تَشهد تونس منذ أول شهر جانفي 2025 عودة مُلفتة للحركات الاحتجاجيّة المطالبة بالانتداب في الوظائف العامة وإلغاء أشكال التشغيل الهش. ويُشارك في أغلب هذه التحرّكات أصحاب شهادات جامعية تم انتدابهم في قطاعات عمومية وفقا لصيغ تشغيل هشّة. وقد ساهَمَت هذه التحركات في خلق ديناميّة احتجاجيّة قطَعَت مع حالة التراجع التي شهدهَا الاحتجاج الاجتماعي منذ استحواذ الرئيس سعيد على كل السلطات في 25 جويلية 2021. وحسب إحصائيات نشرَهَا مؤخرا المرصد الاجتماعي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن وتيرة التحركات الاحتجاجية لشهر جانفي 2025 ارتفعت بنسبة تقدر بحوالي 181 بالمائة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2024 (386 تحركا احتجاجيا في جانفي 2025 مقابل 137 تحركا في جانفي 2024).
وتُشيِر الملاحظات الأولية لخطاب الفاعلين في هذه الحركات، إلى أن الأمر الرئاسي المؤرخ في 8 جانفي 2025 والمتعلق بإدماج المعلمين والأساتذة النواب في المعاهد والمدارس، كان له دور في تحفيز بقية الفئات العاملة في القطاع العمومي تحت صيغ انتداب هشّة، من أجل المطالبة بتسوية أوضاعها الشغلية. ولذلك يُراهن الخطاب الاحتجاجي لهذه الفئات على دور مرتقب لرئيس الجمهورية في إصدار مراسيم أو أوامر انتداب جديدة مُشابِهَة للأمر المذكور. كما يُحاول هذا الخطاب تَوجيه الاتهامات لبقية المؤسسات السياسية (أساسا الحكومة والبرلمان) مُحمّلاً إياها مسؤولية الحفاظ على أشكال التشغيل الهش، رغم الدور الثانوي الذي تَلعبه هذه المؤسسات مقارنة باستحواذ رئاسة الجمهورية على سلطة رسم السياسات العمومية. إضافة إلى أن معظم الفاعلين في هذه الحركات يحرِصون على إظهار التمايز عن الحركات الاحتجاجية والنقابية الأخرى، بخاصة تلك التي تَحمل خِطابًا سياسيا واضحا في معارضته لسُلطة 25 جويلية.
إن عودة الحراك الاحتجاجي بهذا الزّخَم وهذه الصيغة الخطابية والسياسية التي تضع كل آمالها على رئاسة الجمهورية، يُعيد من جديد التساؤل حول العلاقة القائمة بين النظام السياسيّ الجديد والحركات الاحتجاجية الاجتماعية، ودور هذه الحركات في تشكيل الحياة السياسية في تونس، في ظلّ ما يشهده الوضع العام من ركود اقتصادي وانتهاكات مستمرة ضد مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين.
انحسار الحركات الاحتجاجية في سياق سلطوي يتقمّص خطابًا اجتماعيًا
إن العودة المكثّفة للحركات المطلبية المتعلقة أساسا بإلغاء أشكال التشغيل الهش، والتي يتمركز معظمها وسط العاصمة وتحديدا بالقرب من ساحة الحكومة في القصبة، لا يجب أن تَحجب واقع الانحسار الذي يعيشه الحراك الاحتجاجي الاجتماعي منذ أكثر من ثلاث سنوات. مُنذ 25 جويلية 2021 شَهدَ نسق الحركات الاحتجاجية في تونس تراجعا ملحوظا؛ ففي عام 2021، وبخاصة خلال فترة رئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي، رصَد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية[1] 12025 تحركا احتجاجيا مقابل 8586 تحركا في سنة 2022، و3432 تحركا في سنة 2023، وحوالي 2834 حركة احتجاجية في سنة 2024. مع الملاحظة أن أغلب الحركات لم تتمحوَر في مناطق الاحتجاج التقليدية (مثل الحوض المنجمي – القصرين- سيدي بوزيد- القيروان)، حيث تمركَزَت أغلب التحركات في تونس العاصمة، فمثلا نجد نسبة 22% من الحركات في تونس العاصمة سنة 2021، و23% في سنة 2023، وتقريبا 25% من التحركات في عام 2024 تمركزت أيضا في تونس الكبرى.
تُشير هذه البيانات الكميّة إلى أن التراجع مرتبط بالسياق السياسي الجديد الذي فرضته مرحلة ما بعد 25 جويلية، والتي سعت خلالها سلطة الرئيس سعيّد إلى إفراغ الحراك الاجتماعي من محتواه التنازعي مع السلطة القائمة، من خلال تبني نفس شعارات الحراك المنادية بالعدالة الاجتماعية والتشغيل والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وتوجيه العِدَاء نحو كل السلطات السابقة التي حكمت تونس، من دون الخوض في حلول مستقبلية. بالإضافة إلى هذا، سعى النظام السياسي الجديد إلى احتواء قادة الحراك الاجتماعي والمؤثرين فيه، خصوصا في المناطق الداخليّة، من خلال تعيين البعض منهم في مناصب الولاة والمعتمدين ومستشارين في بعض الوزارات. ثم تراجعت السلطة لتعزل البعض منهم خلال النصف الأخير من السنة الفائتة، على غرار والي سيدي بوزيد ووالي بنزرت.
كما أن تراجع البُعد المَناطِقي في الحراك، بخاصة في مناطق الاحتجاج التقليدية المشار إليها سابقا، وتَمَركز معظمه في تونس العاصمة، يمكن تفسيره بالدّور الذي لعبه الخطاب الرسمي في إظهار الاهتمام بالشأن المحلي وتحويله إلى عنصر قار في إنشاء المؤسسات السياسية الجديدة (البرلمان، مجلس الجهات والأقاليم) إضافة إلى النزعة المحلّوية التي هيمنت على النصوص الانتخابية الجديدة. وقد ساهمَ هذا الخطاب في امتصاص موجة الغضب المحلي التي شهدتها السنوات الأخيرة. لكن هذه الاستراتيجية تكشف عن قدر كبير من التمويه السياسي، لأن السلطة السياسة باتت مُمَركزة أكثر من أي وقت مضى في شخص رئيس الجمهورية، مقابل دور صوري وهش مُسند لبقية مؤسسات النظام السياسي. ونحن الآن لسنا بصدد حياة سياسية تنفتح نحو العنصر المحلي وتُعيد إدماجه ضمن القضايا الوطنية الكبرى، وإنما إزاء انغلاق أكثر حول سلطة مشخصَنة أكثر يُجسّدها رئيس الجمهورية. ولذلك تراهن الحركات المطلبية الأخيرة (المتعلقة أساسا بالحق في التشغيل وإلغاء أشكال العمل الهش) على الدور المركزي لرئيس الجمهورية في خلق وظائف عامة من خلال استخدام سلطة الأوامر، بشكل يتناقض مع السياسات العمومية والمالية للدولة التي تُهيكلها فكرة التقشف. وقد عَبّرَ البيان الأخير للدكاترة الباحثين المقصيين عن العمل عن هذه النزعة، حيث أشار البيان إلى أن الوقفة الاحتجاجية للدكاترة تأتي في إطار “تثمين الإرادة السياسية لرئيس الجمهورية في تبني مقاربة عادلة ونهائية لهذا الملف وتحقيقا للعدالة الاجتماعية”.
تعزيز الرصيد القانوني المُجرِّم للحراك الاجتماعي بعد 25 جويلية
يُشير تقرير داخلي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية[2] إلى أن النيابة العمومية اعتمدت نصوصا إضافية لتجريم الحراك الاجتماعي وضرب حريات التعبير والتظاهر، من أبرزها الفصل 67 من المجلة الجزائية المتعلق بتهمة “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة”. والفصل 72 من المجلة الجزائية الذي ينص على أنه “يُعاقب بالإعدام مرتكب الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حَمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي”.
بالإضافة إلى هذا، لَعبَ المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة الاتصالات والمعلومات دورا كبيرا في تجريم الحراك الاجتماعي وكل حركات المعارضة والرفض في تونس، وبخاصة فصله الـ24، الذي يحمل نَفسًا عِقابيًا شديدا من خلال الاتكاء على صيغ اتهامية فضفاضة، حيث جاء فيه: “يُعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بثّ الرعب بين السكان”.
ويُذكر أنّ السلطة السياسية استخدمت الفصل 24 من المرسوم 54 ضدّ بعض الصحفيين والمحامين والنشطاء السياسيين. لكن في مطلع سنة 2023 أصبح هذا المرسوم النص القانوني المفضل لدى السلطة السياسية للتشفي من كل الأصوات المعارضة، بما في ذلك الفاعلين في الحركات الاجتماعية والحركة النقابية. ولم تجد الدعوات الرامية إلى تعديل المرسوم 54 -من داخل البرلمان وخارجه- أي تجاوب يُذكر، بخاصة في ظل إصرار رئيس الجمهورية على التمسك بهذا المرسوم، وخصوصا فصله الـ24. ويُعتبر هذا المرسوم امتدادًا لسلطة الأمر الواقع التي فرضها الرئيس سعيد منذ 25 جويلية 2021، من خلال إصدار الأوامر والمراسيم الأحادية، حيث أصدر في العام 2022 “ما لا يقل عن 81 مرسوما و104 أمرا رئاسيا، بلا أي فحص أو مراقبة خارجة عن شخصه. وواظب على تبرير هذه الإجراءات بـ”الخطر الداهم” و “اختراق مؤسسات الدولة” ملغيا بشكل ممنهج توازن السلط”.[3] وذلك في سياق سلّط فيه السلطة السياسية هيمنتها على القضاء، مصرة على التمسّك بالمقاربة السلطوية الأحادية.
يُلاحظ أن النصوص العقابية المعتمدة بعد 25 جويلية متمركزة حول “المسّ” من مكانة السلطة السياسية و”هيبتها”، سواء داخل الفضاء العام أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك لخلق هَالة مخيفة من حولها، مما دفع إلى تراجع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية وكل حركات التنديد والرفض. وبحجة “التآمر على أمن الدولة” تستطيع السلطة السياسية اليوم قمع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية.
محاكمة قادة الحركات الاجتماعية والمتضامنين معهم
تشهد تونس منذ مدة اعتقالات ومحاكمات وتتبعات جزائيّة وأمنية لعدد من الفاعلات والفاعلين في الحراك الاجتماعي، خصوصا حركات الهجرة والبيئة والحركات المطالبة بتحسين شروط العيش والعمل. وتشمل هذه الانتهاكات ناشطات ونشطاء حقوق الإنسان، خصوصا العاملين في مجال التضامن ومساعدة المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء. ومن المنتظر أن يُحاكم العديد منهم في المدة القليلة القادمة بتهمة “مساعدة مهاجرين غير نظاميين”.
مؤخرا أصدرت محكمة تونسية حكما بالسجن ثلاثة أشهر مع تأجيل التنفيذ ضد الباحث والناشط الاجتماعي علي كنيس، على خلفية تأثيره ومشاركته في حراك جرجيس 18-18. ويُذكر في هذا السياق أن مدينة جرجيس عاشَت، في سبتمبر 2022، على وقع حركة احتجاجية اتّسمت بطول نفسها (سبتمبر 2022- فيفري 2023) وقد تعرّضَت هذه الحركة، بخاصة خلال القمة الفرنكوفونية التي انعقدت في جربة في نوفمبر 2022، إلى قمع بوليسي طال المتظاهرين..
في هذا السياق يُوضح علي كنيس، للمفكرة القانونية: “بعد سنتين من الحركة والنضال، صدرت في حقنا أحكام. وحاليا يتم محاكمتنا أيضا على خلفية المرسوم 54، وذلك بتكليف من النيابة العمومية، وتأتي هذه المحاكمة بهدف العقاب والانتقام من الحركات الاجتماعية وبغاية التخلي عن مطالبنا المشروعة”.
منذ عام 2018، وفي منطقة الحمران من معتمدية عين دراهم (ولاية جندوية)، انتفضَ المواطنون المحليون ضدّ التلوث والأضرار الصحيّة الناتجة عن مبنى تربية الدواجن العشوائي مطالبين ببيئة سليمة والتزام المبنى بالشروط الفنية والصحية وربط المنطقة بشبكة توزيع المياه. ولكن السلطات قبل 25 جويلية 2021 وبعدها لم تتخذ أي إجراء يحترم تطبيق كراس الشروط المتعلقة بالمبنى، بل عَملَت سلطة 25 جويلية 2021 على تجريم الحركة الاحتجاجية، حيث تعرضت الناشطة البيئية مريم بكّار إلى الملاحقة القضائية، وذلك من خلال استنطاقها على خلفية الفصل 24 للمرسوم 54 بتهمة “تشويه سمعة وبث إشاعات مغلوطة”.
