الجنوب يقترع غدًا: صمت انتخابيّ تحت ضجيج العدوان


2025-05-23    |   

الجنوب يقترع غدًا: صمت انتخابيّ تحت ضجيج العدوان
لحظة وقوع الغارة على تول أمس الخميس

في صباح اليوم الجمعة، صعدت فاطمة عيسى إلى راميه، كما اعتادت كل أسبوع. بين أطلال منزلها المهدّم وأشجارها التي لم تُقتل بعد، وقفت تتفقد ما تبقى، وتخطّط لما ستزرع. في الغالب، ستعود بعد الظهر إلى صور، حيث تقيم مؤقتًا، لتكون مستعدّة للتوجّه غدًا إلى تبنين. هناك نُقل مركز الاقتراع الخاص بأهالي راميه، بعد أن تعذّر تنظيم الانتخابات في القرية.

قالت فاطمة، وهي تنظر نحو التلال: “الصندوق بميل، والضيعة بميل، ونحن بميل… راميه أأمن؟ أو غير قرى أأمن؟ شو هو الآمن؟”

لم تكن تسأل لتُجاب، بل لتشير إلى المفارقات المحتشدة. فالحدود لم تعد واضحة، لا بين القرى، ولا بين الخطر واللاخطر، ولا حتى بين الحرب وإعلان وقف الأعمال العدائية. في راميه، لا مركز اقتراع، ومعظم المباني مهدّمة. المدرسة نجت جزئيًّا، توقّع الأهالي أن تستضيفهم يوم الاقتراع، قبل أن يأتي قرار وزارة الداخلية بأن تكون مراكز اقتراع النازحين من القرى الحدودية، خارج قراهم، بسبب الخطر الإسرائيلي. 

لكن، ومع حلول فجر الجمعة، كانت جولتان من الغارات قد هزّتا الجنوب، شملت بلدات عدّة، في أوسع تصعيد منذ أسابيع. بدأ التصعيد مساء الخميس بتهديد إسرائيلي مباشر لمبنى في تول، سرعان ما تلاه قصف جوي، ثمّ موجة ثانية امتدّت حتى الفجر، على طول الجغرافيا الجنوبية. 

في هذه الظروف، تستعد القرى الجنوبية للانتخابات البلدية في مرحلتها الرابعة، حيث تقترع محافظتا الجنوب والنبطية، وسط غياب مراكز الاقتراع في القرى الحدودية، ونقل الصناديق إلى المدن أو البلدات الأخرى، على وقع ضربات جوية لم تتوقّف. تتقدّم الاستعدادات بصمت، لكن لا شيء صامت حقًا. 

وعلى الرغم من ذلك، تحوّلت الطرق العامة والسريعة إلى دليل حسيّ على مشاركة جنوبية كبيرة متوقعة في الانتخابات وسط زحمة سير خانقة، تزداد كلّما تقدّمت ساعات يوم الجمعة. فيما تداولت منصات التواصل الاجتماعيّ رسائل ومنشورات، على وقع الغارات، تدعو الناس إلى تكثيف مشاركتهم في الاقتراع.

هذه مشاهد من انتخابات تُجرى في ظل إعلان منتهك لوقف النار، وعدوان مستمر، وخريطة عدوان يتميّز بانتهاكه كلّ حدود الخرائط.

بلديات تحت الأنقاض

منذ الأيام الأولى للغزو الإسرائيلي في تشرين الأول الماضي، مع توسّع العدوان، شكّلت البلديات في جنوب لبنان أهدافًا مباشرة. القصف لم يطَل فقط المنازل والمزارع، بل استهدف أيضًا البنى التحتية الإدارية. في بعض القرى، بدا واضحًا أنّ ما جرى لم يكن تدميرًا للمكاتب، بل تفكيكًا لبنية القرية ككيان اجتماعي حيّ.

وتغيب الأرقام الرسمية عن خسائر البلديات، لكن بحسب أرقام أوليّة جمعتها “المفكّرة”، بين تشرين الأول 2023 وشباط 2025، سُجّل استشهاد 40 من العاملين في القطاع البلدي جنوب نهر الليطاني، بين رؤساء بلديات، أعضاء مجالس، مخاتير وموظفين، إضافة إلى اعتقال عدد منهم، بينهم مرتضى مهنا، وهو شرطي بلدي في مارون الراس لا يزال معتقلًا. كما دمّرت 132 آلية بلدية، و126 منشأة تابعة للبلديات، بينها مراكز طوارئ ومكاتب خدمية. أما مباني البلديات نفسها، فقد هُدم منها 12 مبنى بالكامل.

في النبطية، لم يكن القصف الإسرائيلي عابرًا على الإدارة المحلية. صباح الأربعاء في 16 تشرين الأول، شُنّت 11 غارة متتالية على المدينة، استهدفت بشكل مباشر مبنى البلدية ومبنى اتحاد بلديات النبطية، حيث كانت الخلية المركزية لإدارة الأزمة. سقط في القصف ستة شهداء و43 جريحًا، بينهم رئيس البلدية أحمد كحيل، وعضو المجلس صادق عيسى، ومسؤول الإعلام محمد بيطار، وموظفان من فرق الأشغال والصيانة، بالإضافة إلى عنصر من الدفاع المدني، كان في محيط السراي لأداء واجبه.

في صور، لم يكن المشهد مختلفًا. قصف الطيران الإسرائيلي شركة المياه خلال أيام الاجتياح. من بين الركام، كانت المضخّات لا تزال واضحة، وهي التي ظلّت تعمل حتى اللحظة الأخيرة، بإشراف المختار سامر شغري الذي استشهد في الموقع. كان يجمع بين موقعه كمختار منتخب، ودوره كموظف في شركة المياه، وظلّ يؤمّن الخدمة العامة حتى لحظة استهداف المكان.

لكن الاستهداف في القرى الحدودية انتقل إلى مستوى آخر. هناك، لم تُقصف البلديات فقط، بل سُوّيت القرى نفسها بالأرض، واختفت معها المباني الرسمية. في بعض هذه القرى، لم يبقَ أثر للمبنى البلدي، ولا حتى لشارع كان يؤدي إليه. في قرية محيبيب مثلًا، لم يعد أحد يسأل ماذا بقي من مبنى البلدية، بل ماذا بقي من محيبيب أصلًا. جاء هذا ضمن المنهجية الإسرائيليّة لتدمير المنطقة الحدودية، وتفكيك مجتمعاتها، تمهيدًا للاحتلال والمنطقة العازلة.

وفي الناقورة، دُمِّرت مباني البلدية خلال مرحلة الانسحاب، بعد وقف إطلاق النار، حيث استبدل القصف بالهدم الممنهج للأحياء والمؤسسات.

وبين 18شباط 2025، واليوم، استهدف العدوان الغرف الجاهزة التابعة للبلديات، بما شمل ما جلبته بلدية الناقورة من غرف جاهزة كمكاتب لها. 

بحسب تأكيد من جمعية “وتعاونوا” التي أشرفت على توزيع البيوت الجاهزة في القرى الجنوبية، فإنّ العدوان الإسرائيلي استهدف عددًا من هذه المنشآت التي خُصصت لتأمين الحد الأدنى من الخدمات البلدية والصحية في المناطق المتضرّرة. مسؤول العلاقات العامة في الجمعية جمال شعيب، يعدد أمثلة: عيتا الشعب، ميس الجبل، يارون، مركبا، وكفركلا. في هذه القرى، أُصيب أكثر من بيت من تلك التي كانت تُستخدم كمقار بديلة للبلديات أو كمكاتب للمخاتير. هذه البيوت كانت جزءًا من مشروع “باحة الخدمات”، الذي أُطلق لتأمين غرف بديلة للعمل البلدي أو الصحي أو الإسعافي، في ظل غياب البنى الرسمية. وامتد الاستهداف إلى محيبيب، والناقورة، وغيرها من بلدات الخط الأمامي.

مع ذلك، فرض استحقاق الانتخابات البلدية نفسه. معظم هذه القرى حسمت مجالسها عبر التزكية، وبعضها الآخر يستعد غدًا للاقتراع، رغم أنّ الإدارة المحلية باتت بلا مقرّات، وأحيانًا بلا موظفين، بين شهيد ومهجّر.

في معظم القرى الحدودية، اتُبع مسار التزكية لتشكيل المجالس البلدية، بدفع من حزب الله وحركة أمل، وبتحالفات سياسية وعائلية واسعة. خرجت بضعة قرى حدودية عن هذا المسار. لكن حتى هذه الانتخابات لا تُجرى داخل القرى نفسها.

انتخابات وتزكية، غارات ودم 

عيترون من بين القرى الحدودية التي استعادت شيئًا من حياتها تحت وطأة العدوان المستمر. عاد إليها ما يقارب 620 عائلة منذ شباط الماضي، رغم الدمار الذي طال أحياءها ومبناها البلدي. لم تنتظر البلدية بدء أي عملية رسمية لإعادة الإعمار، بل رمّمت ما تبقى من مبناها البلدي وعاودت العمل منه.

بدعم من أبناء البلدة والمغتربين، وبتنظيم من البلدية التي تنسّق مع مؤسسة جهاد البناء، أُنجزت سلسلة من المشاريع الصغيرة: شراء مولّدات كهرباء، تمديد كابلات، توزيع 300 لمبة طاقة شمسية، تجهيز محطة تنقية مياه، وتوفير خدمة رعاية صحية يومية من خلال غرفة جاهزة في ساحة البلدة. كانت العودة جزئية، لكن الحضور البلدي لم يتوقف.

يقول يوسف، إبن البلدة، والمنخرط بالحملات الانتخابية فيها: “حميت الانتخابات عنّا، لكن قبلها وبعدها، في ورشة لإعادة الإعمار بجهود ذاتية. الحرب بعدها شغّالة، والناس بعدها عم ترجع رغم الخطر”. 

مساء الخميس، وقبل يومين من الاقتراع، استهدفت طائرة مسيّرة أحد أبناء البلدة، محمد حيدر، أثناء تنقّله وسطها. ساد الصمت، وتوقفت مكبّرات الصوت. 

السبت، تستعد البلدة للاقتراع. التزكية لم تتحقّق. المنافسة قائمة وتجري الانتخابات في بلدة تحاول الإعمار مع الدور الأساسي للبلديات في هذه العملية، لكنها تعيش تحت احتمال الضربة التالية.

حين قررت وزارة الداخلية نقل مراكز الاقتراع من القرى الحدودية المتضرّرة إلى مناطق أبعد، كان الهدف المعلن هو تأمين العملية الانتخابية في أماكن أكثر أمانًا. لكنّ مصادر من اتحاد بلديات صور أكدت لـ “المفكرة” أنّ هذا القرار جاء بعد مسار طويل من البحث في خيارات بديلة داخل القرى نفسها.

وفق المصادر نفسها، جرى درس فكرة إقامة مراكز نقالة أو خيم كبيرة، أو حتى استخدام بيوت جاهزة مؤقتة، لتسهيل الاقتراع داخل القرى الحدودية، رغم الدمار. لكن الاستهداف المتكرّر للبيوت الجاهزة في أكثر من بلدة حدودية أطاح بالخطة، مع قرار وزارة الداخلية اعتماد خيار نقل المراكز إلى خارج القرى. “السبب أمني بحت، العدوان ما وقف”، قال أحد المعنيين لـ “المفكرة”.

لكن “المناطق الآمنة” نفسها لم تسلم من القصف. ففي الأيام التي سبقت الجولة الرابعة من الانتخابات، تصاعدت الغارات الإسرائيلية في البلدات الجنوبية، وبينها تلك التي حُددت كمراكز اقتراع بديلة. وفي سائر الجنوب، شنّت الطائرات الإسرائيلية موجتين من الغارات، امتدّت من مساء الخميس إلى صباح الجمعة. قضاء وراء قضاء، نزلت الغارات على الجنوب. ومع دخول المنطقة مرحلة الصمت الانتخابي، ظلّ صوت الغارات هو الأعلى. 

أسئلة مفتوحة تحت سماء الغارات

الأسباب الأمنية التي منعت أن تُجرى الانتخابات في القرى الحدودية، أثبت العدوان الإسرائيلي خلال جولتي الغارات العنيفة والمكثفة ليلة أمس، عشية الانتخابات، أنّها يُمكن أن تنطبق في أي لحظة على كل جغرافيا الجنوب. روّجت بعض وسائل الإعلام أنّ الدولة اللبنانية حصلت على “ضمانات” غير مباشرة بألّا يعكّر العدوان صفو الانتخابات. لكنّ الغارات التي وقعت لم تُبقِ شيئًا من هذه الضمانات.

هكذا، تطرح الوقائع سؤالًا لا يفارق أهل الجنوب الليلة: هل لهذا التصعيد أهداف سياسية مباشرة؟ هل أصبحت الطائرات الحربية الإسرائيليّة طرفًا انتخابيًا عبر ترويع الأهالي ومحاولة ثنيهم عن التوجّه جنوبًا لممارسة حقهم بالاقتراع؟

لكن، وعلى بعد ساعات من فتح صناديق الاقتراع، يستمرّ الزحف الجنوبي على الطرقات السريعة، وتزدحم شوارع القرى بأهلها العائدين من العاصمة. مشهدٌ يتكامل مع أحاديث الناس، ليُظهر كيف أن تصعيد العدوان في السماء يُقابَل بردّ فعلٍ عكسي على الأرض: زخمٌ أكبر، وإصرارٌ على تحدّي العدوان، وتثبيت الحقّ في انتخاب البلديات كخطوة أساسية على طريق العودة، والتعافي، واستعادة الحياة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني