أو كل عقود العمل الجارية في المؤسسة إذا اقتضت قوّة قاهرة أو ظروف اقتصادية أو فنية هذا الإنهاء، اشترطت أيضًاعلى صاحب العمل أن يُبلغ وزارة العمل رغبته في إنهاء تلك العقود قبل شهر من تنفيذها، فضلًا عن اشتراطها التشاور مع الوزارة لوضع برنامج نهائي لذلك الإنهاء، يراعي أقدمية العمّال في المؤسّسة واختصاصهم وأعمارهم ووضعهم العائلي والاجتماعي والوسائل اللازمة لإعادة استخدامهم.

ويُشير نمّور إلى أنّ الشروط المنصوص عليها في المادة المذكورة سابقًا هي شروط شكلية جوهرية، وهذا ما أكّدته دراسة أجرتها “للمفكرة” العام 2019 حول أحكام مجالس العمل التحكيمية في بيروت وجبل لبنان سنة 2018. وأظهرت الدراسة حينها تشديد هذه المجالس على الطابع “الجوهري” لهذه الشروط، فإعلان إفلاس صاحب العمل “لا يعفيه عن التعويض على الأجير عن فسخ عقد عمله وعن مهلة الإنذار طالما أنّه لم يتقيّد بشرط الفقرة “واو” من المادة 50.

ويؤكّد نمّور أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بإبلاغ وزارة العمل والتشاور معها، إذ إنّه في المضمون يُعطي القانون دورًا لوزارة العمل التي يقع على عاتقها التأكّد والتصديق على الرواية القانونية لصاحب العمل (الإفلاس) مانعة إياه من استغلال قوّته للانفراد في القرار. 

ولم يُبلّغ مكتب الحرّة في بيروت، حسب ما كرّر الموظفون، وزارة العمل.

عند سؤالنا غدمن عن موقفه عمّا ستواجهه الشبكة من قضايا قضائيّة، يجيب بأنّه يعلم بأنّه سيواجه العديد من المشاكل القضائيّة قائلًا: “نحن متأخرون عن دفع الإيجار، ومتأخرون في دفع مستحقات، سنواجه العديد من المشاكل القانونية. وعندما يتوفر لدينا المال، يمكننا البدء في الدفع للموظفين المفصولين، ودفع رواتب المحامين، ودفع تكاليف المحاكم. إنها حقيقة مريرة”. 

العودة المريرة إلى لبنان   

يواجه اللبنانيون الذين تمّ فصلهم من مكتب دبي في “الحرّة” مشكلة أساسيّة تتعلّق بإمكانيّة بقائهم في دبي وعدم اضطرارهم للعودة على عجل إلى لبنان وإن كانت “الحرّة” حسب حرقوص “لا تستطيع إلغاء إقامتهم طالما لم يوقّعوا على براءة ذمّة”. ويوضح حرقوص في اتصال مع “المفكرة” أنّ السؤال اليوم هو حول تأمين مصاريف المعيشة، بعد الفصل، من بينها دفع الإيجارات وأقساط المدارس والاستحقاقات المصرفية. ومن يجد عملًا في الوقت الحالي يحتاج إلى إجراء عملية نقل كفالة وهي تتطلّب أيضًا براءة ذمّة من الكفيل الأوّل.

ويؤكد أحد المسؤولين في مكتب دبي بأنّ هناك عشرات الموظفين المفصولين معرّضون حاليًا لاحتمال فقدان إقامتهم في الإمارات وهم سيواجهون مشاكل تتعلّق بالتزامات مصرفية وبدل سكن “نحن عاجزون عن إيجاد أي حل سريع في ظل عدم وجود كفاية مالية لدى الشركة” يقول.

أزمة مشابهة يواجهها الذين تمّ فصلهم من مكاتب الحرّة في فرجينيا ولاسيّما من لم ينته بعد من إجراءات الحصول على بطاقة الإقامة الدائمة Green Card، أو من لم يتمكّن بعد ولأسباب إداريّة تتعلّق بالخارجيّة الأميركيّة، التقديم عليها. وسيكون على هؤلاء ترك البلاد خلال 30 يومًا مع إمكانية استفادة اللبنانيين من المغادرة القسرية المؤجلة (DED) التي تسمح لهم بالبقاء حتى 25 كانون الثاني 2026 أو حالة الحماية المؤقتة (TPS) التي تسمح لهم بالبقاء حتّى 27 أيار 2026. ولكن السؤال وحسب أحد الصحافيين المفصولين والذي يتحضّر للعودة إلى لبنان خلال شهر (من تاريخ الفصل) عن الإمكانيات المتاحة لتأمين مستلزمات العيش كاستئجار منزل مثلًا. فالإجراءان المذكوران ( TPS و DED ) يجعلان إقامته في البلد شرعية (حتى التاريخ المذكور أعلاه) ويخولانه إمكانيّة البحث عن عمل مؤقت ولكن أيّ عمل يمكن أن يجده لفترة محدودة يؤمّن احتياجاته واحتياجات أسرته. يقول أحد الموظفين والذي سيعود وعائلته إلى لبنان على عجل قريبًا إنّه “الأفضل أن أضع حدًا للخسائر وأعود إلى بلدي، لو كنت حاصلًا على الغرين كارد كنت صبرت سنتين لأنني سأحصل على الجنسية بعدها، أمّا بقائي مؤقتًا فيعني المزيد من الخسائر والانقطاع عن العمل في مجالي ما يجعل حصولي على عمل لاحقًا في المجال في لبنان أصعب”.

صحافية لبنانية أخرى تواصلت معها “المفكرة”، انتقلت للعيش وعائلتها في الولايات المتحدة بعد توظيفها في قناة “الحرّة” قبل أكثر من سنتين عن طريق ما يُسمى exchange visitor visa تجدّد بشكل دوري طالما هي موظفة في “الحرة”. لم تتمكن هذه الموظفة التي فضّلت أيضًا عدم ذكر اسمها من التقديم على طلب الغرين كارد “على الرغم من أنّ الحرة أمّنت كلّ الأوراق المطلوبة ولكن هناك تأخير من الخارجية الأميركية لأسباب إدارية” تقول في اتصال مع “المفكرة” مضيفة: “وحاليًا بعد إلغاء عقدي مع الحرّة سيكون أمامي 30 يومًا لترك البلد، أنا عائدة إلى لبنان”.

وفي ما خصّ هؤلاء الموظفين تحديدًا، يشير غدمن في حديثه مع “المفكرة” إلى أنّ قسم الموارد البشرية يعمل بجدّ لإيجاد مخارج لإقامة شرعيّة لمن ليس لديهم بطاقة خضراء ولكنّ الأمر صعب جدًا على حد تعبيره. أولًا، لأنّ القوانين في الولايات المتحدة صارمة جدًا في هذا الخصوص وثانيًا، لأنّ إدارة ترامب لا تُقدّم أي تسهيلات في ما يتعلّق بالموظفين والطلاب الأجانب والتأشيرات الدولية. ويقول: “نحن نحاول، إن الأمر يعتمد على كل حالة بذاتها، ومن بين ما نقوم به هو العمل مع مسؤولي الهجرة في وزارة الخارجية في هذا الصدد، ونحرص على إعطاء كتب التوصية لنضمن لمن يستطيع البقاء الحصول على دعمنا وتزكية جودة ونزاهة عمله”.

يأتي حديث غدمن في وقت يشير أكثر من موظف في فيرجينيا إلى أنّهم يتحضّرون للعودة إلى لبنان ولاسيَما بعدما أرسلوا طلبًا لإعادة النظر في وضع حاملي التأشيرة ولم يأتهم أي رد. ويُشير أحد الموظفين المفصولين إلى أنّ ما وصلهم كان قبل رسالة الاستغناء من محامية الشركة، إذ أرسلت لهم، وهذا روتيني، الخيارات القانونية المتاحة لحاملي الفيزا.  

ضيق الخيارات وسوق العمل اللبناني 

أنا في الرابعة والأربعين من العمر، عملت في هذه القناة لأكثر من 10 سنوات، تطوّرت داخلها، وراكمت خبرة، لن يكون أبدًا من السهل تأمين عمل في المجال حاليًا يؤمّن لي راتبًا يتناسب مع خبرتي، هذه معضلة أساسيّة” يقول أحد الموظفين المفصولين لـ “المفكرة” طارحًا سؤالًا أساسيَّا عن سوق العمل في لبنان في مجال الصحافة. هذا السوق غير القادر على استيعاب أعداد جديدة من الإعلاميين وبالكاد يحتفظ بمن بقي فيه حسب ما يرى المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير أيمن مهنّا. ويُشير مهنّا في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ المؤسّسات العربية، سواء التي لها مكاتب في بيروت أو التي توظف إعلاميين لبنانيين في الخليج أو في أوروبا، لطالما شكّلت متنفّسًا مهمًّا، لكن حتى هذه المؤسسات بدأت تتّجه نحو تقليص كوادرها أو إعادة هيكلة أعمالها. 

