الحرب ترفع الاكتظاظ في السجون والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان تبادر لتسهيل إخلاءات السبيل


2024-11-09    |   

الحرب ترفع الاكتظاظ في السجون والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان تبادر لتسهيل إخلاءات السبيل

في الحرب، قد يجد من يعيشون تجربة الفقد، المواساة بين أقربائهم وأصدقائهم، ولأجل ذلك يُقام العزاء، ولكن خلف القضبان الحديدية في السّجون يرخي شعور الفقد بثقله على السّجناء الذين تقتل إسرائيل أفرادًا من عائلاتهم، فيصبح العزاء غربة أكبر وسط وجوه غريبة جميعها تحتاج إلى من يواسيها. وهؤلاء حُكِمَ عليهم بالعيش في ظروف غير إنسانية مع ارتفاع نسبة الاكتظاظ في السجون من حوالي 200%[1] إلى 300%، بحسب مصدر في قوى الأمن الداخلي، بعد تفريغ سجونها في الجنوب وبعلبك مع توسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان كإجراء احترازي بدأ العمل به منذ حوالي ستة أشهر حفاظًا على حياة السجناء. يضاف إلى الاكتظاظ، اتساع المسافة بين السجناء وعائلاتهم سواء نتيجة نقلهم إلى سجون في مناطق أخرى أو نتيجة اضطرار عائلاتهم إلى النزوح، وهو ما جعل الزيارات العائلية للسجناء أصعب بسبب الاستهدافات الإسرائيلية وبالتالي أعاق وصول الحاجيات الأساسية إليهم كون هذا الأمر يقع على عاتق الأهل لعدم قدرة الدولة على تأمينها.

“باتت أكبر أحلامنا أن نشرب أو نأكل، فهذه الأمور البديهية أصبحت لمن استطاع إليها سبيلًا مع ارتفاع عددنا”، يقول سجين موقوف منذ 15 شهرًا في اتصال مع “المفكرة”. وكيف يحلم من ليس النوم خيارًا متاحًا له؟ حتى الراحة في النوم باتت مشقّة مع اعتماد مبدأ “المداورة”، حيث يشرح سجين أنّ “الغرفة التي تتّسع لخمسة أشخاص بات فيها 12 سجينًا، ومن لا يجد له مساحة للنّوم ينتظر استيقاظ أحد رفاقه ليأخذ مكانه”. أمّا كريم (اسم مستعار) الموقوف منذ سنتين ونصف السنة، يتناسى حاجتهُ للطّعام والشراب، ويصبح حلمه الوحيد أن يتلقّى أيّ خبر من عائلته ليطمئنّ عليها، بعدما نُقل من سجن النبطية إلى سجن رومية، ولم يعُد قادرًا على التواصل مع عائلته. يحاول الاتصال بهم، ولكن لا جواب، عبثًا ينتظر، وينظر إلى رفيقه من آل مطر الذي يبكي حاله وقلّة حيلته بعدما قتلت إسرائيل والده وشقيقته وأولادها، من دون أن تُتاح له الفرصة لوداعهم مرّة أخيرة، فانتهى به الأمر بأن يقيم لهم عزاءً داخلَ السّجن بالتّزامن مع عزاءَين آخرين لعوائل اثنين من رفاقه.

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان في تشرين الأوّل 2023، اتخذت قوى الأمن الداخلي إجراءات لتفريغ أماكن التوقيف التي تقع في المناطق الخطرة، وهو ما يشمل اليوم حوالي 8000 سجين وفقُا لمصدر من قوى الأمن الداخلي، في 8 من أصل 33 سجنًا ونظارة في قصور العدل، بالإضافة إلى نظارات القطع المختلفة. في المرحلة الأولى، أُفرغت كلّ السجون الموجودة في جنوب الليطاني، أي صور، وبنت جبيل، ومرجعيون، وتبنين، وتلاها في المرحلة الثانية سجن النبطية وسجن بعلبك، بالإضافة إلى مجمّع النظارات في الضاحية الجنوبية لبيروت. وقد نُقل العدد الأكبر من السجناء إلى سجن رومية، فيما توزّع الباقون بين سجن زحلة وجب جنّين (البقاع) وعاليه وجبيل (جبل لبنان) والبترون (الشمال) وغيرها. وأشار المصدر من  قوى الأمن الداخلي في اتصال مع “المفكرة” إلى أنّه “كان من الضروري معالجة المسألة الأساسية التي تتعلّق بحياة السّجناء لأنّ حمايتهم أولوية، وبالتالي أصبحت مشكلة الاكتظاظ أمرًا ثانويًا أمام سلامتهم”.

وفي خطوة تهدف إلى معالجة ارتفاع نسبة الاكتظاظ داخل السجون اللبنانية وتخفيف الأعباء عن كاهل الأهالي في ظلّ العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، باشرت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب، بالتعاون مع مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن “ديكاف”، بتنفيذ مبادرة تهدف إلى العمل على تقديم طلبات أمام مختلف المراجع القضائية في لبنان، لإخلاء سبيل الموقوفين الذين ينتظرون محاكمتهم. وقد بلغت نسبة الموقوفين من مجمل السجناء 82%، بحسب رئيس الهيئة د. فادي جرجس نقلًا عن وزير الداخلية، وتشير أرقام مديرية السجون في وزارة العدل إلى أنّ نسبة الموقوفين في سجون ونظارات قصر العدل (من دون النظارات في قطع الأمن الداخلي المختلفة) تجاوزت 61% في نهاية حزيران 2024.

إزاء ارتفاع نسبة الموقوفين، تبحث الهيئة عن شتّى السبل لضمان الحصول على قرارات إخلاء سبيل من خلال مطالبة القضاء بالالتزام بتطبيق النصّ القانوني، وبخاصّة المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنصّ على الحدّ الأقصى لمدّة التوقيف الاحتياطي للموقوفين الذين يستوفون شروطها. وهي مبادرة يواجهها العديد من التحدّيات في ظلّ الأوضاع الأمنية الراهنة.

“الواحد بيموت بالسّجن وما حدا بيعرف”

يعيش السجناء في ظلّ ظروف إنسانية قاهرة، ليس فقط بسبب الاكتظاظ، بل أيضًا جرّاء وجودهم بعيدًا عن أهاليهم في ظلّ الحرب وحركة النزوح التي نتجت عنها. تكبّلهم المسافة وتحرّرهم جملة بصوت أحد أفراد عائلتهم عبر مكالمة هاتفية “نحن بخير”. وممّا لا شكّ فيه أنّ المساجين يعتمدون على أهاليهم لتزويدهم بالطّعام والأدوية ومختلف الحاجيّات لعدم قدرة الدولة على تأمين كلّ ذلك، ولكنّ عددًا كبيرًا من أهاليهم قد نزحوا إلى أماكن بعيدة عن مكان تواجد أبنائهم وقد بات من الصّعب على بعضهم الوصول إليهم لزيارتهم.

أمام وجع أبنائهنّ داخل السّجون، تشكي الأمّهات أوجاعهنّ من مناطق النزوح. “أنا بمكان وابني وائل بمكان… ايه ابني غلّط، بس هلأ عم يدمّروه. ليه ما بيحاكموه؟”، تسأل منال صوان، والدة الموقوف في سجن رومية وائل بدوي (23 سنة)، بعدما نزحت من الضاحية الجنوبية في بيروت إلى إحدى قرى البقاع. وائل موقوف منذ أكثر من سنة ونصف السنة بتهمة محاولة السرقة، بحسب والدته، هي لا تذكر تاريخ توقيفه بالتحديد ولكنها تذكر جيّدًا أنّ ما دفعه إلى السرقة هو ضيق الحال بعد إصابة شقيقه بمرض السرطان، فكلفة العلاج المرتفعة أجبرته على إيجاد حلّ بأيّ طريقة ممكنة. ظنّت منال أنّ ابنها الذي أخطأ سيتعلّم من أخطائه داخل السّجن، “أليس من المفترض أن يتمّ تأهيل من يُخطئ؟” تسأل، وتتابع “لكنّ ذلك لم يحصل. لقد تعرّض ابني لطعنة بالسّكين بسبب خلاف مع أحد السّجناء، وبقي مدّة شهر كامل في العناية المركّزة بين الحياة والموت. هذا ليس بسجن، هذا المكان يزرع في كلّ من يدخله رغبة كبيرة بالانتقام”. وائل يحتاج إلى الطعام والدواء كما حال جميع السّجناء، ولكنّه أيضًا بحاجة إلى عناية خاصة بسبب وضعه الصحيّ.

لطالما دأبت منال على زيارة ابنها قبل توسّع الحرب “رغم المذلّة في طرق التفتيش عند دخول السّجن والتي لا تليق أبدًا بالأمّهات”. واعتادت أن تعدّ له الطعام وتحضّر له ما يلزم من مال وثياب وأغراض، أمّا الآن وبعدما نزحت إلى البقاع باتت محرومة من رؤية ابنها وتأمين احتياجاته، فالطّرقات ليست آمنة بتاتًا. “في الاتصال الأخير بيننا قلّي: يا ماما موجوع. طلب منّي أن أحضر له طعامًا ومياهًا معدنية لأنّ المياه العادية لا تناسب وضعه الصحيّ. بكيت. أمّنتلو مصاري من فترة، بس ما قادرة أعمل أكتر، كل شي غالي بالسّجن”، تقول منال. وتضيف “ما في أمّ بتتمنّى ابنها يسرق، بس الظروف كلّها غلط”. وقبل اشتداد العدوان كان من المفترض أن يحضر وائل جلسة محاكمة في بعبدا، ولكن بحسب والدته منال “لم يحضر الجلسة لعدم تمكّن القوى الأمنية من سوقه، والسبب أنّ آلياتهم فارغة من الوقود. بأيّ بلد بتصير؟”.

أمّا أمّهات الأجانب الموقوفين داخل السجون اللبنانية فيعِشن المعاناة بدورهنّ، ويسألن “متى يحين دور أبنائنا”؟ سعاد المقداد التي نزحت من الضاحية الجنوبية في بيروت إلى حلب في سوريا، تنتظر كما كثير من الأمهات معرفة مصير ابنها السوري الجنسية والموقوف منذ سنتين ونصف السنة بتهمة مخدّرات. كان من المفترض أن يحضر ابنها جلسة المحاكمة قبل أيام ولكن لم يتمّ نقله إليها بحجّة “عدم توفّر آليات”، تقول سعاد، وتشكي عدم قدرتها على مساعدة ابنها أو زيارته جرّاء الحرب. “استخدم تيليكارت من أحد أصدقائه في السّجن وتواصل معي قبل أسبوع، أخبرني عن سوء حاله، واطمأنّ على حال العائلة”، تقول سعاد وتتابع “الواحد بيموت جوّا السجن وما حدا بيعرف عنّو”.

وفي محاولة للحدّ من مآسي النزوح وانعكاساته على السّجناء وأهاليهم، أكّد مصدر في قوى الأمن الداخلي لـ “المفكرة” أنهّ سوف يتمّ العمل على آلية توزيع منظّمة للسّجناء على مختلف السجون بعدما تمّ نقلهم من سجون بعلبك والجنوب، وقال “نطلب من المساجين تزويدنا بمعلومات حول أماكن نزوح عائلاتهم لنُعيد توزيعهم تبعًا لذلك بشكل يضمن وجودهم على مسافة قريبة من عائلاتهم، وذلك من منظور التعامل مع الأمر بناءً على رؤية إنسانية، إضافة إلى تخصيص وقت أكثر للاتصالات الهاتفية بظلّ الفترة الراهنة”.

المطالبة بتطبيق المادة 108 لإخلاء سبيل الموقوفين: الآليات والتحديات

اكتظاظ السجون ليس وليد اللحظة، ولكنّ حرب إسرائيل على لبنان أعادت صرخة السّجناء إلى الواجهة، وبرزت الحاجة الملحّة للاستنفار على المستوى الحقوقيّ والإنسانيّ قبل أيّ شيء آخر. وفي سياق مبادرتها للمساهمة في التخفيف من الاكتظاظ،، قامت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان خلال فترة 6 أشهر بحوالي 228 زيارة للسّجون وأماكن الاحتجاز، لدراسة ملفات الموقوفين وتحديد من منهم يستوفون شروط إخلاء السبيل المحدّدة في المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.

وخلال زياراتها، لاحظت الهيئة الوضع “المزري” للسجناء وعدم توفّر أدنى معايير حقوق الإنسان خلال احتجازهم. “بعض الأشخاص لا زالوا موقوفين منذ ثلاث سنوات وأكثر (من دون أن يتم الحكم عليهم)، وذلك نتيجة غياب المحاكمات، والمساحات ضيّقة (في السجون) لا تتّسع للجميع، فينتهي الأمر بعدم تمكّنهم من إيجاد مساحة للنّوم، والعدد الكبير يقلّل من فرصهم في الحصول على الطعام أيضًا، أمّا الطبابة فهي غير مؤمّنة”، يقول رئيس الهيئة د. فادي جرجس في اتصال مع “المفكرة”. ويشير جرجس إلى أنّ “الدولة تتحمّل أكثر من طاقتها وهي غير قادرة على تأمين كلّ الاحتياجات، والقضاء متلكّئ في مكان ما عن القيام بدوره”. 

وانطلاقًا من الصلاحية الممنوحة للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان والتي تمكّنها من الدخول إلى السجون وأماكن الاحتجاز والوصول إلى ملفات السّجناء بحسب القانون، تواصلت مع مدعي عام التمييز ورئيس مجلس القضاء الأعلى، اللذين أعربا عن جهوزيّتهما للتعاون. فأصدر النائب العام التمييزي بالتكليف، القاضي جمال الحجار، تعميمًا في تاريخ 29/10/2024 اطّلعت عليه “المفكّرة” لاعتماد آلية لتسهيل إجراءات تقديم الموقوف طلب تخلية السبيل بهدف تفعيل تطبيق المادة 108، وذلك من خلال الإتاحة له التوقيع على الطلب في السجن مكان توقيفه، والسماح للهيئة الوطنية بأن تتولّى “استلام الطلبات من السجون وتأمين وصولها إلى المراجع القضائية الواضعة يدها على ملفات الموقوفين تمهيدًا للبتّ فيها وفق الأصول بالسرعة المرجوّة”.

وتنصّ المادة 108 على أنّه “ما خلا حالة المحكوم عليه سابقًا بعقوبة مدتها سنة على الأقل، لا يجوز أن تتعدى مدة التوقيف في الجنحة شهرين يمكن تمديدها مدة مماثلة كحد أقصى في حالة الضرورة القصوى. ما خلا جنايات القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وحالة الموقوف المحكوم عليه سابقًا بعقوبة جنائية، لا يجوز أن تتعدّى مدة التوقيف في الجناية ستة أشهر، يمكن تجديدها لمرة واحدة بقرار معلّل. لقاضي التحقيق أن يقرر منع المدعى عليه من السفر مدة لا تتجاوز الشهرين في الجنحة والسنة في الجناية من تاريخ إخلاء سبيله أو تركه”. وبالتالي فهي تفرض حدًا أقصى للتوقيف الاحتياطي للموقوفين الذين يستوفون شروطًا متعلّقة بنوع الجريمة المدّعى بها في حقهم وبسجلّهم العدلي، وهي شهرين في الجنحة و6 أشهر في الجناية، مع إمكانية تمديدها لفترة مماثلة.

ولمعرفة مدى استيفاء الموقوف لشروط المادة 108، تتّبع الهيئة آليات محدّدة: فبعد زيارة المحامين المتعاونين للسجون وإحصاء عدد الموقوفين، تتمّ دراسة ملفّ كلّ موقوف على حدة، وتحديد الجرم المرتكب أو سبب التوقيف، وكذلك فترة التوقيف، والتأكد ممّا إذا كان الموقوف قد حوكم أم لم يُحاكم. فالأكثرية الساحقة لم تُحاكم، بحسب جرجس، الذي يؤكّد أنّ “الموقوفون هم مظلومون يحقّ لهم بالعدالة”.

ورغم الخطة الموضوعة، تواجه الهيئة صعوبة في الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بملفات الموقوفين، وهذا يعود إلى “الفوضى المستشرية في الدولة والفساد جرّاء وجود موظّفين مرتشين”، بحسب جرجس. وفيما تعمل الهيئة لتمكين الموقوف من تقديم طلب إخلاء السبيل، يبقى القرار النهائي بقبول أو رفض الطلب لدى السلطات القضائية.

المشروع الذي بدأته الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان أمامه مسار طويل من العمل، فالتطبيق على الأرض يحتاج إلى وقت لكي يؤتي ثماره، بحسب محامية مطّلعة على المشروع فضّلت عدم الإفصاح عن اسمها. ومن بين ملفات الموقوفين، تمّ استثناء المتهمين بجنايات القتل والمخدرات والإرهاب والعمالة، كون المادة 108 تستثنيهم. وتشرح المحامية على سبيل المثال “إذا كانت التهمة هي سرقة (كسر وخلع) ولم تصل مدّة التوقيف إلى 6  أشهر، لا يستفيد الموقوف من المادة 108، أمّا إذا تجاوزت مدة التوقيف السنة، فهناك احتمال أن يتمّ إخلاء سبيل الموقوف بموجب كفالة إذا كان هناك ادعاء شخصي، أما في حال عدم وجود حقّ شخصي تكون الكفالة غير مرتفعة، وفي بعض الحالات يكون إخلاء السبيل بحقّ بدون كفالة لأن الموقوف قد تخطى مدة التوقيف الاحتياطي وبالتالي هناك فقط حقّ عام”.

وتبيّن حتى الآن أنّه في سجن القبّة على سبيل المثال، هناك 76 موقوفًا يستوفون هذه الشروط من أصل 960 سجينًا، بحسب جرجس، وتمّ البدء بالعمل على تقديم طلبات لهم. أمّا في رومية الذي يضمّ 4 مبانٍ فيقول جرجس إنّ الحصيلة الأخيرة هي 375 ملفًا لموقوفين استوفوا الشروط.

وتوضح المحامية أنّه في المبنى الواحد في رومية “هناك حوالى 400 إلى 500 موقوف، ولكن لا يعني ذلك أنّ جميعهم يستوفون شروط المادة 108، بخاصّة أنّ معظم الموقوفين في رومية ملفّاتهم غير بسيطة ولديهم مدد توقيف طويلة، وغالبيتهم موقوفون في قضايا جنائية”، وتتابع أنّه “حتى المتهم بجريمة قتل له الحقّ في أن يُحاكم من خارج التوقيف الاحتياطي والانتظار إلى حين صدور الحكم (أي أن يتم إخلاء سبيله) طالما لا يشكّل خطرًا على المجتمع والبيئة المحيطة”، مشيرةً إلى حالات يتم فيها توقيف بعض الأشخاص لمدة زمنية تتجاوز مدّة الحكم الذي يصدر بحقّهم لاحقًا.

وفي هذا السياق، تشرح مسؤولة القسم القانوني في مركز حقوق الإنسان الذي يقدّم الدعم القانوني للموقوفين التحديات التي قد تزيد من صعوبة تطبيق المادة 108 في الظروف الحالية. التحدي الأوّل يتمثّل بصعوبة الوصول إلى ملفات الموقوفين في المحاكم وذلك بسبب عدم التمكّن من نقلها بعد من المحاكم التي تقع ضمن المناطق التي هي حاليًا تحت العدوان الإسرائيلي، مثال بعلبك وصور والنبطية وغيرها. و”في حال عدم وجود ملفّ لا يمكن التقدّم بطلب إخلاء سبيل، وبالتالي ينحصر الأمر بالمناطق التي لا زالت المحاكم تعمل فيها بشكل طبيعي نظرًا إلى أنها خارج نطاق العدوان”، وفقًا لمسؤولة القسم القانوني، بانتظار التوصلّ إلى الطريقة الأنسب لنقل الملفات بطريقة آمنة. أما التحدي الثاني، فيتعلّق بالكفالات المالية التي تفرضها المراجع القضائية كشرط لإخلاء السبيل والتي “تعتبر مرتفعة جدًا في كثير من الأحيان مقارنة بالأوضاع المادية لأهالي الموقوفين” وفقًا لرئيسة القسم القانوني، “فإذا كان باستطاعة بعض الجمعيات أن تساعد أحيانًا بدفع الكفالة، فإنّها لن تتمكّن من تسديدها في حال كانت الكفالة تصل إلى 100 مليون و200 مليون ليرة لبنانية”.

المسؤولية الأساسية تقع على السلطات القضائية

“أزمة العمل القضائي هي أساس مشكلة الاكتظاظ اليوم التي قد تؤدّي إلى انفجار وهي تعود لسنوات قبل الحرب”، تقول إحدى المحاميات المطّلعات على مبادرة الهيئة الوطنية في اتصال مع “المفكرة”، مشيرة إلى أنّ المطلوب في هذه الفترة من القضاء أن يلتزم بتطبيق النصّ القانوني. “فلو كان هناك التزام من قبل السلطة القضائية في الفترات السابقة بحضور القضاة بشكل يومي إلى المحاكم وتطبيق النصّ القانوني كما هو وغيره، لم نكن لنقوم بهذا الاستنفار اليوم للتخفيف من أزمة الاكتظاظ في السّجون” كما تقول.

ولكن ما يزيد من سوء الوضع الآن هي الحرب، فهناك سجون كان لا بدّ من إخلائها للحفاظ على أرواح السجناء، لينتهي بهم الأمر في سجون ليس لديها ما يكفي من القدرة الاستيعابية. وتعود المحامية في حديثها إلى الأزمة التي يعاني منها القضاء منذ العام 2019، موضحة أنّ الأزمة قد تفاقمت منذ ذلك الحين، وأنّه “من البديهيّ أن نجد اليوم قضاة يعملون بكدّ، ولكن هؤلاء نسبتهم قلية مقارنة بغيرهم، وليسوا دائمًا في مراكز صنع القرار”.

وكانت “المفكّرة” قد أعدّت سلسلة من الأوراق البحثية حول القضاء اللبناني في الأزمة، تناولت فيها صعوبات العمل التي يواجهها المرفق القضائي اليوم. كما تناولت في ملف خاصّ من مجلتها الفصلية ما وصفته بـ “نزيف القضاء المعطّل” مسألة تعطيل العمل القضائي منذ بدء الأزمة في العام 2019 نتيجة عدّة عوامل، أبرزها قوانين تعليق المهل، الإغلاق العامّ لمواجهة جائحة كورونا وسلسلة من الإضرابات المتقطعة، التي وُصفت بالتوّقف القسري عن العمل، من قبل القضاة والمساعدين القضائيين والمحامين للمطالبة بإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية وتحسين الرواتب والأوضاع المادية.

وعن هذا الأمر، تشرح المحامية غيدة فرنجية، مسؤولة قسم التقاضي في “المفكّرة” التي ساهمت في إعداد دراسة أخرى (غير منشورة بعد) حول إدارة التوقيف الاحتياطي بعد الأزمة، أنّه “رغم أنّ هذه الإضرابات استثنت قضايا الموقوفين غالبًا، إلا أنّ الموقوفين واجهوا بطئًا في الإجراءات القضائية المتعلّقة بمعالجة ملفاتهم، فضلًا عن تعذّر سوقهم إلى المراجع القضائية للمثول أمامها، مما ساهم في إطالة آماد التوقيف الاحتياطي”. وتضيف أنّ “السلطات القضائية لم تتمكّن من الالتزام بالمهل القانونية المتعلّقة بالتوقيف الاحتياطي، كما أنّها لم تلتزم بتطبيق المادة 108 بشكل بشكل ممنهج”، إذ “لم تقم بإخلاء سبيل الموقوفين بشكل تلقائي بعد انقضاء مهلة التوقيف القصوى، وفرضت شروطًا لإخلاء السبيل بدلًا من اعتباره حقًا غير مشروطًا، في الحالات التي يستوفي فيها الموقوف كامل شروط هذه المادة”. وعليه، تطالب فرنجية وزارة العدل والهيئات القضائية من مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي بـ “البحث في كيفية تمكين الدوائر القضائية المعنية بقضايا الموقوفين من تطبيق القوانين التي تساهم في الحدّ من التوقيف الاحتياطي ومدّته”، وذلك بهدف التخفيف من الاكتظاظ في أماكن التوقيف في ظلّ الظروف الراهنة.

تطرّقت المحامية المطلعة على المشروع إلى موضوع الأجانب الموقوفين داخل السّجون وبخاصّة السوريين منهم، مطالبة الأمن العام بوضع خطة واضحة حول كيفية التعامل مع ملفاتهم. وقالت في هذا الإطار إنّه “في حال تمّ إخلاء سبيل هذا الشخص الأجنبي وكانت أوراقه غير قانونية أو دخل البلاد خلسة، يجب أن يكون هناك مسار واضح للتعامل مع هذه الحالات، فما الذي يحصل عندها؟”، في إشارة إلى أنّه يتم إحالة هؤلاء الموقوفين إلى الأمن العام بعد صدور قرار إخلاء سبيلهم من قبل القضاء لكي يبتّ بمسألة إقامتهم في لبنان أو ترحيلهم، مضيفة أنّ عدد الأجانب داخل السجون كبير، وبعض عائلات هؤلاء قد غادروا لبنان، وبالتالي لم يعد لهم أحد في لبنان. وتظهر أرقام مديرية السجون في وزارة العدل أنّ حوالي 40% من السجناء في سجون ونظارات قصور العدل التابعة للأمن الداخلي في نهاية شهر حزيران من العام 2024 كانوا من غير اللبنانيين.

كما تجدر الإشارة إلى أنّه، بالإضافة إلى سجون الأمن الداخلي، تقع بعض سجون أو نظارات الأجهزة العسكرية والأمنية الأخرى، مثل الأمن العام وأمن الدولة والجيش، في مناطق معرّضة للقصف الإسرائيلي. ولم يتسنَّ لنا الإطلاع على الإجراءات المتخذّة من قبل هذه الأجهزة لحفظ حياة السجناء فيها.


[1] بلغت نسبة الاكتظاظ في سجون ونظارات قصور العدل 200% في أيار 2024 وفق تقرير لمديرية السجون في وزارة العدل اطلعت عليه “المفكرة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، تحقيقات ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني