أصدرت المفكرة القانونية في جوان/حزيران 2024 ورقة بحثية بعنوان “الحراك القضائي في تونس 2021-2022: مقاومة استثنائية في زمن “الاستثناء”، من إنجاز الباحثة أميمة مهدي. تهدف الورقة إلى المساهمة في توثيق وتحليل الحراك الذي خاضه القضاة دفاعا عن استقلالية السلطة القضائيّة، إزاء هجمات السلطة التنفيذية منذ 25 جويلية 2021، من خلال الوقوف على أهمّ فاعليه وتسلسل أحداثه ودينامياته الداخلية وتفاعلاته مع مختلف المتدخّلين والسياق. وقد ارتأينا نشرها بطريقة مجزّئة على الموقع لتسهيل الاطلاع على فحواها من قبل المتابعين والقرّاء. كنا قد تعرّضنا في الجزء الأول إلى تاريخ الحراكات القضائية في تونس، وفي الجزئين الثاني والثالث إلى السياق العام للمواجهة التي فُرضت على القضاة بعد 25 جويلية 2021 وأهمّ محطاتها. يتناول هذا الجزء الرابع والأخير قراءة تحليلية للاستراتيجيات التي اتبعها القضاة لمقاومة هجمات السلطة لضرب استقلاليّتهم ومدى نجاعتها. كما تقترح فيه الكاتبة بعض الدروس المستخلصة من هذه المقاومة الاستثنائية، وما يمكن أن تؤسّس له من تصوّر جديد للسلطة القضائية المستقلة المدافعة عن الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية. (المحرّر)
القسم الثالث: محاولة لفهم الحراك القضائي واستشراف فرص استمراره
تبعا لاستعراض أشكال الحراك القضائي، سنخصص هذا القسم لإجراء قراءة نقدية له. ولهذه الغاية، سنحاول فهم وتحليل أهمّ استراتيجيات الحراك وآليّاته المعتمدة، ديناميكياته الداخلية، فاعليه وحلفائه علّنا نقدّم أجوبة فيما يخصّ نقاط قوّة الحراك وضعفه والعوامل التي ساهمت في إنهاكه. ونأمل أن تسهم الدروس المستخلصة في تحليل أوسع لفشل الحراك الديمقراطي ككلّ في حماية مكاسب الثورة.
1. كيف نقرأ منهجيّا الحراك القضائي 2021 – 2022
تنقسم استراتيجيات القضاة للدفاع عن استقلاليتهم ومقاومة محاولات المساس بها إلى نوعين أساسيّين: مقاومة داخل أروقة المحاكم، وأخرى تُخاض خارج أسوارها.
أمّا الأولى، فيتمّ خوضها داخل المؤسسة القضائية باحترام قواعدها القِيَميّة ونواميسها. إذ يُعلي هذا النوع من المقاومة أسس وقواعد المجتمع القضائي وعلى رأسها واجب التحفّظ. فتُرسم بذلك حدود الاستراتيجيات المتّبعة ضمن النطاق المؤسسي ونظامه، وتتمحور بذلك مقاومة القاضي حول نشاطه المُرتبط أساسا بالتعامل مع النصّ القانوني والملفّ القضائي من جهة، أو الذي يدخل ضمن تفاعلاته الرمزيّة مع المجموعة التي ينتمي إليها من القضاة مع الحرص على احتوائها داخل الفضاء الداخليّ للمؤسسة القضائية.
أمّا النوع الثاني، فيشمل كلّ الفضاءات الأخرى التي تقع خارج أسوار المحاكم، ليتحرّر نسبيّا من الضوابط والقواعد المعياريّة التي تسود الإطار القضائي. يسمح ذلك بتوسيع دائرة الاستراتيجيات الممكنة وتنويع آليات المقاومة التي يُمكن اعتمادها.
فعلى سبيل المثال، سيلتزم القاضي في إطار أي تحرّك له ضمن المحاكم بضوابط صارمة أهمها الالتزام بمظهر الحيادية وما يفرضه من تحفّظ ومراعاة لهرمية التنظيم القضائي وإجراءات سير عمل المحكمة. أمّا النوع الثاني من الحراك فسيلقى فور خروجه من المحكمة فضاءً أوسع للمقاومة والتفاعل يؤثّثه فاعلون مختلفون كالسياسيّين والإعلاميين والحقوقيين والمجتمع المدني. وسيتعيّن عليه حينها رسم آليات التّموقع بينهم والتعامل معهم كلّا حسب خصوصياته بهدف الدفاع عن استقلاليته.
وعلى مستوى الخيار الفردي، قد يتّبع القاضي إحداهما أو قد يوازن بين كلتاهما حسب موقعه والسياقات والظروف التي يمرّ بها. أمّا على مستوى التنظيم الجماعي للقضاة والذي تتولاه بشكل خاص الهياكل التمثيلية من دون أن تحتكره، فإنّ اختيار الإستراتيجية وإن كان يرتبط بالسياقات وشروطها، فهو يعتمد أساسا على الرؤية السياسية التي يتبنّاها القيّمون على كلّ هيكل للسلطة القضائية واستقلاليتها ودورها.
وفيما نلحظ أن قضاة تونس زاوجوا في مقاومة الهجمة التي طالت استقلاليتهم منذ 25 جويلية 2021 نوعيْ المقاومة، فإننا سنهتمّ في سياق هذا التحليل بشكل خاص بالتحرّكات التي خاضها القضاة منذ 25 جويلية خارج أسوار المحاكم والتي تمّ تفصيلها في الفصل السّابق. ومن المهم هنا أن نوضح أن عدم إدراج المقاومات الصامتة (داخل أسوار المحاكم) بهذا التحليل لا يعني أبدا أنها كانت غائبة أو ضعيفة، بحيث على العكس من ذلك،خاض القضاة مقاومتهم الصامتة في عدّة مناسبات خلال هذه المرحلة. وليس أدلّ على ذلك من رفض قضاة النيابة العمومية تنفيذ أوامر السلطة التنفيذية في إيقاف أشخاص معيّنين أو استعصاء قضاة التحقيق في قطب الإرهاب على إيقاف النواب المعارضين لسعيّد ومقاومة المجلس الأعلى للقضاء المؤقّت لتنفيذ الإعفاءات التي طلبت منه ثمّ مماطلته في رفع الحصانة عن القضاة. إنما يعود الخيار الذي اعتمدناه في عدم إدراج المقاومات التي تدور داخل المحاكم لصعوبة تقصي تفاصيلها وحيثياتها في ظلّ انغلاق فضاء المحاكم عموما في وجه غير المنتمين إليه. كما يعود هذا الخيار لعدم تمكّننا من الاطّلاع على المعلومات الكافية لتقديم تحليل متكامل في الغرض.
بقي أن نضيف أننا سنعتمد في سياق هذا القسم على المعلومات التي تمّ التحصّل عليها عن طريق رصد ما تمّ توثيقه وكتابته عن الحراك القضائي 2021-2022 وما سبقه من جهة. كما سيتمّ اعتماد خلاصات الملاحظة بالمشاركة التي تمّ تحقيقها عبر مواكبة الحراك والحضور في عدد من تحرّكات القضاة. كما سيتمّ الاعتماد على ما تمّ تسجيله خلال اللقاءات التي تمّ إجراؤها مع العديد من الفاعلين المركزيين داخل الحراك وخارجه. مع التأكيد أنّه تمّ تنظيم هذه اللقاءات بعد حادثة الإعفاء وهي بالتالي تتحمّل بدورها انعكاس الضغوطات المسلّطة على القضاة وأثرها عليهم[1].
تقديم النموذج التحليلي والمفاهيم
اهتمّت دراسات مختلفة بتحرّكات القضاة وأشكال مقاومتهم لهيمنة السلطة التنفيذية في سياقات مختلفة. إذ دُرست الظاهرة على مستويات مختلفة، القانونية، الاجتماعية، والسياسية مع الاهتمام خصوصا بأسبابها، دينامياتها وفاعليها، في سياقات وطنية وتاريخية مختلفة. إذ يتشكّل الحراك القضائي في ارتباط بنظام الحكم السّاري والآليات المتاحة للقضاة كفاعلين. وبالتالي، لا يمكن دراسة تفاعلات القضاة وردود أفعالهم على قاعدة تأطير منهجي واحد في ظلّ اختلاف أنظمة الحكم والسياقات السياسية. على سبيل المثال، لا يمكن دراسة المقاومة القضائية التي خاضها قضاة الولايات المتحدة الأمريكية في علاقة بسياسات الرئيس السابق دونالد ترامب وإدارته، بنفس الآليات البحثية وبنفس النموذج النظري المعتمد لدراسة مقاومة القضاة في تونس. كما يجدر، قبل تحليل حراك القضاة في 2021/2022، تكييف السياق السياسي الاستثنائي الذي مرّت به البلاد ابتداءً من 25 جويلية 2021.
ولئن ما برح تكييف ما حصل في 25 جويلية يثير جدلا حادّا يختلط فيه القانوني بالسياسيّ، فإننا نتبنى في هذا البحث تكييف ما حصل بالانقلاب الذاتي، وهو مفهوم ظهر في تجارب شبيهة في بلدان أمريكا الجنوبية ودول أخرى تمثّلت في الموجة الثالثة من الأنظمة الديمقراطية. ويعرّف ماكسوال كامرون[2] ما يسمّى بالانقلاب الذاتي (“self-coup” بالأنجليزية، “autogolpe” بالإسبانية)، على أنّه “تعليق مؤقت للضمانات الدستورية وإغلاق للمجلس التشريعي من قبل السلطة التنفيذية، التي تحكم بمراسيم وتستخدم الاستفتاءات والانتخابات التشريعية الجديدة للمصادقة على نظام يتمتع بسلطة تنفيذية أوسع”. وقد تعرّض في تونس، حمّادي الرديسي لهذا المفهوم بمقال له في جريدة المغرب معرّفا إيّاه أنّه “على خلاف الانقلاب العسكري، يقوم بالانقلاب الذاتي زعيم أو رئيس يصل الى دفة الحكم بطريقة ديمقراطية. إذ يستحوذ على كل الصلاحيات. فيعلن حالة الاستثناء ويحل البرلمان أو يعلق نشاطه، ويدجن المحاكم ويحد من الحريات ويسن دستورا جديدا. وتحدد «موسوعة العلوم السياسة (Encyclopedia of Political Science, 2011) المفهوم حرفيا كما يلي: «يحدث انقلاب ذاتي عندما يتولى الحكم رئيسا قائما عادة بمساعدة الجيش، ويوقف عمل السلطة التشريعية والسلط الحاكمة الأخرى، ليحكم بدون معارضة. وهو يختلف عن الانقلاب على الدولة (golpe de estato /coup d’Etat) الذي عادة ما يحدث بإسقاط الرئيس من طرف الجيش الذي يستولي على السلطة لصالحه.”[3]
من بين أبرز الأمثلة التاريخية، يمكن أن نعود إلى انقلاب لويس نابليون في فرنسا في 2 ديسمبر 1851، ثمّ في العقود الأخيرة انقلاب خورخي سيرانو إلياس بغواتيمالا (1993)، انقلاب بوريس يلتسن بروسيا (1993)، وخصوصا انقلاب ألبرتو فوجيموري بالبيرو (1992)، الذي يُشبه إلى حدّ كبير ما حصل في تونس منذ 25 جويلية 2021، باستثناء مرور صياغة الدستور الجديد في البيرو عبر انتخابات جمعيّة تأسيسيّة، وانفراد الرئيس سعيّد بالأمر ثمّ عرض مشروعه على استفتاء تحكّم في كلّ تفاصيله.
ويمتدّ سؤال التكييف إلى طبيعة النظام السياسي الناتج عن الانقلاب الذاتي، إذ لم يعد ممكنا، في ظلّ احتكار الرئيس سعيّد للسلطة التنفيذية والتشريعية، وحلّ مختلف السلط المضادّة، والهجمة على القضاء، وتغيير الدستور بطريقة انفرادية، وتصاعد الانتهاكات على الحريات العامة، مواصلة تصنيف تونس كبلد ديمقراطي[4] أو حتى في صدد الانتقال الديمقراطي. بل ربما يكون الصنف الأقرب، على الأقلّ في سنوات 2021/2022 أي قبل مرور السلطة إلى السرعة القصوى في قمع المعارضات وترسيخ الآليات الاستبدادية، هو “نظام حكم هجين”.
يعرّف ستيفن لفيتسكي (Steven Levitsky) ولوكان واي (Lucan A. Way) الأنظمة الهجينة[5] على أنّها أنظمة حكم تجمع بين القواعد الديمقراطية والحكم الاستبدادي. ويضيف لاري جاي دايموند (Larry Jay Diamond)[6] وجود أنظمة تقوم على الانتخابات والتعددية الحزبية ولكنّها استبدادية. أنظمة قد يتم وصفها في بعض الدراسات بـ”شبه ديمقراطية”، أو “ديمقراطية افتراضية” أو “ديمقراطية انتخابية” أو “ديمقراطية زائفة” أو “ديمقراطية غير ليبرالية” أو “شبه استبدادية” أو “استبداد ناعم” أو “استبداد انتخابي”. ولكلّ من هذه التعريفات والتعبيرات خصوصيات وتدقيق قد يتعلّق بنظام الحكم المرصود ومميزاته خصوصا على مستوى الحريات وآفاق الديمقراطية المتعلّقة به. في المقابل، تجتمع العديد من الدراسات على سعي السلطة التنفيذية بالأنظمة الهجينة إلى التضييق على استقلالية السلطة القضائية عبر استراتيجيات عدة كاستمالة القضاة أو ممارسة الضغط على المحاكم أو استخدام القانون بشكل انتقائي ومحاولة تطويعه أو التدخّل بشكل صارخ في قرارات القضاة وأعمالهم أو عزل القضاة وترهيبهم. وهو التدخّل الذي يستتبع عموما توسيع تحرّكات القضاة وتقوية زخمها.
في هذا المستوى من الدراسة وتقيّدا بالإشكالية المطروحة في هذا البحث وأهدافه، سنكتفي باعتبار نظام الحكم القائم على يد قيس سعيّد، منذ 25 جويلية 2021 وطيلة فترة مواجهته للحراك القضائي، بالنظام الهجين. وهو ما يتيح لنا الاعتماد على النموذج النظري المطوّر من قبل أليكساي تروشيف[7] (Alexei Trochev) وراشيل إليت[8] (Rachel Ellett) في مقالهم العلميّ الصّادر سنة 2014 والمعنون بـ”القضاة وحلفائهم، إعادة التفكير في الاستقلالية القضائية من خلال منظور المقاومة خارج المحاكم”[9] لدراسة وفهم حراك القضاة. من خلال متابعتهم ودراستهم لعدة حركات قضائية في دول مختلفة، يقدّم الباحثان نموذجا نظريا يؤطّر المقاومة القضائية تحت حكم الأنظمة الهجينة طبقا لخمس استراتيجيات يخوضها القضاة أساسا خارج أسوار المحكمة. في هذا الإطار، سندرس أهمّ الخطوات التي قام بها قضاة تونس بقيادة هياكلهم التمثيلية قصد التصدّي لتدخّل قيس سعيّد بالسلطة القضائية طبقا للاستراتيجيات الخمس المعتمدة من الباحثيْن، وهي: 1. اتباع مفاوضات مع السلطة، 2. الانخراط في احتجاجات جماعية، 3. تعبئة الحلفاء بالداخل والخارج، 4. التوجّه للإعلام والرأي العام و5. تأسيس تحالفات سرية في الداخل والخارج.
2. محاولة لفهم الحراك القضائي وأهمّ استراتيجياته المتّبعة
فيما يلي، سيتمّ تحليل الاستراتيجيات المتّبعة من قبل القضاة بالاعتماد على الخطوات والتحرّكات التي قامت بها أهمّ الهياكل التمثيلية للقضاة وعلى رأسها جمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة، وهما الهيكلين الأكثر تمثيلية لجمهور القضاة التونسيين.
اتباع مفاوضات مع السلطة
تمّ اتباع هذه الاستراتيجية بصورة متفاوتة بين الهياكل التمثيلية للقضاة، حيث اعتمدتها خصوصًا نقابة القضاة خلال مراحل عدّة من المواجهة مع السلطة. وقد مثّلت استراتيجية التفاوض إحدى أهمّ نقاط الخلاف بين الهياكل التمثيلية للقضاة، وكانت سببا هامّا في حلّ تنسيقية الهياكل التمثيلية للقضاة بعد بذل جهود كبيرة لتوحيد الصفوف.
انحصرت دعوة جمعية القضاة لفتح باب الحوار مع السلطة في بداية الحراك القضائي، عندما عبّر الرئيس عن نواياه لتغيير المجلس الأعلى للقضاء. وقد لا تكون الدعوة للتفاوض تعبيرا عن أمل في استجابة السلطة، بقدر ما تُفهم في إطار معركة الرأي العامّ، لإبعاد “شبهة” التموقع السياسي ضدّ الانقلاب وإظهار انفتاح على استحقاق إصلاح القضاء، وإحراج السلطة التي ترفض الحوار وتسعى للسيطرة على القضاء وليس لإصلاحه. بعد ذلك اعتمدت الجمعية على استراتيجيات وتحرّكات تصعيدية بلغت ذروتها مع الإضراب عن العمل والطعام. أمّا نقابة القضاة فاختارت الاعتماد على استراتيجية الحوار خلال عدّة مراحل من الحراك: قبل حلّ المجلس الأعلى للقضاء وبعده وبعد تنصيب المجلس الؤقّت وحتّى بعد التحرّك الجماعي التالي للإعفاءات. فبعد أسابيع من الإضراب عن العمل وإضراب الجوع، عبّرت نقابة القضاة عن تمسّكها بإيقاف الإضراب والتوجّه للتفاوض مع السلطة. وقد أفاد أيمن شطيبة، رئيس النقابة، خلال المقابلة التي أجريناها معه في إطار هذه الدراسة، بأنّ النقابة تؤمن بمبدأ الحوار والتفاوض ولا ترى سبيلا غيره للإصلاح والتطوير وفضّ النزاعات مع السلطة، بقطع النظر عن حدّية إجراءاتها ومساسها من استقلالية السلطة القضائية. كما عبّر بأنّ قرار الإضراب تمّ اتخاذه من قبل القضاة المجتمعين حينذاك بالجلسة العامة للجمعية ولم يكن الخطوة المفضلة لدى النقابة، المتحفّظة في العادة على مثل هذه الأساليب الاحتجاجية. وجبت الإشارة هنا بأنّه سبق للنقابة أن حشدت وخاضت إضرابا عن العمل لمدّة شهر للمطالبة بالترفيع في الأجور خلال فترة الجائحة. وأكّد شطيبة اقتراحه على الهياكل التمثيلية الأخرى للقضاة فتح باب الحوار مع السلطة والتخلّي عن الخطاب التصعيدي وعن كلّ الأشكال الصدامية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وبداية البناء، باعتبار أنّ “رئيس الجمهورية ليس بعدوّ”.
جُوبه اقتراح النقابة برفض قاطع من جمعية القضاة التي تمسّكت بمواصلة الضغط والمواجهة، لاقتناعها بأنّ الرئيس رافض أصلا كلّ أشكال الحوار والتفاوض، ولموقفها السياسي المستقرّ على عدم التنازل للسلطة خصوصا بعد هجمتها غير المسبوقة على السلطة القضائية.
ويعكس الاختلاف في مدى اعتماد استراتيجية التفاوض مع السلطة في هذا السياق، اختلافا أعمق حول التصوّر السياسي الذي يحمله كلّ هيكل عن السلطة القضائية واستقلاليتها. واختلاف المقاربة بين الجمعيّة والنقابة ليس جديدا، إذ يمكن فهمه أكثر من خلال النماذج المثالية (les idéaux-types) التي قدّمها سامر غمرون (2012) والتي تلخّص نقاط الاختلاف بين الجمعية والنقابة[10]. كما يذكّر تناقض تصوّر الاستقلالية بين الجمعية والنقابة، باختلاف المواقف بين ودادية الحكّام وجمعية القضاة الشبّان في السبعينات والثمانينات[11]، أي بين هيكلين تمثيليّين يختلفان جوهريّا في تصوّرهما للسلطة القضائية ولموقعهما من السلطة. فالأولى كانت تعتبر أنّ مهمّتها تنحصر في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للقضاة بينما اعتمدت الثانية رؤية أوسع. فتبنّت معركة الاستقلالية عن السلطة التنفيذية وما تبع ذلك من تصوّر لدور القضاة.
ترفع كلّ من جمعية القضاة والنقابة شعار الدفاع عن مبدأ الاستقلالية، ولكنهما لا تتقاسمان نفس التصوّر والشروط لتحقيقه. يُترجم ذلك في استعمال آليات واستراتيجيات مختلفة تتوجّه إلى جماهير بدورها مختلفة. فمن جهة، تدافع النقابة أساسا عن الاستقلالية الوظيفية للقاضي وبالتالي عن استقلالية القاضي في اتخاذ القرار الذي يراه الأنسب عند ممارسة وظيفته. هي بالتالي استقلالية لا يتجاوز حدودُها مكتب القاضي الذي ينحصر دوره في تطبيق القانون والنطق به. في هذا الإطار، أكّد رئيس نقابة القضاة أيمن شطيبة على ضرورة تحقيق استقلالية القضاء في ظلّ نظام جمهوري، تكون فيه كلّ سلطة مستقلة في أداء وظيفتها. وفي إجابته عن سؤالنا حول سبل ضمان هذه الاستقلالية مع افتقاد الضمانات الدستورية في دستور 2022، أجاب شطيبة بأنّ الاستقلالية يجب أن تكون مستبطنة لدى القضاة وأنّ النصوص القانونية يمكن تغييرها. فهو لا يرى أنّه يجب مقاطعة المجلس المؤقت الأعلى للقضاء المنصّب من الرئيس. لم يُنكر شطيبة أنّ انتخاب أعضاء المجلس ضمانة لاستقلالية القاضي، إلاّ أنّه يصرّ على أنّ غيابها لا يعيق التعامل والحوار مع المؤسسة التي أصبحت أمرًا واقعًا لا يمكن إنكاره. وبالنسبة لرئيس نقابة القضاة، يبقى الحوار شرطا لحماية مصالح القضاة (خصوصا الاجتماعية) وللسهر على حسن سير القضاء مع العمل على تحسين الضمانات وتطويرها فور تأسيس المجلس التشريعي الجديد.
من جهتها، تعتبر جمعية القضاة أن لا وجود لاستقلالية وظيفية من دون استقلالية هيكلية، أي أنّ استقلالية السلطة القضائية تشترط وجود مجلس أعلى للقضاء مستقلّ. بعبارة أخرى، تعتبر جمعية القضاة أنّ استقلالية السلطة القضائية تنقسم إلى قسمين لا يمكن فصلهما: الاستقلالية الوظيفية المتعلّقة بممارسة المهنة من قبل القاضي والاستقلالية الهيكلية المتعلقة بعمل السلطة ككلّ. إذ أنّ ضمان الاستقلالية الوظيفية غير ممكن من دون تركيز شروطها السياسية والمؤسساتية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن حماية المسار الوظيفي للقاضي، أحد عناصر الاستقلالية الوظيفية، من دون مجلس أعلى مستقلّ يأخذ القرارات المتعلقة بهذا المسار فيعدّ الحركة القضائية ويحسم الترقيات وتوزيع المناصب. يضيف أنس الحمادي، رئيس جمعية القضاة، بأنّ المسّ باستقلالية المجلس الأعلى للقضاء عبر إخضاع عضويّته للتسمية لا للانتخاب من قبل جمهور القضاة، يؤدي إلى المسّ من استقلالية قراراته في مجال المسارات الوظيفية للقضاة وهو ما قد يصبح وسيلة ضغط بيد السلطة للتدخّل في قراراتهم عند ممارستهم لوظيفتهم، تماما كما كان عليه الحال تحت نظام الاستبداد الذي كان يستغلّ المجلس الأعلى للقضاء التابع له لمعاقبة القضاة المستقلين ومكافأة القضاة المطيعين والمنسجمين.
في ظلّ هذا التصوّر للاستقلالية، يغدو الدفاع عن استقلالية القضاة من جهة والمجلس الأعلى للقضاء من جهة أخرى متلازمين وهو ما يستحيل توفيره في ظلّ سلطة تنفيذية مهيمنة. تحيل هذه النقطة للقراءة السياسية للسياق وحرص الجمعية على متابعة الشأن العام وأهمّ التغيّرات على مستوى نظام الحكم. إذ تعتبر الجمعية أنّ استقلالية السلطة القضائية بتفرّعاتها جزء لا يتجزّأ من توازن السلط وتفريقها وهو شرط ملازم لتَحقيق النظام الديمقراطي. فلا ديمقراطية من دون سلطة قضائية مستقلة ولا استقلالية للقضاة ولمجلسهم من دون نظام ديمقراطي يحقّق التفريق بين السلط وتوازنها. في هذا الإطار، يأخذ الدفاع عن القضاة واستقلاليتهم أبعادا أخرى تتجاوز بذلك رؤية النقابة وموقفها وتفرض على الجمعية تحدّيات أكبر وانخراطا كليّا بالشأن العام.
اختلاف الرؤية السياسية لمفهوم الاستقلالية لدى الجمعية والنقابة ينجرّ عنه حتما اختلاف جذريّ في تحديد الأولويات والمعارك والخطاب، وينتج عنه تشتّت الهياكل التمثيلية وعدم توحيد الصفوف. كما ينتُج عنه اختلاف مركزيّ في كيفية التعامل مع مختلف الفاعلين وعلى رأسهم السلطة التنفيذية. فبينما تعتبر النقابة أنّ على القاضي النطق بالقانون المصادق عليه من قبل المجلس التشريعي والاكتفاء بالحوار مع السلطة التنفيذية في حال نشوب خلافات، تعتبر الجمعية أنّ للقضاة سلطة تقارع السلطة التنفيذية والتشريعية وتوازن فيما بينهم ويقع على عاتقهم الدفاع عنها وعن نظام الحكم الذي يحصّنها. وهو ما يُترجم جيّدا أوجه الإختلاف في جلّ مواقف النقابة والجمعية. فعلى سبيل المثال، بينما كانت الجمعية تدعو للإضراب على خلفية حلّ المجلس الأعلى للقضاء المنتخب، ارتأتْ نقابة القضاة التوجّه إلى وزيرة العدل وتقديم مقترحاتها فيما يخصّ قانون المجلس الأعلى للقضاء وكيفية تعديله. وبينما أعلنت الجمعية عن رفضها للأمر 117 دفاعا عن النظام الديمقراطي، صمتت النقابة ولم تعبّر عن أي موقف في خصوصه.
الانخراط في احتجاجات جماعية
لقد كان الانخراط في العمل الجماعي الذي يجمع الهياكل التمثيلية آخر الخطوات التي اعتمدها القضاة لمقاومة هيمنة السلطة ومحاولتها لتدجين القضاء. ولقد انتظر القضاة حوالي عام تقريبا (من 25 جويلية 2021 إلى 04 جوان 2022) لاتخاذ شكل من أشكال العمل الجماعي. شكّل قرار إعفاء القضاة صفعةً للقضاة الذين غضّوا الطرف عن كلّ التجاوزات التي قام بها سعيّد في حقّ السلطة القضائية والمجلس الأعلى للقضاء، خصوصا بعد الاستماع لشهادات زملائهم المعفيين الصادمة. فأوجد تعبير القضاة المعفيّين عن محنتهم، بما حمله من مشاعر غبن وبكاء، لحظة وجدانية جيّشت صفوف القضاة وأعطتْهم دفعا معنويا وجرأة أكبر لاتخاذ قرار الفعل الجماعي والإعلان عن الإضراب. أظهرت قرارات الإعفاء، لعموم القضاة، استتباعات وعواقب تدخّل السلطة التنفيذية في القضاء ومؤسساته وآثار ذلك على ذواتهم وزملائهم من المشهود لهم بالمهنيّة ونظافة اليد، ومنهم من كان ينأى بنفسه عن السياسة ونقاشاتها. أدخلت مذبحة الإعفاءات وما حفّ بها من حيف وظلم، الرعب في صفوف القضاة، فأيقظت فيهم الإحساس بضرورة اتخاذ خطوات عملية لإيقاف تقدّم سعيّد في انتهاك سلطتهم والدفاع عن المعفيين وحماية البقية منهم. فهل تأخّر التحرّك كثيرا؟
بالمقابل، لم يتحرّك الجسم القضائيّ عندما تمّ حلّ المجلس الأعلى للقضاء واستهداف أعضائه واعتبار القضاء وظيفة لا سلطة أو حتى عند نشر الأمر 117 وإسقاط دستور 2014. لم تجد دعوة جمعية القضاة إلى الإضراب والاحتجاج في فيفري 2022 استجابة في حجم خطورة ما حصل. إذ تغيّب أغلب القضاة (بما فيهم أعضاء المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ) عن الوقفة الاحتجاجية التي دعت لها الجمعية بعد حلّ المجلس. ولم يشهد تعليق العمل بالمحاكم تكاتفا من الجمهور الواسع للقضاء ولم يستمرّ أكثر من يومين. يمكن تفسير هذا الغياب بالحصيلة الضعيفة للمجلس ولأدائه الذي لم يكن يحظى برضا العديد من القضاة، أو بالخوف من الدفاع عنه في ظلّ تشويهه وإضعاف الثقة فيه لدى الرأي العام، وربما من حملات الشيطنة والسحل الإلكتروني ضدّ كلّ من يعارض السلطة، وخصوصا منهم القضاة. ولكنّ هناك أسبابًا أعمق تفسّر ضعف ردّة فعل الجسم القضائي أمام الفتك بأهمّ ضمانة مؤسساتية لاستقلاليته، ومن أهمّها التصوّر الذي يحمله عموم القضاة لهذه الاستقلالية. مرّة أخرى يعود التناقض الفكري حول هذا المفهوم ليكون العنصر المحرّك للقضاة. فبالإضافة للاختلاف الواضح حول شروط عضوية المجلس (الاعتماد على القضاة فقط في تركيبته أو إدخال مهن أخرى ممثلة كما كان عليه حال المجلس المنحلّ)، لم يدافع أغلب القضاة عن هذه المؤسسة لأنّهم لم يعتبروها ضمانة لاستقلاليّتهم. في الواقع، تنحصر رؤية أغلب القضاة لاستقلاليّتهم في حدود ما ترسمه الرؤية السياسية لنقابة القضاة، وهو ما ينعكس في الواقع بعدم التمسّك بالمجلس كمؤسسة. وبعبارة أخرى، لو كان القضاة يستشعرون أن المجلس الأعلى للقضاء يمثّل إحدى دعامات السلطة القضائية والضمانة الأساسية لاستقلاليّتهم، لكانوا أكثر انخراطا ونشاطا في الدفاع عنه بغضّ النظر عن تقييمهم لأعضائه وحصيلتهم، ولَطَالبُوا مثلا بتنظيم انتخابات سابقة لأوانها لتجديد أعضاء المجلس أو هرعوا للدفاع عنها بطرق أخرى. لقد كان في تخلّي أغلبية الهياكل التمثيلية وجلّ مجتمع القضاة عن مجلسهم الأوّل المنتخب وانتظار “إصلاحات” السلطة التنفيذية سذاجة سياسيّة، ومؤشرا قويّا على تصوّر القضاة لاستقلاليّتهم عن السلطة التنفيذية.
بالمقابل، شكّل قرار الإعفاء نقطة مركزية للمّ شمل القضاة وتكوين تنسيقية الهياكل التمثيلية التي قادت أهمّ خطوات الفعل الجماعي وفي مقدّمتها الإضراب عن العمل لمدة شهر، وهو ما سَاهم إيجابيا في المواجهة. لقد ثبتت فعالية العمل الجماعي للقُضاة بالمقارنة مع الخطوات الفردية التي قام بها البعض من قبل، ومثّل الإضراب إشارة إلى مدى استعدادهم لحماية بعضهم البعض. ساهم تضامن القضاة في إبراز مقاومتهم الجماعية من جهة، بينما أظهر إضراب بعض القضاة المعفيين عن الطعام مدى استعدادهم النضالي للتضحية من جهة أخرى. وهو ما كسر عزلتهم الإعلامية ودفع بقضيتهم في قلب النقاش العام ليتمّ تبنّيها من مجمل الفاعلين السياسيين.
نجاح القضاة النسبيّ في إضرابهم ومركزة قضيتهم التي لم يعد يمكن تجاهلها في دائرة النقاش العام، شابته عدة نقائص. أوّلا، لم يتمّ إشراك القضاة الأعلى رتبة أو من كبار القضاة (القضاة السبعة الكبار، رؤساء المحاكم، وكلاء الجمهورية، إلخ) في الفعل الجماعي وهو ما كان يمكن أن يمثّل دافعا هامّا لاستمرار الحراك. ثانيا، تمّت إدارة الإضراب من قبل الهياكل التمثيلية وقياداتها، وهي في أغلبها هياكل حديثة التشكيل ذات موارد بشرية ومالية وتنظيمية قليلة وقدرة ضعيفة على تعبئة القواعد من القضاة لما ينقصها من خبرة في كيفية تنظيم العمل الجماعي وحشد الفاعلين. ثالثا، لم يكن اقتناع جزء هامّ من القضاة بهذا الشكل الاحتجاجي راسخا، فتصدّعت مع مرور الوقت ثقتهم بمدى نجاعته. فقد عبّرت نقابة القضاة ومن خلفها شريحة من القضاة عن عدم رضاها على تواصل الإضراب وعلى اعتماده كوسيلة احتجاج. تمسّك البعض بفكرة روح المسؤولية وأهمية الإبقاء على الرؤية المجتمعية للقاضي ودوره وضرورة العودة لقاعات المحاكم، بينما تداعى وتخلّى آخرون عن المجموعة وحراكها بدعوى الإيمان بعدم قدرة القضاة على تحريك الشارع لصالحهم، وضعف تنظيمهم ووهنهم بالمقارنة مع السلطة، وبالفشل المحتّم للحراك. أو الاقتناع بأنّ الصراعات الداخلية في أوساط القضاة متجذّرة ولا يمكن تجاوزها.
كلّ هذه العناصر ساهمت في إضعاف زخم الحراك بعد استمرار الإضراب لمدّة شهر لم تستجب خلاله السلطة لطلبات القضاة، ولم تحرّك ساكنا أمام تدهور صحّة القضاة المضربين عن الطعام. وهو ما دفع بعدة منظّمات وعلى رأسها الاتّحاد العام التونسي للشغل للقيام بزيارتهم وبدعوتهم لإيقاف الإضراب والتفكير في أشكال نضالية أخرى.
تعبئة الحلفاء بالداخل والخارج
تتمثّل إحدى أهمّ الخطوات المتّبعة من قبل القضاة في حشد حلفائهم وتعبئتهم قصد تحصيل الدعم اللازم لإنجاح تحركاتهم. في هذا الإطار، تميّزت جمعية القضاة، بالمقارنة مع بقيّة الهياكل الممثلة للقضاة، بقدرة أكبر على نسج علاقات وجمع حلفاء من خارج المشهد القضائي التونسي. ورغم أنّ لحظة الإعفاءات خلقت زخما تضامنيّا أكبر من حلّ المجلس الأعلى للقضاء قبلها بأربعة أشهر، فإنّ نجاح استراتيجية التعبئة كان نسبيّا، نظرا لعوامل عدّة من بينها السياق السياسي الاستثنائي وحالة الاستقطاب الحادّ وضعف القراءة السياسيّة والقناعة الديمقراطيّة لدى الكثير من الفاعلين المدنيّين والموقف المهيمن في صفوف المحامين، فضلا عن محدوديّة إمكانيّات الجمعيّة نفسها.
تمكّن القضاة من الحصول على الدعم عبر شبكات تتجاوز الحدود الوطنية. إذ أصدرت منظمات دولية عديدة مواقف رسميّة مندّدة بقرارات سعيّد[12]. كما تمّ تنظيم زيارة رسميّة للرئيس الشرفي للاتحاد الدولي للقضاة كريستوف رينيارد (Christophe Regnard) إلى تونس بهدف الاطلاع على حقيقة الأزمة وإعداد تقرير في الغرض يُقدّم للاتحاد الدولي للقضاة والمقرر الخاص للأمم المتحدة لاستقلال القضاء والمحاماة. وقد رفضت وزارة العدل استقباله رغم طلبه لقاء رسميّا معها. قدّمت زيارة رينيارد للقضاة المضربين عن الطعام وقيامه بندوة صحفية إلى جانب رئيس جمعية القضاة رسائل رمزية مهمّة على مستوى التضامن الدولي مع حراك القضاة، وأحرجت النظام أمام شركائه. ولئن فكّت هذه الخطوة عزلة القضاة وأعطت لقضيتهم بُعدا دوليّا، بفضل انخراط جمعية القضاة بشبكة القضاة الأوسع في العالم، فإنّ هذا التضامن الدولي لا يعوّض أهمّية حشد الحلفاء في الداخل وخوض معركة الرأي العامّ.
- على مستوى النخبة السياسية والمدنية:
حظي القضاة بمساندة جزء من النخبة السياسية والمدنية، ولكنّها لم تكن في حجم خطورة الهجمة عليهم، حيث انحصرت في بعض السياسيين المعارضين وبعض الحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني. لم يكن صعبا على جمعية القضاة أن تعوّل على دعم شركائها التقليديّين كمنظمة محامون بلا حدود، والشبكة الأورومتوسطية للحقوق. وفي إقناع حلفاء جدد كالجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، ونقابة الصحفيين التونسيين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتحاد العام التونسي للشغل عبر استعمال شبكة علاقات وطيدة تربط قيادة جمعية القضاة والعديد من الحقوقيين والفاعلين على خلفية تعاونهم بمحطات نضالية سابقة كتلك التي جمعتهم في 2005 أو بعد 25 جويلية 2021. ورغم تقلّد رموز نضالية تاريخية سبق وأن شاركت في ملحمة 2005 قيادة الحراك، إلا أنّ نجاح الجمعيّة في تعبئة الحلفاء كان نسبيّا. إذ جاء توجّه القضاة للتشبيك وطلب الدعم متأخرا نسبيّا وفي أوج المعركة، إذ لم تُستثمر العلاقات التاريخية للجمعية لبناء حزام داعم قويّ وعلاقات مؤسساتيّة وثيقة يمكن التعويل عليها وتفعيلها في سياقات الأزمة. كما أنّ هذه الاستراتيجية تتطلّب قراءة دقيقة لطبيعة الحلفاء وفهم انتظاراتهم وحدود إمكاناتهم، وحسّا سياسيّا وقدرة على التجميع والتفاوض لم تتوفّر بالقدر الكافي عند أهمّ الفاعلين بالحراك. كما ساهمت تركة المعارك السابقة التي لم يُحسن القضاة فضّها والتعامل معها وغرق الجمعيّة نفسها في الحسابات القطاعيّة في سنوات التجربة الديمقراطيّة، في عزل مجتمع القضاة وهيمنة خطاب عامّ على القضاء لا يُسمع فيه صوت القضاة. ويبقى السبب الأعمق، والذي ظهر بصورة صارخة منذ 25 جويلية 2021، افتقار النخبة السياسية والمدنية للثقافة الديمقراطية وضيق أفقها وسوء قراءتها لأولوية الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية وعن المكاسب الديمقراطية عموما. إذ ظلّت النُّخب، بشكل عامّ، حبيسة مِنظار الاستقطاب مع الإسلاميّين الذي أثّر على مواقف الكثيرين. وقد استغلّت السلطة وأذرعها هذا الاستقطاب في مسار إخضاع القضاء، وهو ما ظهر في استعمال قضايا الاغتيالات السياسيّة وأيضا في حملات الشيطنة ضدّ القضاة المناضلين في الحراك والجمعية بالتحديد، التي وصفها أبواق السلطة بـ”النقابة الزرقاء” لربطها لدى الرأي العامّ بحركة النهضة وعزلها عن الحركة الحقوقية والمدنيّة. وهو ما أضعف الحراك القضائي من دون شكّ وحرمه من زخم مدنيّ كان يمكن أن يأخذ الحراك لمستويات أخرى.
محدوديّة مساندة المجتمع الحقوقي والمدني تعود أيضا، جزئيا، لموقف المحامين وتأثيرهم في الخطاب العامّ حول القضاء. إذ لم ينجح القضاة في تعبئة المحاماة في معركة الدفاع عن استقلالية القضاء إلاّ جزئيا، على الرغم من تصاعد الصوت الأقلي المدافع عن الاستقلالية بعد الإعفاءات، بالمقارنة مع ما حصل بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء. على مستوى الهياكل، تواصل موقف العمادة السلبيّ بقيادة العميد إبراهيم بودربالة المناصر لقيس سعيّد وسياساته والمنخرط في مساره التأسيسي الانفرادي[13]. كما اصطفّت الهيئة المديرة لجمعية المحامين الشبان وراء العمادة والسلطة. ولم تكن مواقف الهياكل فقط تعبيرا عن التموقع السياسي لأعضائها، بل عكست أيضا موقفا سلبيّا عامّا في صفوف جمهور المحامين، الذي لم يهرع للدفاع عن استقلالية القضاء. لكنّ ذلك لم يمنع أقليّة ناشطة من المحامين من إحداث خرق مهمّ والانتصار لاستقلالية القضاء بعد صدور الإعفاءات. فبادر محامون مستقلون بنشر بيان مساندة وبالتّعبير عن رفضهم للموقف الرسمي للعمادة. كما نشر عضوان من الجمعية التونسية للمحامين الشبان بيانا مستقلا عن المكتب التنفيذي للجمعية لمساندة القضاة. أمّا الخرق الأهمّ، فجاء مرّة أخرى من فرع تونس لعمادة المحامين، وهو أكبر فروع الهيئة إذ يضمّ نصف المحامين المباشرين، الذي غرّد خارج سرب العمادة ورئيسها.
لقد كان في تأخّر التحاق المحامين بقائمة المناصرين والحلفاء، إشارات عدة حول طبيعة العلاقة التي تجمع قضاة تونس ومحاميها ومدى تمسّك هؤلاء باستقلالية السلطة القضائية. فبالإضافة للاصطفاف السياسيّ الواضح للعميد آنذاك، لم يتحمّس عموم المحامين لمعركة استقلاليّة القضاء رغم ما تمثّله من انعكاسات على فُرص أدائهم لمهنتهم ولم يحرّكوا ساكنا أمام حلّ المجلس الأعلى للقضاء الذين كانوا ممثلين فيه وتعويضه بآخر طُردوا من تركيبَتِه بقرار من سعيّد، كما التزموا الصمت أمام التراجع عن مكتسباتهم الدستورية المتعلقة بالسلطة القضائية. لا شكّ في أنّ لهذه الاستقالة الجماعيّة والتواطؤ الرسمي للهياكل أسباب عدة معقّدة، يختلط فيها السياسي بالقطاعي. لكنّ المقابلات التي أجريناها مع محامين سمحت بإبراز بعض الدوافع المهنيّة. إذ يعود توتّر العلاقة بين القضاة والمحامين لأسباب تتعلّق أساسا بالمشاكل اليومية داخل المحاكم. فقد ساهمت ظروف العمل المتدهورة في مرفق العدالة في خلق علاقة صدامية بين المحامين والقضاة، الذين يمثّلون اليد العليا لما يختصّون به من صلاحيات داخل المحاكم لتنظيمها. ولم يأبه القضاة عموما لمثل هذه الإشكاليات من قبل ولم يبادروا إلا قليلا لتجاوز صعوبات عمل المحامين. كما أنّ إضراب القضاة طيلة شهر من أجل مطالب مادّية، انعكس بشكل مباشر على مصالح المحامين وزاد في توتّر العلاقة في الفترة السابقة لـ25 جويلية 2021. بصفة عامّة، لم تتعامل الهياكل القضائية مع قطاع المحاماة كحليف وجب ربط علاقات شراكة معه، ولم تبذل ما يكفي من الجهد لقراءة مجتمع المحامين وهواجسه وتعقيداته وتناقضاته. كلّ ذلك لا ينفي حقيقة استقالة المحامين وعمادَتهم من الدفاع عن الأسس الديمقراطية بما فيها استقلالية السلطة القضائية. بل أنّ ضعف ردّة فعل المحامين شملتْ أيضا التضييقات على الحقوق والحريات، بما فيها التي طالت زملائهم والتي وصلت حدّ الاعتداء بالعنف والإحالة على القضاء العسكري. كما ساهم انتماء العديد من المحامين لتيارات سياسية موالية للسلطة في عدم تحرّكهم وتبرير تجاوزات هذه الأخيرة.
وعليه، تحمّل القضاة استتباعات ابتعادهم عن المحاماة وممثليها. كما اختار المحامون الاصطفاف وراء السلطة عن قناعة أو عن سلبيّة، أو حتى طمعا في تحقيق مصالح ضيقة. في الواقع، لم تحصّل المحاماة أيّ مكاسب تُذكر من سعيّد، بل فقدت مكانتها الدستورية وتمثيلها داخل مجلس القضاء، وضعفت قدرة المحامين على التصدي للانتهاكات البوليسيّة وعلى ممارسة أبسط مقومات مهنتهم، وأصبح الكثير منهم عرضة للتنكيل والاستهداف بسبب نجاح السلطة في السيطرة على القضاء.
التوجه للإعلام والرأي العام
يتوجّه القضاة لاستقطاب الرأي العام قصد تشريكه في محاولة دحر هيمنة السلطة التنفيذية وتدخّلها. ولكن هذه الاستراتيجية تفرض تحدّياتها المتعددة. فالتقاليد القضائية في تونس تفرض مسافة من دائرة النقاش العام وتفضّل العمل في كنف الصمت بعيدا عن وسائل الإعلام. وهو ما ساهم في تغييب صوتهم ومعطيّاتهم من الصورة العامّة التي ارتسمت حول القضاء والملفات الحارقة المعروضة أمامه. ومع هجمة السلطة التنفيذية وحملات الشيطنة والتشويه التي خاضتها أذرعها، وجد القضاة صعوبة في معركة استقطاب الرأي العام، لما تطرحه من شروط ومتطلّبات مغايرة تماما لظروف عملهم المعتادة. إذ يقتضي إقناع الرأي العامّ تقديم خطاب سهل لجماهير مختلفة ومتعددة، وربط علاقات وثيقة مع الإعلاميين والصحافيين للظفر بمساحة إعلامية، وتقديم أجوبة واضحة وإقناع المتلقّي بعدم صحّة التّهم التي توجّه لهم، في اختلاف واضح للأدوار والمواقع التي اعتادوا عليها في قاعات المحكمة.
خسر القضاة معركة الرأي العام أمام سعيّد لأسباب عدة، لا تتعلّق فقط بأدائهم خلال هذه المواجهة، ولكنّها تشمل سياقات فُرضت عليهم، والاستراتيجية العدوانيّة للسلطة التي لم تكن آليات العمل الاعتياديّة كفيلة بالتصدي لها.
يجب التأكيد أوّلا أنّ نجاح الرئيس سعيّد في مواجهة السلطة القضائية قام أساسا على تشويه صورة القضاة والتشكيك بهم لدى الرأي العام، ولعب دور المُنقذ والمحاسب ومُحارب الفساد. لم يكتفِ الرئيس باحتكار السلطة، بل احتكر الحياة السياسيّة التي أصبحت كلّها تدور حول تصريحاته وأولوياته. فهو الذي يصنع الخبر ويوجّه النقاش العام، الذي تمحور حول اتهامات شتى في حق آلاف القضاة من دون تخصيص أو تنسيب، والانطلاق من “ملفّ” فساد مفترض إلى تعميم الشبهة على كلّ القضاة. قدّم سعيّد القضاة كمعرقلين لمشروع الإنقاذ والمحاسبة الذي سعى إليه، ومن ثمّ كمتآمرين على مساره بسبب تبعيّتهم السياسية والحزبية، ثمّ أيضا كمتقاعسين في أداء وظائفهم. وأخيرا تمّ ضربهم بوابل من الاتهامات كالفساد والإرهاب والتآمر على أمن الدولة، وصولا إلى التدخّل في حياتهم الشخصية ومحاكمة القاضيات بتهم أخلاقية مُهينة لكراماتهنّ ومستبيحة لحياتهنّ الشخصية. كانت حملات التشويه عنيفة بشكل غير مسبوق، واعتمدت على الأبواق الإعلاميّة للسلطة، لكن أيضا على صفحات فايسبوكيّة احترفت الثلب والتشويه ضدّ القضاة. لم يكن من السهل أبدا التعامل مع هجمة وخطاب من هذا النوع. ولعلّ ما عقّد الوضعيّة أكثر، هو أنّ هجمة سعيّد جاءت في سياق تدهورت فيه صورة القضاء لدى الرأي العامّ بشكل سريع، خصوصا المهتمّين بالشأن السياسي.
أوّلا، لقد كان في المعركة التي دارت بين رئيس محكمة التعقيب (الطيب راشد) ووكيل جمهورية تونس1 (بشير العكرمي) قبيل قرارات 25 جويلية واتهامهم المتبادل بالفساد والتواطؤ وقع كبير على تشويه صورة القضاة. لقد أضعف تنازع كبار القضاة (مرتبة ومنصبا) من موقف القضاة وساهم في تسهيل عملية تشويه سمعتهم وهو ما استغلّه سعيّد جيدا.
ثانيا، لقد كان في انتهاج السرية فيما يتعلّق بالمفاوضات مع الحكومة حول الزيادة في الأجور سنة 2020 وتمديد الإضراب عن العمل لمدة تفوق الشهر في ظلّ الأزمة الصحية التي زادت من الصعوبة الملقاة على كتف المتقاضين، ارتداد حادّ على صورة القضاة لدى الرأي العام وفي اهتزاز الثقة بهم. فقد تمّ إخراج القضاة في شكل أشخاص متعالين يطلبون الزيادة في الأجور بينما يحتضر العديد من المواطنين بفعل الكوفيد ويُمنع آخرون من العمل أصلا.
ثالثا، لقد مثلت مواقف القضاة التقليدية والمتعلقة خصوصا بعدم المشاركة بالنقاش العام والابتعاد عن الإعلام، عائقا كبيرا في ربط علاقات وثيقة مع الصحافة والرأي العام كان القضاة في أمسّ الحاجة إليها خلال الأزمة. لم يستشرفْ القضاة وخاصة هياكلهم التمثيلية بأنّه كان عليهم إنجاز مثل هذه الخطوات بصفة مسبقة لا عند اشتداد الأزمة، فكانت جمعية القضاة مجدّدا أحد أكثر الهياكل التمثيلية في الظهور الإعلامي للدفاع عن استقلالية القضاء.
رابعا، حتى خلال المعركة مع سعيّد، تأخّر القضاة في خروجهم عن الصمت. فقد اكتفت الجمعية في الأشهر الأولى من المواجهة بنشر بيانات مكتوبة على صفحتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ثمّ عمدت للظهور الإعلامي ولكنّ خطابها ظلّ نخبويا، فلم يسمح استناده المبالغ فيه إلى المعجم القانوني بكسر الحواجز التواصلية مع الرأي العام. لم يتقنْ بعض القضاة الذين توجّهوا للإعلام كيفية الردّ على الاتهامات المقدّمة في الخطاب الشعبوي للرئيس. كما لم يُدرك القضاة بقيادة هياكلهم التمثيلية والمجلس الأعلى للقضاء شروط مخاطبة الرأي العام. فبينما كان المهاجم يستعمل خطابا مباشرا منفعلا، كان ردّ القضاة في شكل بيانات مكتوبة محمّلة بعبارات قانونية لا يفهمها أغلب المتلقّين. لقد كان على القضاة ترك الخطاب التقني القانوني والتوجّه للرأي العام بأجوبة مقنعة عبر خطاب سهل ومستساغ.
خامسا، لم تبدِ وسائل الإعلام المحلية الاهتمام الكافي لمعركة استقلالية السلطة القضائية رغم أهميّتها كحدث اجتماعي وسياسي مركزي، الأمر الذي تمثل في ضعف التغطية الإعلامية المحلية، وهو واقع برز جليا عند مقارنته بالتغطية الواسعة لوسائل الإعلام الغربي، وبخاصة تبعا للإعفاءات.
إضافة إلى ذلك، ساهم تغيّب جلّ الهياكل القضائيّة باستثناء الجمعيّة عن المعركة الإعلامية، وضعف خطاب النقابة وانحيازه في البداية للسلطة، وعدم خوض المجلس الأعلى للقضاء الشرعي ورئيسه معركة الرأي العامّ، في إضعاف صفّ القضاة. وعليه، واجه القضاة ليس فقط خطابا شعبويا فرجويّا بل أيضا مشهدا إعلاميا ما زال يعاني من هنات كبرى وتكنولوجيا اتصالية جديدة شُنّت من خلالها حملات تشويه (نشر تسجيلات صوتية، نشر قائمات إسميّة للقضاة والتهديد بالإعفاء، نشر أخبار ودعايات كاذبة متعلقة بقضاة يخرجون للإعلام) ضدّ العديد من القضاة الفاعلين بالحراك القضائي. وما من شكّ أن ضعف مساندة المحامين والنّخب بصفة عامّة زاد في عزلة القضاة الإعلاميّة.
تأسيس تحالفات سرية في الداخل والخارج
لا تحيل هذه الاستراتيجية لتخطيط مؤامرتي يقوم القضاة بتنسيقه وإنّما للعلاقات الاجتماعية والتحالفات التي يمكن إبرامها قصد الدفاع عن استقلاليتهم في إطار استراتيجيات غير رسمية. يذكر تروتشاف (A.Trochev) وإلات (R.Ellet) أمثلة عدة عن بعض التحالفات السرية التي يعقدها القضاة للدفاع عن استقلاليتهم، نذكر من بينها على سبيل المثال تحالف القضاة الأوكرانيين مع الأطباء الذين يصدرون مذكّرات لنقلهم إلى المستشفى عند تعرّضهم لهجوم من قبل السلطة، أو يمكّنونهم من إجازات مرضية خلال الحملات الانتخابية[14].
لم يتمّ توثيق مثل هذه التحالفات السرية بخصوص حراك القضاة في تونس، ولم نتحصّل إلا على بعض الإشارات في حدود ما سمحت به المقابلات التي أجريناها. ويصعب، في هذا المستوى من الدراسة، قياس تأثيرها على الأحداث.
كانت أبرز المحاولات في هذا الصدد في علاقة بالمجلس المؤقت للقضاء. فعلى الرغم من إعلان الجمعية تمسّكها بشرعية المجلس الأعلى للقضاء المنتخب ومقاطعتها للمجلس المؤقت المنصّب مكانه، بادر بعض القضاة بالاتصال بأعضائه والتنسيق معهم. وقد يكون هذا التواصل قد ساهم في عدم انخراط المجلس بشكل كامل في استراتيجية الرئيس، بما دفعه إلى تجاوزه ثمّ تعطيله تماما. كما أكّد بعض من قابلناهم حصول اتصال بالقاضية إشراف شبيل، زوجة الرئيس قيس سعيّد، بعد إصداره قرارات إعفاء القضاة قصد طلب تدخّلها للدفاع عن زملائها. هذا بالإضافة، للاتصال غير المباشر مع بعض الشخصيات السياسية والحزبية المعارضة لقرارات سعيّد والتي أعلنت دفاعها على القضاة المعفيين واستقلالية السلطة القضائية مع اشتراط عدم حضورهم أو ظهورهم في كلّ الندوات الصحفية التي نظّمتها الهياكل التمثيلية للقضاة أو قيامهم بزيارات مساندة للقضاة المضربين عن الطعام. كما تمّ أيضا التنسيق مع بعض المحامين، خصوصا بعد صدور قرارات الإعفاء، الذين خلافا لموقف عمادتهم كانوا من المناصرين للقضاة في مواجهتهم لسعيّد.
لكنّ هذه المبادرات كانت في جلّ الأحيان فرديّة، وجاءت في سياق تخبّط القضاة أمام هجمة السلطة وسعيهم لفكّ عزلتهم. فلجأ القضاة لمنطق التضامن القطاعي والعلاقات الاجتماعية التي تربطهم بالعديد من الفاعلين قصد طلب المساعدة منهم وحثّهم على المساهمة في الدفاع عن السلطة القضائية واستقلاليتها.
3. الدروس المستخلصة وماذا بعد؟
تآكل زخم الحراك القضائي وانفضّت التحالفات الاجتماعية من حوله من دون إرغام السلطة على التراجع عن أي من إجراءات وضع اليد على القضاء. فرغم صدور قرارات المحكمة الإدارية، لم يُسمح للقضاة المعفيين بالعودة لمناصبهم. وفيما قدم أغلب القضاة المعفيين من منطلق شعورهم باستحالة عودتهم إلى العمل القضائي طلبات ترسيم لدى هيئة المحامين وسددوا الرسوم المرتفعة لهذه الغاية، فإن هيئة المحامين ما تزال حتى اللحظة تمتنع عن النظر في طلباتهم. وعليه، وجد العديد منهم أنفسهم في هشاشة اقتصادية واجتماعية قاسية. ولم يتمّ إرساء المجلس القضائي الجديد وفق دستور الرئيس، وتمّ تعطيل المجلس المؤقت للقضاء العدلي، لتحكم وزيرة العدل بنفسها ومباشرة بالقضاء من خلال استعمال مذكرات عمل. كما بوشرت الملاحقات ضدّ قادة الحراك كرئيس جمعية القضاة أنس الحمادي بينما عوقب آخرون بنقلهم تعسّفيا من أماكن عملهم. اندحر الحراك فانحصرت مقاومة القضاة في مربّع التضامن مع الزملاء المعفيين وتنديد جمعية القضاة بالملاحقات والهرسلة المسلطة عبر بياناتها المكتوبة. كان لاندحار الحراك وإحكام القبضة على المؤسسة القضائية بخاصة منها النيابة العمومية ارتدادات عدّة. فقد نجح سعيّد في تحويل القضاء إلى أداة بين يدي السلطة التنفيذية يتمّ تسليطها لضرب المعارضة والتضييق على المجتمع.
لا يعود تدهور الوضع الحقوقي وتضخّم التجاوزات وعدم احترام النصوص القانونية وانتشار مناخ الخوف والترهيب لقبول قضاة معيّنين بخدمة النظام. بل كان نتيجة انكسار الحراك الذي أراد الانتصار لقضاة رفضوا الانصياع للأوامر ونتيجة تقاعس النخب المدنية والسياسية وعدم الانخراط الجديّ للدفاع عن الضمانات المؤسساتية الدنيا لاستقلالية السلطة القضائية. لقد تُرك القضاة الذين تشقّهم عدة تناقضات وحدهم في مواجهة السلطة لكي يخوضوا معركة الاستقلالية فانتهى الأمر بانتكاسة مسّت بالمكتسبات الحقوقية وسيطرة السلطة التنفيذية على مفاتيح السجون لتضرب معارضيها من سياسيين وحقوقيين وصحافيين ونقابيين ومحامين وقضاة وتحكم قبضتها على المجتمع.
مثلّ الحراك القضائي 2021-2022 إحدى أبرز محطات الدفاع عن مكتسبات الثورة والديمقراطية بعد 25 جويلية 2021 ولكنّ اندحاره لا يقلّل أبدا من أهميّة قراءته واستخلاص الدروس. أثبت امتحان استقلالية القضاء أنّ هشاشة الحراك وضعف مقاومته يعود بالأساس إلى هشاشة القوى الديمقراطية ونزعتها الحقوقية. كما أثبت أنّ ما أبرزته مكتسبات استقلالية السلطة القضائية من هشاشة وضعف يعكس بدوره حقيقة هشاشة البناء الديمقراطي. إنّ استخلاص دروس الديمقراطية وما تلاها من انتكاسة يدفع بالضرورة نحو التفكير الجماعي في تصوّر مفهوم الاستقلالية التي يجب أن تتوفّر للسلطة القضائية. لتحقيق ذلك وَجبت الإجابة عن السؤال المركزي الذي بعثر أوراق القضاة خلال أشهر الحراك، ألا وهو أيّ استقلالية نُريد لهذه السلطة القضائية؟ وما هي أهمّ ملامحها وشروطها؟ وما هي ضماناتها القانونية والمؤسساتية؟
تقترن الاجابة على سؤال الاستقلالية بالتفكير في الدور الاجتماعي للقضاة. لا تمثّل الاستقلالية غاية بحدّ ذاتها. بل هي وسيلة لتحقيق الدور الذي يضطلع به القضاة في مجتمعهم. وهو ما يُحتّم الإجابة على سؤال مركزيّ: أيّ قاض نريد؟ وما هو الدور الاجتماعي الذي يلعبه؟ في هذا الإطار، سيركّز تحليلنا التالي، أوّلا، على مفهوم الاستقلالية ونموذجها المتنازع حوله. كما سنهتمّ ثانيا، بملامح القاضي الذي سيمارس هذه الاستقلالية ويدافع عنها.
تصوّر جديد لاستقلالية السلطة القضائية
يعكس تباين استراتيجيات الهياكل القضائيّة وتعثّر المقاومة داخل مجتمع القضاة، مشكلا أعمق يتعلّق بعدم وضوح وتناسق تصوراتهم للسلطة القضائية واستقلاليتها. ففيما يدافع التيار الاستقلاليّ من القضاة عن استقلالية وظيفية وهيكلية تتماشى ومقتضيات النظام الديمقراطي، يتمسّك غالبية القضاة بالتصوّر الكلاسيكيّ لسلطتهم ومهامها. وفي هذا الإطار، تؤكّد الدراسة المعدّة حول الأخلاقيات القضائية[15] (والتي قدمت قراءة في نتائج استمارة تمت الإجابة عنها من قبل 254 قاضيا وقاضية أي أكثر من 10% من قضاة تونس) مدى انتشار هذه الرؤية في صفوف القضاة. إذ بالاستناد على أجوبة القضاة، يمكن استنتاج ملامح التصوّر العام للوظيفة القضائية ومقتضياتها. عبّر القضاة عن إيلائهم أهمية كبرى للتصوّر التقليدي لوظيفتهم، المتأسّس على فكرة تطبيق القانون واحترامه، كما سجّلوا عدم تفضيلهم لاستعمال وسائل تحرّك وتعبير مرتبطة بالفضاء العام في حال حُملوا على الدفاع عن استقلاليتهم. ويجسّد هذا التشبّث بمبادئ الحياد والتحفّظ والتقيّد بوسائل الدفاع المؤسساتية واختزال دور القاضي في وظيفة النطق بالقانون، تصوّرًا كلاسيكيّا للسلطة القضائية واستقلاليتها. هذا التصوّر التقليدي لا يتماشى مع ما تتطلّبه مقاومة هجمة غير مسبوقة على القضاء كتلك التي تحصل منذ 25 جويلية 2021. فقد أثبت تسلسل الأحداث أنّ أفق “الاستقلالية الوظيفية” لا يضمن بالمرّة استقلالية القضاء، في غياب الضمانات المؤسساتية والهيكليّة. بل أنّ بعض القضاة المتمسّكين بمبدأ الاستقلالية الوظيفية، المرتبطة فقط بشروط ممارسة المهنة من قبل القضاة أمام “وجدانهم”، كانوا الأكثر خضوعا لتعليمات السلطة التنفيذيّة.
باختصار، لم تنجح التجربة الديمقراطيّة ومكاسبها القانونيّة في إحداث تغيير جذري في تصوّر القضاة لمهنتهم واستقلاليّتهم. لكنّ الانتكاسة الحاليّة وتجربة توظيف القضاء لسجن الخصوم السياسيّين والمدنيّين والتضييق على الحقوق والحريات، قد تكون درسا مهمّا لتدارك ذلك. فالمطلوب من الهياكل القضائيّة رسم رؤية سياسية جديدة لهذه السلطة وشروط استقلاليّتها، ولكن أيضا مقارعة الأسئلة المحرجة حول تسيّس القضاة وواجب التحفّظ وموقعهم المجتمعي. إذ أنّ اختزال النقاش حول استقلالية القضاء في التفاصيل القانونية التقنيّة ونزع الرهان والطابع السياسي عنه لا يخدم سوى مصلحة السلطة السياسيّة الراغبة في تحويله إلى أداة بين يديها.
لقد أعطت التجربة دليلا عمليّا على أنّ استقلالية السلطة القضائية شرط أساسي لأيّ نظام ديمقراطي، بل لاحترام الحدّ الأدنى من الحريات العامّة. فلا مأسسة لنظام ديمقراطي ولا تأسيس لسلطات مستقلة ومتوازنة فيما بينها في غياب سلطة قضائية مستقلة. والسلطة هنا لا تعني ممثليها من قضاة كأفراد فقط بل تعني أيضا المؤسسات ونواميسها وعلاقتها مع السلط الأخرى. من هنا تكمن الضرورة في الدفاع ليس فقط عن القضاة وعن استقلاليتهم لدى ممارسة وظيفتهم، بل عن المؤسسات القضائية وعلى رأسها المجلس الأعلى للقضاء وهياكله. هذا بالاضافة للرؤية السياسية لهذه الاستقلالية ولهذه السلطة. فالاستقلالية ليست غاية في حدّ ذاتها، بقدر ما هي وسيلة وجبت المقاومة للحفاظ عليها خدمة لمشروع أساسي ألا وهو حماية أسس النظام الديمقراطي ومجتمعه وما يشترطه من دفاع عن الحقوق والحريات وتحقيق للعدالة الاجتماعية. وهو ما يضع على عاتق القضاة رسم تصوّر جديد للاستقلالية مستبطن من وعي عميق بدورهم الأساسي الذي يضطلعون به في الدولة والمجتمع.
إعادة تشكيل ملامح وهوية القاضي
ترتبط الرؤية السياسية للاستقلالية ارتباطا وثيقا بالمقاربة التي يجب اعتمادها للوظيفة القضائية وللدور المنوط بالقضاة. إنّ إعتماد تصوّر جديد للسلطة القضائية ولاستقلاليتها في ظلّ النظام الديمقراطي، يحتّم إعادة النظر في ملامح وهوية القاضي الذي سيمارسها وهو ما يُترجم واقعيا في الدور الذي سيلعبه القضاة وسط مجتمع قيد التغيير ووسط دولة تخوض انتقالا على مستوى نظام الحكم. في هذا الإطار، يعبّر فرانسوا أوست (François Ost) عن الأدوار الثلاثة التي يمكن أن يلعبها القضاة حسب المجتمعات التي ينتمون إليها[16]. فيحدّد في هذا الإطار ثلاثة نماذج لهوية القاضي التي تنبثق وتتناسب مع التشكيلات والسياقات الاجتماعية الثلاث المعبّر عنها في المجتمع التقليدي، والمجتمع الليبرالي، والمجتمع ما بعد الصناعي. يفسّر أوست (F.Ost) بأنّ المجتمع التقليدي يخضع لقوانين مكتوبة قليلة وهو ما يجعل القواعد التي تنظمه أقرب إلى الطقوس أو الأعراف وهو ما يحتّم على القاضي إذا أن يلعب دور “صانع السلام” في حال ظهور نزاع يهدّد استمرار هذا النظام. أمّا المجتمع الليبرالي فيخضع لقوانين أكثر صرامة وأكثر دقة وتبرز فيه فكرة البحث عن التطوّر على المستوى الفردي وهو ما يدفع القاضي على لعب دور “الحكم” وهو بذلك المسؤول الوحيد على ضمان الامتثال للقوانين الموضوعة. أما في المجتمعات ما بعد الصناعية بمعنى المجتمعات في تكويناتها الحالية فانّ الأداء المجتمعي مرتبط لا فقط بالقوانين والقواعد بل أيضا بطبيعة العلاقات الاجتماعية وتكاملها. في هذا الإطار، يتوجّب على القاضي خلع جبّة القاضي الحكم وتقمّص دور القاضي “الرائد” (le juge entraîneur) الذي يساهم من خلال قراراته وقراءته القانونية في تحسين الأداء المجتمعي وتطوّره ككلّ.
تترجم نماذج أوست (F.Ost) لهوية القاضي، مختلف التصورات التي قد ترسم دور القضاة في علاقة بمجتمعاتهم. ففي المجتمعات الديمقراطية، لا يقع على القضاة فضّ النزاعات وفرض احترام القانون فقط، بل يتّسع دورهم للمساهمة في الحفاظ على أسس المجتمع الديمقراطي. إنّ الدفاع عن الحقوق والحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية يشترطان ليس فقط تطبيق القوانين والنطق بها بل في أغلب الأحيان عقلنة هذه القوانين والاحتكام لأهدافها ومبادئها وفلسفتها وليس الوقوف في حدود نصّها. وهو ما يقتضي ترسيخ ملامح معيّنة للقاضي الذي سيضطلع بهذه المهام ولدوره الذي يتماشى مع الإيديولوجيا الجديدة للسلطة القضائية واستقلاليتها. وجب هنا التذكير بأنّ دستور 2014 كان قد أسّس لبعض هذه الملامح فأوكل للقاضي مهمّة الدفاع عن الحقوق والحريات لا فقط إقامة العدل وتحقيق سيادة القانون. وهو ما يجعل من القاضي التونسي قاضيا رائدا من دون التقيد بتطبيق القوانين الوضعية على معنى ما قدّمه أوست. يبقى أنّ هذا التصوّر لدور القاضي التونسي لم يحظَ بالوقت الكافي ولا بالسياسات والممارسات الضرورية لتنزيله على أرض الواقع.
إعادة رسم ملامح القضاة تمرّ حتما عبر إعادة النظر في تكوينهم واكتسابهم للمهارات لأنّ تطوير هذا الوعي مرتبط بأفكار القاضي وعقيدته التي يتمّ تجذيرها أساسا خلال مرحلة تكوينه. فتبنّي القاضي للأطر الفكرية للسلطة القضائية واستبطانه للرؤية السياسية المؤطّرة لدوره المجتمعي واستقلاليته مرتبط في جزء منه بفترة تكوينه في كليات الحقوق أوّلا، ثمّ بالأخصّ في المعهد الأعلى القضاء. وهو ما يتطلّب العودة لقراءة مرحلة تأسيس هذا المعهد بقانون 11 أوت 1985 في ظلّ نظام استبدادي، أشهرا قليلة بعد إضراب جمعيّة القضاة الشبان. لقد سعى النظام إلى إرساء قضاء تابع وخاضع للسلطة التنفيذية وهو ما اقتضى تكوين قضاة يستَبطنون أدوارا ضيقة لمنصبهم وبالتالي إضعاف أيّ نزعة استقلاليّة أو مناضلة داخلهم. فعمل النظام على تكوين القضاة على شاكلة القاضي النموذجي الذي اختاره: وهو قاض يمتنع عن أي دور سياسي أو اجتماعي ويمتنع عن أي عمل نضالي ويلتزم بالهرميّة القضائية والتفسير الضيق للقوانين وينعزل عن مجتمعه. وهو ما أدّى لنشأة القاضي المنسجم وهو نموذج من قضاة النظام فيطيع أوامر الرؤساء ويحترم الهرمية وينسجم مع الإدارة وتعليماتها[17]. لم تغيّر الثورة والانتقال الديمقراطي الكثير في مجال تكوين القضاة، بما يتماشى والرؤية الجديدة للمجتمع والسلطة. تأتي أحداث الحراك القضائي لتكشف مدى محدودية انتشار الرؤية الاستقلالية التقدمية داخل الجسم القضائي، على الرغم من الانتدابات الكثيرة في أسلاك القضاة التي أدّت إلى تجديد 60% من الجسم القضائي بعد الثورة[18]. وفي غياب دراسات دقيقة حول هذا الجيل من القضاة والتصورات التي يحملونها حول السلطة القضائيّة واستقلاليتها ودورها، لا يمكن لنا في إطار هذه الدراسة سوى تقديم بعض الملاحظات الناتجة عن دراسة ومراقبة الحراك القضائي:
أوّلا، لم ينعكس التغيير العميق في ديموغرافيا الجسم القضائي على تركيبة جمعيّة القضاة، على عكس نقابة القضاة التي ضمّت قيادات شابّة. لقد تمّت إدارة الحراك القضائي بقيادة قضاة الصفّ الأوّل الذين خاضوا مواجهة 2005 وتمت معاقبتهم آنذاك من قبل النظام (أنس حمادي، روضة قرافي، يوسف بوزاخر وغيرهم). خوض مواجهتين تاريخيّتين في فترة تتجاوز 15 سنة بنفس القيادة من المناضلين يعكس محدودية انتشار التيار الاستقلالي داخل مجتمع القضاة، وقصور الجمعية طيلة سنوات الديمقراطية على التوجه لإقناع الجيل الجديد من القضاة واستقطابه. تطرح هذه الملاحظة أسئلة أخرى حول الديمقراطية الداخلية والانفتاح داخل الجمعيات المناضلة زمن الاستبداد، حيث حافظت جلّ المنظمات التاريخية على أساليب عمل منغلقة موروثة من زمن الاستبداد والخوف من استراتيجية الاختراق التي اعتمدها النظام. فكانت ربّما هشاشة القوى التي يفترض فيها أن تدافع عن الديمقراطيّة، متأتيّة جزئيا من افتقارها للممارسة الديمقراطيّة داخلها.
ثانيا، تبرز ضرورة إعادة النظر في تكوين القضاة عند إمعان النظر في مميّزات القضاة البارزين بالحراك القضائي من غير المنتمين لجيل أحداث 2005. فعند محاورتنا للبعض منهم وسؤالنا عن أسباب اهتمامهم بالشأن العام والديمقراطية واستقلالية السلطة القضائية، تمحورت جلّ الإجابات حول مساراتهم الحياتية وسياقاتها الاستثنائية أو بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لنشأتهم. فقد أكّدوا خلال الحوارات أنّهم طوّروا اهتمامهم بالشأن العام خارج أسوار المعهد الأعلى للقضاء، فمرّ تكوّن وعيهم السياسي إمّا عبر تجربة جمعياتية سابقة، أو نتيجة نشأتهم في أوساط اجتماعية تهتمّ بالسياسة، أو لمعايشتهم زخم الحراك الطلابي بالجامعة ومتابعتهم له، أو لعلاقات الزمالة والصداقة التي جمعتهم بالقضاة المشاركين في مواجهة 2005. في هذا الإطار، أجمع القضاة على ضعف برامج التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء واقتصاره على البُعد التقني. هذا بالاضافة لما عايشوه قبيل اندلاع الثورة من هرسلة وترهيب لمنعهم من ربط علاقات اجتماعية متنوعة بدعوى التقيّد بأخلاقيات المهنة والحفاظ على هيبة القاضي وصورته. وهو ما تعمّد النظام الاستبدادي تسليطه على القضاة قصد تكوينهم بمعزل عن مجتمعهم وضبط تحرّكاتهم وعلاقاتهم في إطار مغلق لا يُسائل ولا يَتسائل. وهو ما يدفع للقول بأنّ الوعي السياسي والمجتمعي للقضاة لا يمكن أن ينحصر في أسوار المؤسسات التكوينية ولا أن تُحمّل مسؤوليّته كاملة على عاتق القضاة أنفسهم. فالقاضي هو نتاج بيئته ومجتمعه. والتضييق على الحريات وعلى التداول في الشأن العام يخلق بدوره مواطنين ومن بينهم قضاة منقوصي الوعي السياسي والديمقراطي. وهو ما يدفع للبحث عن فضاءات حرّة بديلة للتداول والنقاش ولكسر هذا الحصار المفروض على تفكير القضاة وغيرهم من المواطنين.
ثالثا، يلاحظ المتابع للحراك القضائي مدى مساهمة القاضيات به وتقدّمهنّ في الدفاع عن استقلالية القضاء وعن زملائهنّ المظلومين. لا يظهر ذلك فقط من خلال مساهمة جمعية القاضيات التونسيات المباشرة بتنسيقية الهياكل التمثيلية وخطاب رئيستها التصعيدي والقويّ، بل يشمل أيضا مشاركة قاضيات أخريات في قيادة الحراك والتعبئة له. ولئن تعود مساهمة النساء القاضيات في مواقع قياديّة للنضال من أجل استقلالية القضاء إلى جذور تاريخية، فإنّ سياق الحراك الأخير ساهم أيضا في تولّي القاضيات دورًا مركزيّا فيه. فقد كان التهجّم على القاضيات المعفيّات من قبل سعيّد بتُهم أخلاقيّة دافعا قويّا لزميلاتهنّ للانخراط في الحراك لما كان يحمله من معانٍ ودفاع عليهنّ. لقد رفع الحراك شعارات لا تتعلّق فقط باستقلالية السلطة القضائية بل حملت أيضا بُعدا نسويا ضدّ الممارسات الذكورية المنتهكة لكرامة النساء. وهو ما رافقه التحاق المنظمات النسوية لمساندة الحراك القضائي ومساهمتها في حشد المناصرين له. لقد أكّد بعض القضاة الذين حاورناهم في هذه الدراسة على الدور الذي لعبته القاضيات، وعلى الشجاعة الأكبر التي أبدينها في التعبير عن آرائهنّ ومواقفهنّ.
الخلاصة
لا شكّ أنّ دور القضاة وما يحتكمون إليه من صلاحيات داخل هياكل الدولة يجعل منهم فريسة مغرية للسلطة التنفيذية. سيستمرّ بحث هذه الأخيرة ومحاولتها للسيطرة عليهم وللتدخّل في سير العدالة لما يمثّلونه من سلطة على فرض احترام القانون ومحاكمة الخارجين عنه. وهو ما يقتضي ضمنيّا الدفاع المستمرّ عن استقلالية السلطة القضائية، وإرساء ضماناتها واستمرارية الحركات المدافعة عنها.
تحقيق هذه الأهداف مرتبط بشروط وفاعلين مختلفين. أوّلها السلطة السياسيّة نفسها، ومشاريعها وتكتيكاتها. فهل اكتفت السلطة بالهيمنة التي حققتها أم أنّ احتياجاتها لمزيد السيطرة على القضاء أساسا ومفاتيح السجون خصوصا سيدفعها للقيام بخطوات أخرى تزيد من تعميق الأزمة وتضيّق الخناق أكثر على القضاة؟
كما أنّ هذه السيناريوهات مرتبطة أيضا بتعديل اصطفاف النخبة السياسية والمدنيّة ومواقفها والمحامون جزء أساسي فيها، فضلا عن مكانتهم في مشهد العدالة. فقد دفعت النُّخب غاليًا ثمن تثاقلها في الدفاع عن استقلالية القضاء خصوصا عند تزايد وتيرة الاعتقالات والملاحقات التي طالت السياسيين والنقابيين والصحفيين والحقوقيين مع بداية 2023. لقد بات واضحا بأنّ القضاء يُمثّل آخر معاقل الدفاع عن الحقوق والحريات وهو ما يفرض بالتالي الدفاع عن استقلاليته وعدم ترك القضاة وحدهم في مواجهة الرئيس الذي لا يتردّد في ضرب كلّ من يقف أمامه.
كما ترتبط استمرارية الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية أيضا بجمهور القضاء ومدى تجمّعهم حولها. لا يتعلّق الأمر بمدى انخراط القضاة عدديّا بالحراكات وإنّما بالأسباب التي تقف وراء هذا الانخراط. فإذا كان القضاة لا يُقدمون على الانخراط بقضية الاستقلالية إلاّ لأسباب شخصية أو فئوية وقطاعية، فلن يساهم حشدهم وزخمهم في حسم المعركة ولا الانتصار أمام من يهدف مشروعه لتقويض استقلالية القضاء.
تتقاطع كلّ السيناريوهات في عنصر مركزيّ متعلّق بإعادة النظر في التصوّر الجماعي لاستقلالية السلطة القضائية كأحد أسس النظام الديمقراطي وبإعادة التفكير وتشكيل شروط القضاة الذين سيملؤون فضاء هذه السلطة وما سيلعبونه من أدوار اجتماعية. وهو ما يمثّل مهمّة صعبة يتطلّب إنجازها أوّلا تشكيل الرؤية السياسية العامة التي تتناول نظام الحكم ككلّ ومن داخله السلطة القضائية المنشودة كما يتوجّب تنزيلها عبر مشروع وطني يأخذ بعين الاعتبار مدة وشروط إنجاز مثل هذه الإصلاحات.
لا شكّ أنّ الحراك القضائي 2021-2022 قد اندحر. ولكنّ هذه الاستكانة لا تعني نهاية المقاومة القضائية. لقد أثبت تاريخ الحراكات القضائية قدرتها على الترميم والانبعاث من جديد من رحم الهشيم والانكسار ولن يكون السياق الحالي استثناءً في ذلك. فرغم كلّ ما تمّ تسليطه من ضربات موجعة للقضاء، ما زال هذا الأخير ينبض بتحرّكات مقاومة متعدّدة وإن كانت صامتة. لقد أبرز المجلس الأعلى للقضاء المؤقّت، على غير المنتظر، مقاومة ناعمة ولكنّها فاعلة لسلطة الرّئيس. كما أبدى القضاة الذين فُرضت عليهم مهام الملاحقات السياسية مقاومات فرديّة صامتة أمام الملفّات التي فُرضت عليهم. ومن أشكال هذه المقاومة، تقديم شهادات مرضيّة لتفادي تطبيق تعليمات السلطة ضدّ معارضيها، وصولا إلى تحرّكات أكثر حدّة عبر رفض تطبيق الأوامر وهو ما انتهى بعزل أحد قضاة التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
على الرغم من انتكاسة حراكه ونجاح السلطة في السيطرة على النيابة العمومية والتحقيق وفي هندسة القضاء، إلاّ أنّ نبض المقاومة داخله لم يسكت تماما. كان الحراك القضائي 2021-2022 حلقة من سلسلة حراكات قضائية مقاومة توّجت تاريخ القضاء وستواصل رسمه وجب على القوى الديمقراطية والمجتمع الالتفاف حولها لإرساء النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية.
[1] تمّت محاورة القاضي يوسف بوزاخر (رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ)، القاضي عفيف الجعيدي، القاضي أيمن شطيبة (رئيس نقابة القضاة)، القاضي حمادي الرحماني، القاضي قيس الصباحي، القاضي أنس الحمادي (رئيس جمعية القضاة التونسيين)، كريم المرزوقي (محامي)، عدنان العبيدي (محامي وعضو بالجمعية التونسية للمحامين الشبان). تمّ الاتصال بكلّ من القاضية روضة القرافي (الرئيسة الشرفية لجمعية القضاة التونسيين) والقاضية مليكة المزاري (عضو المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ ورئيسة مجلس القضاء العدلي) والقاضية رفقة المباركي (رئيسة اتحاد القضاة الاداريين)، والمحامية إيمان قزارة (محامية وعضوة بهيئة الدفاع عن الشهيدين)، مهاب القروي (عضو بجمعية أنا يقظ)، وبشرى بلحاج حميدة (محامية وحقوقية ومنسّقة اللجنة المدنية للدفاع عن استقلالية القضاء) ولكن لم نتمكّن من محاورتهم.
[2] Cameron (Maxwell A), Presidential coup d’État and regime change in latin american and soviet successor states: Lessons for Democratic Theory, 1998, Working Paper 249, The Helen Kellogg Institute for International Studie, February 1998.
[3] الرديسي (حمادي)، 2022، منبر: 25 جويلية، أي انقلاب وأي دكتاتورية؟، جريدة المغرب.
[4] يمكن تعريف الديمقراطية بالاعتماد على مفهوم ” Polyarchy” المطوّر من قبل روبرت دال (Robert Dahl) على أنّها لا تشترط انتخابات حرة ونزيهة وتنافسية فحسب، بل تتطلب أيضا الحقوق والحريات التي تجعلها ذات مغزى حقيقي (مثل حرية التنظيم وحرية التعبير)، ومصادر بديلة للمعلومات، ومؤسسات لضمان اعتماد سياسات تكرّس اختيارات المواطنين وأصواتهم.
[5] Levitsky (Steven) and Way (Lucan A.), Elections Without Democracy, The rise of competitive authoritarianism, 2002, Journal of Democracy Volume 13, Number 2 April 2002.
[6] Diamond (Larry Jay), Thinking About Hybrid Regimes, 2002, Journal of Democracy, Volume 13, Number 2, April 2002.
[7] أليكسي تروشيف هو باحث بالعلوم السياسية وأستاذ محاضر درّس بالعديد من الجامعات. متحصّل على شهادة الدكتوراة بالعلوم السياسية من جامعة “كوين” بكندا. له مؤلّفات عدّة في علاقة بالقضاء خصوصا بروسيا نذكر منها :
“Judging russia : constitutional court in russian politics”, Cambridge university press, 2008.
[8] أستاذة وباحثة بالعلوم السياسية ب Beloit College بويسكنسن بالولايات المتحدة الأمريكية. متحصّلة على شهادة الدكتوراة من جامعة نورثايسترن ببوسطن ولها عدّة مقالات ومؤلّفات تتناول القضاة وعلاقتهم ببقية السلطات. نذكر على سبيل المثال كتابها :
“Pathways to Judicial Power in Transitional States: Perspectives from African Courts”, Routledge, 2013.
[9] Trochev (Alexei) and Ellett (Rachel), Judges and Their Allies: rethinking judicial autonomy through the prism of off-bench resistance, 2014, Journal of Law and Courts Vol. 2, No. 1 (2014).
[10] غمرون (سامر)، “القضاة التونسيون بين السلطة والجمعية والنقابة: ماذا تعلمنا التعددية التمثيلية داخل الجسم القضائي؟”، المفكّرة القانونية، 2012.
[11] أنظر القسم الأوّل من الدراسة.
[12] منظمة العفو الدولية، المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، منظمة محامون بلا حدود، منظمة الأورومتوسطية للحقوق، وغيرها من المنظمات الدولية.
[13] المرزوقي، كريم، “عميد المحامين في رحى “الجمهورية الجديدة”: المحاماة “الرسمية” في صف السلطة”، نُشر في المفكرة القانونية، جوان 2022.
[14] Trochev (Alexei) and Ellett (Rachel), op. cit.
[15] صاغية (نزار)، الهاشم (خليل)، “قضاة تونسيون كما يتصوّرون مهنتهم” قراءة في نتائج استمارة حول الأخلاقيات القضائية، المفكرة القانونية، 2022.
[16] Ost (François), “Juge-pacificateur, juge-arbitre, juge-entraîneur. Trois modèles de justice”, ouvrage collectif intitulé “Fonction de juger et pouvoir judiciaire”, Presses de l’Université Saint-Louis, 1983.
[17] سامر غمرون، نزار صاغية، القضاء العربي في زمن الاستبداد: قضاة تونس ومصر بين قواعد المهنة وضرورات السياسة، المفكرة القانونية، 2016.
[18] حسب تصريح القاضي يوسف بوزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ خلال المقابلة التي تمّ إجراءها معه بمناسبة إعداد هذه الدراسة بتاريخ 13 أكتوبر 2022.