ويُشير إلى صعوبات قد يواجهها الصحافيون الذين يتمّ الاستغناء عن خدماتهم ولاسيّما من كانت له خبرة كبيرة، في إيجاد عمل في لبنان، بسبب عوامل عدّة مترابطة. منها محدوديّة عدد الوظائف في السوق والتي غالبًا ما تكون مرتبطة بشبكات علاقات سياسية أو شخصية. ومنها أنّ الإعلام في لبنان لا يقوم على نظام تعاقد مهني واضح يضمن تنقّل الإعلامي بين المؤسسات بشكل طبيعي. هذا فضلًا عن أنّ الإعلامي الذي يطوّر مهاراته في مؤسسة معينة قد يجد نفسه مرتبطًا بأسلوبها التحريري أو توجّهها السياسي، ما يجعل انتقاله إلى مؤسسة مختلفة في التوجه أمرًا صعبًا. وفي بعض الحالات، يكون الانتماء المهني قد طبع صورته في السوق، إيجابًا أو سلبًا، ما يحدّ من خياراته. وهذا ما عبّر عنه أيضًا عدد من الموظفين الذين تواصلنا معهم بالإضافة إلى موضوع “تسييس الإعلام ووصم العاملين في مؤسسات معيّنة”.

يعتبر مهنّا أنّ التسييس هو أحد أبرز معوّقات تطوّر الإعلام في لبنان، فالانتماء السياسي للمؤسسة قد يمنح الصحافي فرصًا سريعة في البداية، لكنه يقيّده لاحقًا. فالإعلامي الذي يُعرف بانتمائه لفريق معين يُستبعَد تلقائيًا من مؤسسات محسوبة على الطرف الآخر، حتى ولو كان يتمتّع بكفاءة عالية. ويوضح أنّ هذا الواقع لا يخلق فقط سوقًا منقسمًا ومشلولًا، بل يُفرغ الإعلام من دوره المهني، ويُحوّله إلى أداة في النزاعات السياسية، ما يضعف ثقة الجمهور ويضيّق آفاق المهنة. 

وبدوره يتحدّث عمر حرقوص عن وجود هامش واسع في “الحرة” لمتابعة مختلف المواضيع والقضايا، معتبرًا أنّه كصحافي يهمّه أن تبقى “الحرّة” ويبقى فيها كمؤسّسة كانت تطرح الملفات الممنوعة عن النقاش عربيًا، قائلًا: “كنا نفتح كل الملفات، نحكي بحريّة عن الأيزيديين والبهائيين، ونروي قصص السوريين الذين قتلهم نظام الأسد وسلسلة حلفائه، وبعدهم أهل الساحل الذين قتلهم أبو دجانة وحلفاؤه، الحرّة كانت تطرح كلّ القضايا كلّها من دون استثناء”. 

أمّا في ما خصّ الإجراءات الأخيرة للرئيس الأميركي وقرار وقف أو تعليق التمويل الحكومي لمجموعة من المنظمات الإعلامية، فيرى مهنّا أنّها قد لا تطال الإعلام اللبناني التقليدي بل المبادرات الإعلامية المستقلّة وتؤثر على بيئة العمل ككل، قائلًا: “لبنان جزء من مشهد أوسع في المنطقة حيث يُنظر للتمويل الأجنبي بريبة متزايدة، وأي قرار من هذا النوع يعمّق أزمة الثقة مع الجمهور. لذا، نعم، قد تكون هناك انعكاسات، حتى ولو غير مباشرة، سواء من خلال تقليص فرص الدعم أو تشديد الشروط المرتبطة به”.

وليس بعيدًا يرى غدمن أنّ ما يقوم به ترامب يوصل الرسالة الخاطئة عن قيمة الإعلام المستقل الذي يُعتبر أوكسجين المجتمع المدني، مشيرًا إلى أنّ التقليل من شأن الصوت الأميركي ومهاجمة أي جزء من هذا الفضاء الإعلامي المستقل بشكل مباشر أو غير مباشر أمر غير صحي في جوهره لأنّه يُسيء للديمقراطية الليبرالية، والتعددية السياسية. ويختم: “المجموعة التي تتولى إدارة الولايات المتحدة حاليًا، لا تُحبّذ الإعلام المستقل والديمقراطية الليبرالية، ولكن في الوقت نفسه، لا بد من وجود ديمقراطية لمجتمع مدني نابض بالحياة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، لبنان ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني