الظاهر أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي اكتشف “آلية قانونية” جديدة من أجل ممارسة السلطة عبر إصداره لمجموعة تعاميم غريبة عن المشهد القانوني للدولة اللبنانية. وقد باتت هذه الممارسة ظاهرة مكتملة الأوصاف تجلت في التعاميم التالية:
–التعاميم المختلفة التي أوجدت بدعة “الموافقات الاستثنائية” في ظل حكومات تصريف الأعمال منذ 2013 وحتى اليوم.
–التعميم رقم 36 الصادر سنة 2022 والذي أرسى فيه رئيس الحكومة المستقيل قاعدة عدم ضرورة توقيع المراسيم في ظل شغور رئاسة الجمهورية من قبل جميع الوزراء.
-الكتاب الذي وجهه الرئيس ميقاتي إلى وزير الداخلية في 22 شباط 2023 والذي يطلب بموجبه عدم تنفيذ القوى الأمنية لأوامر النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون في قضية التحقيق مع المصارف عن مصير مليارات الدولارات الضائعة.
-التعميم الذي وجهه الرئيس ميقاتي في 7 حزيران المنصرم إلى الوزارات والإدارة العامة كافة من أجل التقيد والالتزام بتعميم المدعي العام التمييزي بالانابة إلى الأجهزة الأمنية من أجل كفّ يد القاضية غادة عون وعدم الأخذ بأي إشارة صادرة عنها، علما أن المديرية العامة في وزارة العدل عمدت في العاشر من أيلول، أي بعد ثلاثة أشهر من “تعميم” ميقاتي، إلى إبلاغ هذا الأخير إلى الرؤساء الأول لمحاكم الاستئناف، ما يطرح تساؤلات جدية حول المرامي الفعلية لهكذا خطوة الآن.
وكان المكتب الإعلامي لرئيس حكومة تصريف الأعمال قد ردّ على موجة الانتقادات التي طاولت هذا الأخير بعد طلبه من جميع الوزارات والإدارات الالتزام بتعميم مدعي عام التمييز قائلا بأن “دولة الرئيس هو المخوّل دستورياً وقانونياً إصدار التعاميم وتعميمها على الوزارات والإدارات كافّة”.
ولا شكّ أن موقف الرئيس ميقاتي يستند إلى الفقرة السابعة من المادة 64 من الدستور التي أضيفت سنة 1990 والتي تنص على أن رئيس الحكومة “يتابع أعمال الإدارات والمؤسسات العامة وينسق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل”.
لذلك، ومن دون الدخول في الملابسات التي أملت إصدار هكذا تعاميم، لا بد من طرح الأسئلة التالية: هل موقف رئيس الحكومة المستقيل سليم من الناحية الدستورية؟ وهل يحقّ له توجيه هكذا نوع من “التعاميم” عملا بهذه الفقرة الدستورية؟
إن إصدار التعاميم هي صلاحية طبيعية يمارسها رؤساء المصالح في كل الأمور المتعلقة بإدارتهم بهدف التذكير بالأحكام القانونية أو توضيحها من أجل ضمان فعاليّة العمل الإداريّ. فهذه الصلاحية يمكن ممارستها من دون وجود نصّ يجيزها نظرا لبداهتها وكونها لا تؤدّي إلى إدخال أي تعديل على البناء القانوني للدولة. وهذا ما أكّده مجلس شورى الدولة اللبناني إذ اعتبر أن “التعاميم لا تدخل مبدئيا ضمن القرارات الإدارية النافذة والضارة لكونها تتضمن عادة تذكيرا أو توضيحا لكيفية تطبيق نصوص قانونية أو تنظيمية ولا تحمل موجبا جديدا يفرض على المعنيين بها، لذلك فهي لا تقبل الطعن أمام هذا المجلس” (قرار رقم 130 تاريخ 13/11/2003).
إن الطبيعة البديهية للتعاميم تجعل في الحقيقة الفقرة السابعة من المادة 64 من الدستور لزوم ما لا يلزم إذ أن رئيس الحكومة كان يمارس هذه الصلاحية قبل سنة 1990 من دون وجود هذه الفقرة في الدستور. فهذه الفقرة تكتفي بتكريس ممارسة سياسيّة موجودة في كلّ النظم البرلمانية في العالم حيث يقوم رئيس الحكومة بالتنسيق بين الوزراء وإعطاء التوجيهات السياسية التي تكفل وحدة التوجه في العمل الحكومي. لكن إدخال هذه الممارسة السياسية البديهية في متن الدستور، علاوة على عدم الحاجة إليها، يؤدّي في نهاية المطاف إلى نزع طبيعتها السياسيّة عنها وتحويلها إلى وسيلة قانونيّة مبهمة يسهل التعسّف في تأويلها بغية استخدامها بطرق لا تستقيم أبدًا مع المنطق الدستوريّ.
في حال وضعنا هذه النقطة جانبا، يصبح جليّا أنّ الوزراء يحتاجون إلى إصدار التعاميم أكثر من غيرهم كون الغالبية العظمى من الإدارات العامة للدولة تخضع لسلطتهم المباشرة. وعلى الرغم من الغاية العملية للتعاميم التي تهدف إلى تسهيل العمل الإداري وتوضيحه لكنها لا تدخل من الناحية القانونية في فئة الأعمال الإدارية النافذة كونها تكتفي بتفسير النصوص القانونية أو التنظيمية. ويتجلى هذا الواقع من خلال الاعتبارات[1] التالية:
-التعاميم كما شرحنا لا يمكن الطعن بها أمام القضاء الإداري لتجاوز حدّ السلطة.
-لا يمكن للأفراد التذرع بالتعاميم من أجل المطالبة بحق ما أو بغية الطلب من القاضي إبطال عمل ما بحجة مخالفته لتعميم محدّد كون هذا الأخير غير مكسب للحقوق.
-لا يمكن للإدارة التذرع بوجود تعميم من أجل تبرير قرار ما تريد اتخاذه. لا بل أنّ القاضي الإداريّ يعمد إلى إبطال القرارات التي تسند إلى تعميم نظرا لكونها مشوبة بخطأ قانوني.
لكن هذا الوضوح القانوني سرعان ما يصطدم مع ممارسة مختلفة تؤدّي إلى انحراف التعميم عن غايته التفسيريّة التي وجد من أجلها أصلا. فبعض التعاميم تحتوي على أحكام تنظيمية عامّة تؤدّي واقعيّا إلى تعديل البناء القانوني عبر منح الأفراد مجموعة من الحقوق أو الضمانات الجديدة أو عبر فرض عليهم واجبات لا تلحظها القوانين أو النصوص التنظيمية. ففي هذه الحالة يتحوّل التعميم إلى قرار إداريّ كون التعاميم التنظيمية “بالنظر إلى تضمنها أحكاما تنظيمية وعدم اقتصارها على تفسير النصوص القانونية والتنظيمية النافذة، فإنها تعتبر نصوصا تنظيمية بغض النظر عن التسمية المعطاة لها، لأن العبرة هي للمضمون وليس للتسمية” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 129 تاريخ 19/11/2019).
وقد تطور اجتهاد القضاء الإداري الفرنسي إذ لم يعد يقتصر على التمييز بين التعاميم التفسيرية (circulaires interpretatives) والتعاميم التنظيمية (circulaires réglementaires) بل اعتبر في قرار شهير له صدر سنة 2002 أن المعيار المتبع للتمييز بين التعاميم التي هي في الحقيقة قرارات إدارية وبين التعاميم التفسيرية هو الطبيعة الآمرة للتعميم، ما يعني أن المهم هو تأثير هذا الأخير وتداعياته القانونية وليس موضوعه. فالتعميم الآمر[2] (circulaire imperative) يقبل الطعن لأنه لا يحتوي على مجرد توصيات أو على رأي الوزير، بل لأنه يفرض على الإدارة أو الأفراد الالتزام بموقف ما ستترتب عليه نتائج قانونية.
جراء ما تقدم، لا بد من تحديد طبيعة تلك التعاميم الخلافية التي بات يستسهل رئيس الحكومة إصدارها. فالتعاميم التي تستحدث آلية الموافقات الاستثنائية التي لا وجود دستوري لها أو التي تحدد كيفية توقيع المراسيم عند ممارسة مجلس الوزراء لصلاحيات رئيس الجمهورية هي تعاميم تنظيمية وآمرة علما أن بعض الوزراء رفضوا موقف رئيس الحكومة وأصروا على أن إصدار المراسيم يحتاج إلى توقيع جميع الوزراء. أما كتاب رئيس الحكومة الذي ينتهي إلى الطلب من وزير الداخلية “اتّخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات تُجيزها القوانين والأنظمة المرعية الإجراء في سبيل تطبيق أحكام القانون والمنع من تجاوزه والمحافظة على حُسن سير العدالة” فهو في حقيقته غير آمر. إذ كان يمكن لوزير الداخلية تجاهله بكل بساطة لكنه قرر ولأسباب سياسية تنفيذه عبر توجيه تعليمات إلى قوى الأمن بغية عدم الالتزام بأوامر القاضية غادة عون، ما يشكل خرقا لمبدأ فصل السلطات وللقانون، كون الأجهزة الأمنية عندما تتلقى إشارات من القضاء تكون بمثابة ضابطة عدلية ملزمة بتنفيذها بينما وزير الداخلية لا يتوجه إلى قوى الأمن بوصفها ضابطة عدلية لكن كضابطة إدارية فقط.
أما تعميم 7 حزيران الذي يلزم كافة الوزارات والإدارات التقيد بقرار مدعي عام التمييز فلا يمكن إدخاله ضمن فئة التعاميم نظرا لطبيعته الآمرة ما يعني أن رئيس الحكومة المستقيل اتخذ قرارا ملزما فرض به على جميع أجهزة الدولة عدم تنفيذ أوامر القضاء ما يشكل مخالفة صارخة للقانون ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار هذا التعميم المزعوم مجرد تطبيق للفقرة السابعة من المادة 64 من الدستور. وما يفاقم من خطورة هذا الأمر هو إقدام المديرية العامة لوزارة العدل على إرسال هذا التعميم إلى الرؤساء الأول لمحاكم الاستئناف بغية “التقيد بمضمونه” وتعميمه على المحاكم والدوائر القضائية التابعة لمحاكم الاستئناف، ما يعني أن وزارة العدل تقبل ضمنيا بمصادرة صلاحية تلك المحاكم بتفسير القانون إذ يعود لها وحدها عند ممارستها لسلطتها القضائية تفسير موقف مدعي عام التمييز والقاضية غادة عون واتخاذ الموقف القانوني الذي تركن إليه المحكمة بكل حرية واستقلالية.
من جهة ثانية، تخالف هذه التعاميم الدستور كونها تعمد إلى توجيه تعليمات إلى إدارات لا تتبع لرئيس الحكومة. فقد اعتبرت مثلا هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل أنّ “توجيه التعاميم في دوائر الدولة هو مظهر من مظاهر السلطة التسلسليّة التي يمارسها الوزير وحده ضمن وزارته بما له من حق الإشراف والرقابة على موظفي الوزارة بوصفه الرئيس التسلسلي” (استشارة رقم 122/ر تاريخ 18/4/1961). فرئيس مجلس الوزراء يحقّ له إصدار التعاميم بخصوص الإدارات التي تتبع له، لكنه لا يحق له توجيه التعاميم الآمرة إلى سائر الوزراء أو مخاطبة إداراتهم مباشرة من دون المرور بالوزير. فرئيس الحكومة قد يكون رئيسا على الوزراء من الناحية السياسية لكنه ليس رئيسهم من الناحية الإدارية ولا يتمتع تبعا لذلك بأيّ سلطة تسلسلية عليهم. فإذا كان رئيس الحكومة لا يستطيع التوجه بأوامر مباشرة إلى الإدارات في مختلف الوزارات فمن الأولى أنه لا يحق له أن يخاطب مباشرة السلطة القضائية من دون المرور بوزارة العدل هذا فضلا عن أن الوزارة نفسها لها أن تخاطب القضاة في الأمور الإدارية فقط وليس في المواضيع القضائية.
فصلاحية إصدار التعاميم هي شكل من أشكال تطبيق القانون، لا بل إنّ هذه الصلاحية تنبع من ضرورة قيام الوزير بتطبيق القانون عملا بالمادة 66 من الدستور التي تنص على التالي: “يتولى الوزراء إدارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين كلّ بما يتعلق بالأمور العائدة إلى إدارته وبما خصّ به”، ما يعني أن تعاميم رئيس الحكومة الآمرة تؤدّي إلى الاعتداء على صلاحيات الوزير الدستورية في حال عمد إلى توجيهها مباشرة إلى الإدارات التي تتبع هذا الوزير. وهذا ما يظهر جليّا في الفقرة الأخيرة من المادة 64 من الدستور التي تنص على أن رئيس الحكومة “يعقد جلسات عمل مع الجهات المعنية في الدولة بحضور الوزير المختص”. فهذه الفقرة، البديهية في شقها الأول والتي لا تحتاج أيضا إلى تكريسها في الدستور، تصبح مفهومة فقط على ضوء شقها الثاني الذي يبرر تحويلها الآن إلى نص دستوري إذ هي تمنع على رئيس الحكومة الاجتماع مع موظفين من دون حضور رئيسهم التسلسلي أي الوزير الذي سيتولى هو تنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلال الاجتماع.
فكل التوجيهات والتعاميم الآمرة التي يصدرها رئيس الحكومة من تلقاء نفسه إلى الإدارات التي لا تتبع له هي غير ملزمة حتى لو جاءت بصيغة آمرة، لا بل أن الوزير المعني يمكن له تجاهلها. فصلاحية إصدار التعاميم وجدت من أجل حسن تطبيق القانون وليس من أجل منح رئيس الحكومة سلطة لم ينص عليها القانون أصلا فكم بالحري إن كانت مخالفة للقانون أو الدستور.
وما يؤكد هذا الأمر هو أن الدستور بعد تعديلات 1990 لم يمنح السلطة التنظيمية إلى رئيس الحكومة بل إلى مجلس الوزراء. فبغض النظر عن مدى صوابية منح السلطة التنظيمية إلى هيئة جماعية لكن الواقع الدستوري في لبنان يفرض نتيجة قانونية وحيدة: في حال عدم وجود قانون يفرض استكمال أحكامه عبر إصدار مراسيم تنظيمية عن رئيس الجمهورية أو قرارات تنظيمية عن الوزراء فإن الجهة المخولة للمبادرة من تلقاء نفسها لإصدار نصوص تنظيمية هي مجلس الوزراء عبر إقرار المراسيم المطلوبة عملا بسلطته التنظيمية الذاتية (pouvoir réglementaire autonome) شريطة عدم مخالفة الدستور والقانون، ما يعني أن الفقرة السابعة من المادة 64 من الدستور لا يمكن إطلاقا تفسيرها بأنها تخول رئيس الحكومة توجيه الأوامر العامة، بعض النظر عن تسميتها، كون ذلك يعني منحه سلطة تنظيمية مستقلة لا يملكها.
ومن تجليّات التعسف في تفسير صلاحيّات رئيس الحكومة بإصدار التعاميم الكتاب الذي سلّمه تكتل الجمهورية القوية إلى الرئيس ميقاتي بتاريخ 9 أيلول المنصرم إذ طالبه “بتحمل مسؤوليته الوطنية والدستورية والقانونية، والإيعاز إلى جانب وزير العدل بدعوة مجلس القضاء الأعلى إلى الانعقاد الفوري” من أجل البحث في التعاميم التي أصدرها مدعي عام التمييز السابق غسان عويدات إلى الضابطة العدلية بعدم تنفيذ أي مذكرة تصدر عن قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار في قضية تفجير المرفأ. فبغض النظر عن ضرورة سحب تلك التعاميم التي تعرقل عمل قاضي التحقيق وتعطي لمدعي عام التمييز صلاحيات لا يملكها لكن مطالبة رئيس الحكومة بالايعاز لوزير العدل يشكل مخالفة للمبادئ التي ذكرناها أعلاه كونها تفترض أن لرئيس مجلس الوزراء سلطة تسلسلية تقوم على توجيه الأوامر الإدارية إلى الوزير الذي يصبح بحكم المرؤوس وهو ما لا وجود له في النظام القانوني اللبناني.
خلاصة القول، لقد وجد رئيس حكومة تصريف الأعمال في التعاميم الوسيلة التي تسمح له اتخاذ قرارات لا تدخل في صلاحياته وإلا كان لجأ بكل بساطة إلى إصدار تلك القرارات من دون حاجته إلى إخفائها تحت مسمى التعاميم والكتب. ولا شك أن هذا الأسلوب بات ظاهرة يجدر التوقف عندها نظرا لخطورتها إذ بات رئيس الحكومة الحالي عبر تعاميمه المختلفة ينظر إلى نفسه بوصفه السلطة الوحيدة المخولة تفسير الدستور والقانون وتوجيه الأوامر إلى كل إدارات الدولة من أجل تأمين “الانتظام العام” وفقا لتأويله الاعتباطي الخاص به. فبعد ابتداعه “الموافقات الاستثنائية” وحسمه كيفية التوقيع على المراسيم ها هو يوسع من صلاحياته من خلال توجيه أوامر إلى السلطة القضائية نفسها كي يستحق فعلا لقبه الجديد كالحاكم بأمر التعاميم.
[1] René Chapus, Droit administrative, Tome 1, 2001, p. 513.
[2] « Les dispositions impératives à caractère général d’une circulaire ou d’une instruction doivent être regardées comme faisant grief » (CE Sect. 18 décembre 2002, Mme Duvignères).