وفي سياق الحركات البيئية المرتبطة بالمياه، تَعرّضَ نشطاء في جمعية نوماد 08، التي أسّست المرصد التونسي للمياه، إلى المساءلة الأمنية. حيث قام، يوم 11 جوان 2024، ثلاثة أعضاء من فريق المرصد التونسي للمياه بزيارة تضامنية إلى منطقة حمام بورقيبة (ولاية جندوبة شمال غرب تونس). وذلك تزامنا مع مظاهرة نظّمتها نساء الجهة احتجاجا على عدم ربط المنطقة بقنوات المياه. وأثناء المظاهرة وتوثيق الحدث تَعرّضَ الفريق طيلة اليوم تقريبا إلى الهرسلة والاستجوابات الأمنية بمركز الحرس الوطني بحمام بورقيبة ومنطقة الأمن بطبرقة إلى أن تمّ إطلاق سراحهم. في هذا السياق، صرّح أحمد الطبابي، رئيس جمعية نوماد 08، للمفكرة القانونية: “في الحقيقة، تعرضنا في فترات سابقة إلى بعض الإجراءات الأمنية أثناء تضامننا مع حركات الاحتجاج، ولكن هذه المرّة استغربنا خاصة من حيث طول الإجراءات وتعسفها. لذلك نعتبر أنّ هذه الممارسة سابقة خطيرة في حقّ النشطاء، حيث تندرج ضمن الأهداف الرامية لعزل الحركات البيئية والاجتماعية وحرمانها من التضامن”.
تعَرّضت أيضا عاملات وعمال شركة ريتون للأحذية بالسبيخة من ولاية القيروان إلى ملاحقات وإيقافات في خريف 2024. وبسبب هذا الملفّ تم أيضا اعتقال جمال الشريف، الكاتب العام للاتحاد المحلي للشغل بالسبيخة، الذي صَرّحَ للمفكرة القانونية قائلا: “لقد كان موقف السلطة السياسية أثناء تحرك العاملات منحازا للأعراف وضدّ العاملات والنقابيين..فقد تخلّت السلطة عن تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكنّها سجّلت حضورها من خلال آلتها القمعية”.
وبنفس المثال الذي يَنتصر للاستثمار الخاص مُقابل قمع الحركات الاحتجاجية، امتثلَ يوم 13 جوان 2024 بعض الفلاحين من منطقة البحيرين من معتمدية برقو (ولاية سليانة شمال غرب تونس)، بما فيهم فلاَّحيْن اثنيْن تجاوز عمرهما 75 سنة، أمام محكمة الاستئناف بسليانة، وذلك على خلفية احتجاجهم ضدّ رخصة تنقيب مياه كان قد تحصّلَ عليها مستثمر بغرض إنشاء وحدة لتعليب المياه في سنة 2023، وذلك في سياق تعيش فيه المنطقة تحت وطأة ندرة المياه وانقطاعاتها المتكررة.
ومن المنتظر أن تعود ذروة الحركات الاحتجاجية المطالبة بالحق في النفاذ إلى المياه مع خروج فصل الشتاء، وإلى حد الآن لم تُظهر السلطة قدرة على الدفع ببرامج ومخططات تواجه ندرة المياه وسوء استخدامها، وتأثير التحولات المناخية والتلوث على السكان، بخاصّة في المناطق الداخلية. وإلى حد الآن تُحاول السلطة السياسية احتواء حركات المعطلين عن العمل، نظرا لرمزيّتها وقوة ضغطها، من خلال إطلاق شعار “القضاء على أشكال التشغيل الهش”، من دون القدرة إلى تحويل هذا الشعار إلى سياسة عامة مرتبطة ببقية قطاعات الاقتصاد والمجتمع.
[1] معلومات تحصلت عليها المفكرة القانونية عن طريق رمضان بن عمر الناطق الرسمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
[2] تقرير حول الأسس القانونية لتجريم الحراك الاحتجاجي في تونس تم عرضه في إطار الجامعة الصيفية للحركات الاجتماعية والمواطنية دورة “فاتي” و”ماري” أيام 29 و30 نوفمبر 2023
[3] عفاف زروق، التضييق القانوني على الحقوق والحريات وتصاعد وتيرة المحاكمات بعد 25 جويلية 2021. ورقة تم تقديمها خلال الجامعة الصيفية للحركات الاجتماعية والمواطنية دورة “فاتي” و”ماري” أيام 29 و30 نوفمبر 2023.