الجيش الإسرائيلي يفخّخ قلعة شمع: جريمة حرب موثّقة وخطر داهم بتدمير موقع أثري محمي دوليًا


2024-11-16    |   

الجيش الإسرائيلي يفخّخ قلعة شمع: جريمة حرب موثّقة وخطر داهم بتدمير موقع أثري محمي دوليًا
الموقع الأثري في قرية شمع وقد تحدثت مصادر رسمية لـ"المفكرة" عن تفخيخ قوات الاحتلال الإسرائيلية له

تحدّثت مصادر رسمية لـ”المفكّرة” عن قيام القوّات الإسرائيلية بتفخيخ الموقع الأثري في تلّة شمع، جنوب لبنان، بما في ذلك القلعة الصليبية والمزار الديني “النبي شمع” (شمعون)، خلال فترة تحصّنها في المنطقة، قبل انسحابها نتيجة المواجهات العسكرية. تمّ توثيق هذا السلوك كجزء من استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تتضمّن تفخيخ المواقع التاريخية والثقافية وتدميرها، كما حدث في قرى حدودية عدّة. وتثبّتت “المفكّرة” من أنّ أضرارًا كبيرة لحقت بالموقع، ومن أنّه لا يزال قائمًا ولم يتمّ نسفُه حتى هذه اللحظة. 

وتأتي هذه الاعتداءات ضمن سياق الغزو الإسرائيلي المستمرّ الذي يجمع بين تهجير السكان، واستهداف البنية التحتية المدنية والثقافية. ويشكّل استهداف موقع شمع الأثري دليلًا جديدًا على السلوك الإسرائيليّ وأهدافه بعيدة المدى، والتي تتجاوز البعد العسكري لتصل إلى محاولة طمس الهوية الثقافية للسكان وتدمير موروثهم الحضاريّ.

صورة لبلدة شمع المشرفة على ساحل صور (تصوير إبراهيم صفي الدين)

استخدام الموقع الأثريّ ثمّ تفخيخه

تبعد قرية شمع حوالي 5 كيلومترات عن الحدود الجنوبية، و12 كلم عن مدينة صور. ويقع الموقع الأثريّ والتاريخيّ على أعلى تلّة فيها، وتشرف قلعتها الأثرية على كامل الساحل من صور إلى حيفا.

تحدّثت ثلاثة مصادر رسميّة أمنيّة وحكوميّة لـ “المفكّرة” عن رصد أعمال تفخيخ داخل موقع تلّة شمع الأثري في قرية شمع جنوب لبنان نفّذتها القوّات الإسرائيليّة قبل انسحابها منه. وقالت المصادر إنّه تمّ رصد قيام جنود إسرائيليّين بأعمال التفخيخ، على غرار ما حصل في قرى حدوديّة ومواقع تاريخيّة دينيّة وأثرية فيها. وقال مصدر من قوّات اليونيفيل لـ” المفكّرة” إنّ أضرارًا بالغة رُصدت في الموقع ومحيطه صباح اليوم السبت 16 تشرين الثاني. في المقابل، علمت “المفكّرة” من شهود عيان إنّهم استطاعوا رؤية مئذنة المزار الدينيّ التاريخيّ من أماكن تواجدهم في قرى أقرب إلى مدينة صور، صباح اليوم أيضًا، ما يؤشّر إلى عدم حصول عمليّة نسف شاملة جرّاء التفخيخ حتى لحظة النشر. وقد ارتفعت المخاوف من نسف الموقع الأثريّ ليلة أمس الجمعة بعد بدء ورود تقارير عن عمليّات التفخيخ. 

وتنتهج قوّات الاحتلال الإسرائيليّة تفخيخ ثمّ نسف أحياء في القرى الحدوديّة، منذ بدء محاولات الغزو، وقد تمّ توثيق عمليّات من هذا النوع طالت مساجد ومزارات دينيّة ومواقع تاريخيّة وأثريّة وأحياء سكنيّة بعضها تاريخيّ بدوره وبعضها مبنيّ حديثًا، على كامل الشريط الحدودي. وهو ما حصل في قرية محيبيب وأحياء من قرية بليدا. وحصل ذلك في إثر تحصّن القوّات الإسرائيليّة داخل أسوار الموقع يوم أمس الجمعة، في إطار محاولات الغزو البرّية وتوسّعها إلى قرى الخطّ الثاني خلف الحدود، قبل إعادة الانسحاب. 

وقد رصد مقطع مصوّر وصل “المفكّرة” يوم أمس استخدام القوّات الإسرائيليّة للموقع وتحصّنهم فيه بعد توغّلهم داخل القرية، وفي سياق تقارير عن معارك عنيفة جرّاء تصدّي الوحدات القتاليّة لحزب الله لها. وتحدّثت التقارير عن سحب قوات الاحتلال لجرحاها من الجنود الإسرائيليّين إلى داخل القلعة الأثريّة. 

الجنود الإسرائيليون على سطح غرفة المعصرة التاريخية التابعة لمقام النبي شمع (صورة تحقّقت منها المفكّرة وتمّ التقاطها يوم 15 تشرين الثاني 2024)

جريمة حرب موثّقة 

واستمرّ التحصّن طوال ساعات نهار يوم أمس، فيما قالت تقارير صباح اليوم إنّ الجنود عادوا وحاولوا التوغّل نحو القرية وقلعتها. وقد تمّ توثيق استعمال الجنود الإسرائيليّين للقلعة المدرجة على لائحة الجرد العام والمحمية بحسب اتفاقية اليونسكو، والمصنّفة ضمن قائمة “المواقع المحميّة” (No Strike List) الرسمية المقدّمة من الدولة اللبنانية إلى اليونسكو لحماية مواقع التراث الثقافي والأثري من الاستهداف أثناء النزاعات، والتي يفترض أن تنظر فيها هذه المنظمة الإثنين المقبل.  

ويثير استخدام القوّات الإسرائيليّة لقلعة شمع التي تُعتبر من أهم المعالم التاريخية في جنوب لبنان، مخاوف جدّية بشأن الاستهداف الإسرائيلي المستمرّ للتراث الثقافي في المنطقة واستباحته. كما يُعدّ التحصّن داخلها انتهاكًا إسرائيليًّا جديدًا وموثّقًا لاتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح. وتُلزم هذه الاتفاقية الأطراف جميعها بحماية الممتلكات الثقافية من الأضرار أثناء النزاعات المسلحة، وتمنع استخدامها لأغراض عسكرية. 

وقد تثبّتت “المفكّرة” حتى اللحظة من حصول أضرار بالغة في الموقع، من دون قدرة على تحديدها حجمها في غياب القدرة على الوصول إلى الموقع. وقال مصدر وزاريّ إنّ الأضرار قد تشمل تهديم قبّتين من القباب الأربعة لمقام فوق ضريح شمعون الصفا. ووفقًا للاتّفاقيّة عينها، يتحمّل المعتدي المسؤولية الكاملة عن الأضرار التي تلحق بالممتلكات الثقافية. 

وصنّفت “المفكّرة” استخدام القلعة وتفخيخها على أنّه جريمة حرب وانتهاك لحظر الأعمال العدائية الموجّهة ضدّ الآثار التاريخية التي تشكّل التراث الثقافي والروحي للشعوب، كما حظر استخدامها في المجهود الحربي. 

جانب من الأسوار ويظهر برج القلعة الشمالي (تصوير إبراهيم صفي الدين)

أهميّة المكان

وتعدّ تلّة شمع بمجملها موقعًا أثريًّا، وهي محاطة بأسوار عالية، بينها 9 أبراج نصف دائريّة. وتنقسم هذه التلّة المحصّنة إلى ثلاثة نواحي، القلعة الصليبيّة، ومقام النبي شمع، وناحية البيوت التاريخيّة وهي الجزء الذي سكنه الأهالي في البلدة القديمة قبل توسّع شمع خارج التلّة وأسوارها. 

ويطلق أهالي قرية شمع على هذه النواحي أسماء: ناحية دار الشيخ، حيث القلعة، نسبة إلى الشيخ واكد، حاكم مقاطعة الشعب التي كان مقرّها قلعة شمع، وهو أعاد تجديد وتحصين القلعة في منتصف القرن الثامن عشر، وكذلك ناحية دار النبي، حيث المزار الدينيّ والتاريخيّ، ودار الحاج عبّاس، حيث سكن الأهالي تاريخيًّا.

صورة توضيحية لأهم معالم البلدة (تصوير إبراهيم صفي الدين)

وبنيت القلعة الصليبيّة عام 1116 ميلاديًّا، لتشرف على طريق القدس ومدينة صور. 

وإلى جانب القلعة، وضمن الموقع الأثري، يوجد مقام النبي شمع، وهو مزار دينيّ يتضمّن ضريحًا ينسب حسب الاعتقاد المحلي إلى شمعون الصفا، وهو اسم معرّب لسمعان، أي بطرس الرسول، أحد حواريّي السيّد المسيح. ويأتي الآلاف سنويًّا لزيارة المكان الدينيّ.

وينفرد المزار الدينيّ في منطقة جبل عامل بأربع قباب فوقه، وتضم الأوقاف التابعة له مقابر تاريخيّة وعدّة غرف أثريّة ومنها المعصرة التاريخيّة وصهريج مياه مقبّب تحت أرضيّ.

ويعود تاريخ موقع تلّة شمع الأثريّ بالمجمل إلى الفترة الرومانيّة، حيث عثر فيه على فسيفساء بيزنطيّة تعود إلى القرون الأولى للميلاد، وقد بنى جيش الإفرنجة القلعة الصليبيّة فوق الموقع البيزنطيّ، بحسب ما ذكر المؤرّخ الفرنسيّ جون ريتشارد في كتابه الحروب الصليبية، 1071-1291.

وتبقى الأهمية الاستراتيجيّة للموقع الجغرافيّ للقلعة حاضرة حتى اليوم، إذ يأتي استهدافها ضمن خطط أوسع في إطار الغزو البرّي الإسرائيليّ واستهدافه للقرى والبلدات ومعالمها الماديّة والمعنويّة، وصولًا إلى المسح الشامل لها، بعد تهجير أهلها. 

مقام شمع بقبابه الأربع (تصوير إبراهيم صفي الدين)
معصرة بلدة شمع الأثرية (تصوير إبراهيم صفي الدين)

أهمية ثقافية

تحتفظ تلّة شمع والمواقع الأثرية والدينية فيها بأهمية خاصة لأهالي البلدة، إذ تمثل رمزًا لتاريخهم وثقافتهم المحلية التي تعود إلى قرون طويلة. تُعد القلعة، والمقام، والبيوت التاريخية جزءًا لا يتجزأ من هوية السكان في كلّ منطقة جنوب لبنان، المعروفة تاريخيًا باسم جبل عامل.

ويستقطب الموقع آلاف الزوّار سنويًّا، لا سيّما من الجنوبيّين، وهو يمثّل امتدادًا لوجودهم التاريخي في المنطقة.

خلال فترة الاحتلال الإسرائيليّ للجنوب، مُنع الناس من الوصول إلى المكان، حيث تمّ تحويله إلى موقع عسكريّ إسرائيليّ دائم، منذ عام 1978، وحتى التحرير عام 2000. 

تحدّثت “المفكّرة” مع أفراد من شمع، شاركوا شهاداتهم. وقالت شابّة (28 عامًا) إنّ رؤية الجنود الإسرائيليّين يدوسون على سطح المزار الدينيّ وفوق أسوار القلعة الأثريّة، جعلها تشعر بانتهاك مساحتها الشخصيّة، وكرامتها: “هذا المكان هو أقدس مكان بالنسبة لي، وهذه الحجارة بناها أجدادي وهي جزء من ذاكرتي وهويّتي ومصدر فخر لي”. 

وقال شاب (30 عامًا): “سكن أجدادي هذه القلعة وبيوتهم لا تزال فيها، وتعبّدوا في مقامها”. وأشار إلى أنّ “تشريد أسرتي طوال فترة النزوح، وتدمير بيتي في القرية، لم يسبّب لي هذا الشعور العميق بالألم، والآن قلوبنا منقبضة مخافة أن يتمّ تفجيرها ومسحها إذا ما عمد الجنود الإسرائيليّون إلى ضغط زرّ التفجير بين لحظة وأخرى”. واعتبر أنّ “قتل الأسر واستهداف الأصدقاء كان ولا يزال يراكم الغضب فوق الغضب، والمس بالقلعة والمقام اليوم، سيجعل الثأر كبيرًا جدًّا”. 

بدورها قالت سيّدة من شمع (42 عامًا): “مع رؤية الجنود فوق القلعة، شعرت بالقهر، لقد اقشعر بدني من المشهد، والخوف على القلعة كبير اليوم”. 

صورة تظهر المزار الديني، يحيطه بيوت سكان شمع (تصوير إبراهيم صفي الدين)
قلعة شمع التاريخية بعد عمليات إعادة الترميم والتأهيل (تصوير إبراهيم صفي الدين)

سياق تاريخيّ

تعرّضت القلعة والموقع الأثريّ لأضرار بالغة على مدى 22 عامًا من الاحتلال، وفي العام 1992، يذكر الأهالي أنّ الاحتلال الإسرائيليّ جرّف البوّابة التاريخيّة للموقع ودمّرها. 

وخلال عدوان عام 2006، وقبل اكتمال إعادة تأهيل الموقع الأثريّ وقلعته من الأضرار التي خلّفها الاحتلال الإسرائيليّ لها، تعرّض الموقع لأضرار بالغة جرّاء الاستهداف الإسرائيليّ المباشر خلال أيّام العدوان، وقد عمد الجيش الإسرائيليّ إلى قصف الموقع وتدميره قبل يوم واحد من وقف إطلاق النار أي في 13 آب 2006، وبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1701. 

وبعد انتهاء الحرب، تبيّن تدمير أكثر من 80% من القلعة ولا سيما الأبراج المنتشرة على أطرافها وباحاتها الداخلية والخارجية إضافة إلى المقام الديني الذي يجاورها، بحسب أرشيف وكالة الأنباء البريطانيّة. وكان هذا أكبر ضرر لحق بموقع أثري خلال العدوان.

وتثبتت لجنة التحقيق الأممية عقب عدوان عام 2006 من أنّ الجيش الإسرائيلي تسبّب بأضرار كبيرة وغير متناسبة في الممتلكات الثقافية والأثرية والتاريخية في لبنان، بما لا يمكن تبريره بالضرورة العسكرية. وشملت هذه الممتلكات قلعة شمع التي عانت من أضرار كبيرة.

خلاصة 

إنّ تفخيخ موقع شمع الأثري لا يمكن اعتباره مجرد فعل تخريبي عابر، بل هو استهداف مباشر لهوية سكان المنطقة وذاكرتهم الجماعية، ومحاولة منهجية لعزلهم عن تاريخهم وضرب ارتباطهم بأرضهم. وهذه الاعتداءات، التي تدمج بين استهداف البشر والممتلكات الثقافية، تهدف إلى تغيير التركيبة الثقافية والديموغرافية للمناطق المستهدفة بالغزو. واستهداف التراث الثقافي، كما في حالة شمع، يمثل جريمة حرب موثقة وفق القانون الدولي واتفاقية لاهاي لعام 1954. لكنه أيضًا يدلّل على نوايا لاقتلاع السكان معنويًا وتفتيت النسيج الذي يربطهم بأرضهم، وبماضيهم وحاضرهم. 

ويبقى أنّ القلعة تبقى بفعل تفخيخها في الساعات وربما الأيام المقبلة أمام خطر داهم بتفجيرها كاملة وأمام أعين العالم، وقبل أن يتسنّى ربما لليونسكو أن تنظر في طلب منحها وضعية الحماية الخاصة.   

استعمال القوّات الإسرائيليّة للموقع الأثري في قرية شمع (فيديو وصل لـ “المفكّرة” وتمّ التقاطه يوم 15 تشرين الثاني 2024)
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني