تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلة من النصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع.
ويهمّ المفكّرة في هذا الإطار أن توضح أنّ سلسلة “الجوع ولا قضاء الخضوع: مذكّرات مرافق”، والذي سبق نشر الحلقة الأولى منها، تحاول أن توثّق وقائع من داخل إضراب الجوع، بما يضيئ على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقف عندها لفهم أفضل وأعمق للقضاء بعيداً عن الآراء المتسرعة أو المسبقة (المحرر).
اليوم الأول في نادي القضاة
بالتزامن مع تلاوة بيان الإعلان عن إضراب الجوع، كان قضاة يتبادلون بعيدا عن كاميرات الصحافيين، نظرات فخر بمُنجزٍ بدا صعباً وهم يتهيأون للخطوة القادمة. كان مطلوباً من ثلاثة قضاة أن يتولّوا نقل زملائهم إلى مقرّ النادي. وأشير عليهم تحسُّبا من أيّ مضايقة أمنيّة أن يسلكُوا مساراتٍ مختلفة وألّا يجلبُوا إليهم الانتباه وهم يغادرون. لقد اتّفق الجماعة على أن ينسحب رمزي ورفيقه أولا ثم طاهر وزميله ثانيا ليتلوهما بعدما يكونان قد وصلا إلى وجهتهما حمادي ومن معه. فقد كان الأخير شخصية معروفة وخروجه قبل ذلك سينبّه الرقيب لوجهتهم.
لم يلحظ من امتطى معه حمادي السيّارة أيّ شكل من أشكال الرقابة التي كان يخشاها. حاول أكثر من مرة أن ينتبه للطريق علّه يكتشف أمراً غير طبيعي لكنه لم يفلح في التوصل لأيّ شيء. استغرب من ذلك ثم قال لجليسه لسنا موضوعاً لأيّ ملاحقة، أنا متأكّد من ذلك. لعلّها مؤشر على أنّ من يحكمون لا يرغبون في مواجهة جديدة مع القضاة. “قد تكون رسالة إيجابية”، ضحك حمادي ليردف متسائلاً: “أو هي علامة تجاهل وانعدام قدرة على التفاعل مع الواقع. وبالتالي مؤشّر على صعوبة نضالنا وحاجتنا لصبر كبير قبل أن نحقّق بعض التغيير الذي نطلبه”. عندئذ، دخلتْ السيارة إلى مقرّ النّادي وكان في انتظارها عددٌ من القضاة أمضُوا يومهم في تجهيزه.
بدأ الإضراب … فلنتعارف
خلال اليوم الأول، حضر القضاة بكثافة إلى مقرّ النادي. وكان غاية حديثهم تحفيز المُضربين وتشجيعهم بما فرض جديّة على المكان لم يشوّش عليها إلا حديث القاضي رمزي بحرية الذي كان يسخر من الواقع المرّ. يذكر أنّ رمزي كان يشغل خطة مساعد وكيل للجمهورية بالمحكمة الابتدائية بالمهدية ولا تزيد أقدميته في القضاء عن ثماني سنوات، وقد أعفاه سعيّد بتهمة عدم التعاون مع الأمن في مكافحة الإرهاب، بعدما نسب له رفض منح إذن بتفتيش محلّ سكنى لجهة أمنية تقدّمت له بطلب في الغرض غير مصحوب بأيّ بحث عدلي.
كانت شهادته التي أدلى بها في المجلس الوطني لجمعية القضاة ممّا تمّ تداولُه كثيراً في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعيّ لما تبيّنه من توجّه لفرض وصاية أمنية على القضاء وما تنذر به من تهديد لحريّات الأفراد. ورغم أنه لم يكن رمزي يرتبط بصداقة أو معرفة سابقة بأيّ من الموجودين في النادي وأنه كان لقادة الجمعية اعتراضات على مواقفه المعارضة لها فيما سبق والتي كان يدونها بصفحات التواصل الاجتماعي، إلا أنه تمكّن رغم ذلك من الهيمنة على مسامرة الليلة الأولى لما تبين من قدرته على صناعة الضحكة وأسلوبه الساخر في مقاربة الأمور الهامة.
طال ليلتها سهر القضاة ولم ينههِ الا طلبٌ وجّه لهم ينبههم لضرورة ترك المضربين ليخلدوا للنوم لكونهم في حاجة لذلك. غادر الجميع النادي الذي استودعوا فيه زملاءهم المُضربين بالإضافة إلى زميل غير مُضرِب اختار أن يكون رفيقاً لهم يسهر على راحتهم في انتظار اليوم الموالي أو ربما الأيام الموالية الطويلة.
مباشرة بعد خروج الجميع استلقى كل واحد من الأربعة الذين مكثوا على حشية[1] وضعت بركن من أركان قاعة الاستقبال الكبرى ليتفرّغ لشاشة هاتفه الجوّال في خطوة بيّنت ضعف علاقاتهم الذاتية وغياب ما قد يكون سببا في حوارات بينهم وهو أمر سيتغير بمجرد قدوم الصباح.
تعارف في ظروف قاهرة
حمادي ينهض أولا، يرتّب حاله، يخرج ليجلس تحت شجرة التوت، يلتحق به زميله الذي يرافقه يتبادلان بعض الحديث عن تحركات القضاة. يؤكّد حمادي على ضرورة حضور المضربين عن الطعام للجلسة العامة التي دعت لها تنسيقية هياكل القضاة. ويؤكّد رفضه فكرة رفع الإضراب عن العمل في ظلّ تعنّت السلطة. محمد الطاهر يلتحق بهما. “عندك حق سي حمادي”، قال ذلك ومضى ليتحدّث في غير الموضوع. فقد بدا واضحا أنه يحتاج أن يدافع عن نفسه من تهمة فساد نسبها له الرئيس.
لست فاسداً، أنا لا امتلك سيارة ولا مسكناً. أبي رحمه الله كان عاملا بسيطا بمنجم الاخوات[2] أصيب بسقوط بدني عشنا بعده الخصاصة والحرمان. درستُ واشتغلتُ وكنتُ دوما أتحمّل مسؤولية إعالة والدتي وأختي في منزل عائلتنا وأختي وأبناءها في منزلها بعدما تخلّى عنها زوجها. الإعفاء لن يضر بي أنا فقط بل بكل هؤلاء. لقد اشتغلتُ طوال حياتي بشرف كنت أنزع عني جبّة القضاء بمجرّد امتطائي الحافلة في اتجاه منزلي، حيث أستغرق وقتي في تربية قليل من النحل أو في قضاء حاجيات العائلة. لم يُنسب لي يوماً أيّ شكلٍ من أشكال الفساد. كنت أتجنّب كلّ شبهة. ما نسبه الرئيس لي أنّي كنت عضوا في دائرة قضائية تعهّدت بنظر مطلب إفراج تقدّمت به زوجتي التي تشتغل محامية. هي واقعة صحيحة لكنها تحتاج توضيحا. أنا أشتغل بمحكمة سليانة. يومها، كانت جلسة الدائرة الجنائية وكنت لنقص في أعضائها أعوّض فيها بشكل شبه دائم. حضرتْ زوجتي التي تشتغل محامية وأعلنت نيابتها عن متّهم تمّ إيقافه. أعلمتُ رئيس الجلسة بقرابتي منها وطلبتُ منه رفع الجلسة لتغيير الهيئة. قال لي: ذلك يتعذر لا يوجد قضاة غيرنا بالمحكمة. سألت: ما العمل؟ فأجابني: لا إشكال لن ننظر في الأصل سيكون مجرّد بتّ في طلب إفراج ولن تشارك في المداولة”. جرى الأمر كذلك. ولم يكن لي أيّ دور في القرار الذي صدر. بعدها كتب زميل لي له خلاف معي تقرير في الموضوع سئلت عنه في التفقدية. تمسّكت برواية الحكاية كما حصلت وطلبت سماع من كانوا بالمحكمة. قلت لهم بإمكانكم مراجعة النشاط المهنيّ لزوجتي لتتأكّدوا من كون ما حصل لم يتكرّر ولم يحصل سابقاً وكان حالة ضرورة لا ذنب لي فيها. رواية للوقائع تخلّلها بكاء متقطّع للرجل الخمسينيّ وبثّت في المكان صمتاً حزيناً سريعاً ما أنهاه رمزي فور التحاقه بالمجموعة.
لست مناضلا.. لكني شعرت بالراحة وأنا أقاوم
“كم الساعة؟ هذه أول ليلة أنام فيها بعمق منذ إعفائي. كانت الهواجس تمنعُني من مجرّد المكوث بمكان واحد لمدّة طويلة قبلها. الشعور بالعجز وبالبهتة كانا يرهقانني. كنت لا أجالس إلا نفسي لأسألها عن سبب ما لحقني من ظلم. أنا طبّقت القانون. كلّ النيابات العمومية تقريبا ترفض منح أذون تفتيش لمحلات السكن خارج حالات البحث الجزائي. الأدهى من كل هذا أني أعلمت أعوان الأمن أنّ بإمكانهم استعمال أمر الطوارئ للتفتيش وذلك من دون حاجة لإذن قضائي. أين الخطأ؟ لا أفهم. البارحة نمتُ نوما عميقا لم يزرني سابقاً. الإحساس بكوني لم أعد عاجزاً أفادني، فأنا أقاوم”.
هكذا تحدّث رمزي في أول خطابه ليبتسم بعد ذلك ويتوجّه بنظره صوب حمادي قائلاً: “لقد بتُّ مناضلاً مثلك ومعك وأنا سعيد بذلك. سي حمادي، لم أكن أحبّ تدويناتك. أنا أكره الحديث في السياسة وأنت مغرم بها. لقد كنت أحرص كل ليلة قبل نومي على انتقاد الجمعيّة وجماعتها بصفحات الفايسبوك الخاصّة بالقضاة. ويوم زار هؤلاء محكمتي، رفضتُ لقاءهم. هم رفضوا زيادة أجور القضاة بحجّة أنها تمّت باتفاق سرّي. أنا كنت أحتاج تلك الزيادة. حتى الآن، لم أفهم موقفهم ولا أريد أن أفهمه”. لم يُبدِ حمادي انزعاجا من حديث رمزي وحاول أن يقطعه بأن قال: “أنا أيضاً انتقدت كثيراً الجمعية. نحن الآن، نخوض معركة لفائدة كلّ القضاة ويجب أن ننتصر فيها”.
كانت بداية لحلقة نقاش صباحي حول القضاء وهياكل القضاة والموقف من إضراب القضاة خلال فترة الكورونا. وفي خضمّ هذا النقاش، لاحتْ ملامح نسوة تجاوزْنَ سور النادي وتوجّهن صوب الجماعة. “إنها أختي وابنتها وزوجتي وابنة أخت زوجتي وهي بمثابة ابنتي”، قال محمد الطاهر.
الزيارة العائلية الأولى
يستقبل الطاهر ضيفاته بحفاوة. يستبق وصولهن للطاولة التي يجلس حولها رفاقه وينطلق معهن صوب قاعة الاستقبال. مكث هناك فترة قبلما يخرجوا جميعاً. كانت زوجته تبكي فيما كان هو يخاطبها همْسا. عندئذ، توجّهت أخته صوب مرافق المُضربين الذي تنبّهت لكونه يراقب المشهد. وقالت من دون مقدّمات: “أخي ليس فاسدا. أخي مسكين. هل تعلم أنه من أسرة معدمة؟ أختنا في الاخوات[3] من العاملات الفلاحيات. فهي تركب النقل غير الآمن لتعمل من الفجر حتى غروب الشمس. طاهر يساعدها كما يساعد أمي وكل العائلة. هو طيب جداً. أنتم تعرفون الحقوقيين. بربّكم اطلبوا منهم تنظيم زيارة لمنزل الأسرة في أيّ وقت يريدون. سيعلمون حينها من هو الطاهر. الجميع يحب تواضعه. فقط من أرادوا أن يتدخّل لفائدتهم في قضاياهم هم من ينتقدونه. هل هذا حال قاض فاسد؟ لا تتركوه، رجاء لا تتركوه”.
وجد مرافق المضربين نفسه في ساعات قليلة يدخل إلى فضاء زملائه الخاصّ من دون سعي منه لذلك. تقدم طاهر نحوه قائلا: “هذه زوجتي الأستاذة آمال”. ما أن لفظ اسمها حتى انطلقت في وصف حالته الصحية وفي التأكيد على مخاطبها أن صحته لا تخوّله خوض إضراب الجوع. “رجاء اقنعه برفعه ليس لي غيره”. الجواب أتى من طاهر نفسه الذي قال في حزم ظاهر وبنبرة صارمة: “أنا مُضرب ولن ارفع إضرابي. لقد قهروني. أنا ظُلمت. من حقّي أن أُضرب. لو لم أُضرب لكنتُ أُصبتُ بالجنون”.
كان صباحا للتعارف بين أشخاص اجتمعوا ولم تكن بينهم معرفة سابقة. أشخاص جمع بينهم سعيّد. أراد أن يكونوا عنوانا لحربه على الفساد فاتّحدوا في تصديهم لذلك ولم يجدوا غير أجسادهم سلاحا يدافعون به عن مورد رزقهم وشرفهم. تلتْه ظهيرة وايام مليئة بالوجوه والمواقف.
[1] فراش – مرتبة
[2] منجم يستخرج منه الرصاص والزنك ، كان سببا في از]هار اقتصادي واجتماعي لمنطقة الاخوات فترة الاستعمار الفرنسي ولحدود سبعينات القرن العشرين. تمّ التوقّف عن استغلاله في إطار سياسة إعادة هيكلة الاقتصاد التي انتهجت أواخر الثمانينات وسرح عماله وهو الأمر الذي أدّى إلى تراجع كبير في مستويات العيش بمنطقة الاخوات التي يوجد بها.
[3] قرية الاخوات تقع بمعتمدية قعفور من ولاية سليانة في الشمال الغربي للبلاد التونسية