أعادت الحرب على غزة اليوم ترتيب خطوط المواجهة بين “الجنوب العالمي” المضاد للاستعمار والإمبريالية والشمال الاستعماري التاريخي الذي تمثل “إسرائيل” امتداده في المنطقة. لكنها كشفت في نفس الوقت أنّ حدود الشمال والجنوب قد تغيّرت تماما خارج الصورة الذهنية عن جغرافيا الأعلى والأسفل في الخريطة. تعزّز حضور الجنوب في الشمال في دول كإسبانيا وإيرلندا واسكتلندا عبر مواقف رسمية على غاية من الأهمية، لكن الأبرز هو موجات الدعم الشعبي التي أرجعت القضية الفلسطينية على ساحة التداول السياسي الداخلي والخارجي. إلاّ أنّ المفارقة هي حضور الشمال في الجنوب في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. فالمواقف تجاه القضية الفلسطينية هناك متغيّرة بل ومتذبذبة. كلما خرج منها موقف قوي وداعم لفلسطين إلا وأعاد إرثا تاريخيا مشتركا محوره التحرر المحلي والعالمي. ما يطرح السؤال عن تحدي استثمار التاريخ التحرري المشترك أمام استراتيجيات نفوذ حيوية ومهيكلة ومدعومة ومخطط لها.
أمريكا اللاتينية: المدّ اليساري وتمدّد اليمين
لم تكن أغنية الرابر التشيلية الفرنسية Ana Tijoux بالتعاون مع الفلسطينية البريطانية شادية منصور “نحن الجنوب” (Somos Sur) الصادرة سنة 2014 إلا جزءًا من تراكم طويل لتأثير هجرة فلسطينية إلى أمريكا الجنوبية امتدت على قرون من الزمن. جمعت الصورة والموسيقى التراث الفلسطيني لغة ولباسا إلى جانب الزيّ التقليدي واللغة المحلية لتشيلي بكلمات تجاوزت حدود إنتماء المغنيتين إلى “جنوب” “المهمشين” و”غير المرئيين” و”المجبرين على الصمت” من نيجيريا وتونس والشيلي وبورتوريكو وبوليفيا والجزائر وسوريا وفنزويلا والكاميرون وغيرها… لم يغب كذلك شعار “فلسطين حرة” ضد “اليانكيز” والإنكليز والألمان. لكن هذه الثقافة الثورية المتجذرة شعبيا لم تكن تبرز سياسيا ورسميا بشكل كبير في أمريكا اللاتينية إلى وقت قريب قبل بداية القرن الواحد والعشرين.
بدأت الهجرة الفلسطينية إلى أمريكا اللاتينية منذ فترة الخلافة العثمانية وازدادت بعد 1948. تتراوح تقديرات عدد الفلسطينيين اليوم بين 400 ألف و700 ألف في أمريكا الجنوبية. وقد التحموا منذ وصولهم بالسكان الأصليين بفضل نشاطهم الاقتصادي، واتّخذ هذا الالتحام بعدا سياسيا بعد أن ربطت المنظمات الفلسطينية (اليسارية منها) صلات عديدة مع رموز التحرّر وتنظيماته بدءًا بالحركة التشيلية MIR، وتوباماروس في البيرو، ومنتناروس في الأرجنتين، والثوريين الكوبيين وكذلك الثوري إرنستو “تشي” غيفارا. فتشكلت منظمات وجمعيات ونقابات ممثلة لهم في المجتمع المدني المحلي. لكن ذلك لم يكن لينتج تأثيراته لولا انحسار تأثير الولايات المتحدة الأمريكية تدريجيا في جنوب القارة الأمريكية بعد أن استغلتها على كل المستويات وحشدت دولها للمساهمة في تأييد ودعم نشأة “إسرائيل” خلال الأربعينات والخمسينات.[1] منذ حرب 1973 لم تكن مواقف دول أمريكا الجنوبية لتتغير لولا المتغيرات المرافقة لها بدءًا بتأثيرات حرب الفيتنام وصعود الحركات الشعبوية في أبرز الدول كالمكسيك وتشيلي وفنزويلا وتطور الرأي العام الأمريكي اللاتيني المعادي للإمبريالية. ظهرت منذ ذلك التاريخ مجموعات ثلاث في هذه الدول بين مؤيد ومحايد ومعارض لـ”إسرائيل”. لكن تأثير الأخيرة تواصل بسبب نفوذها التاريخي والذي تطور بفضل علاقاتها الإقتصادية وخاصة عبر سوق السلاح الذي مثلت أول مصدّريه للمنطقة.[2] فعليّا انتعش الامتداد الإسرائيلي في أمريكا اللاتينية طويلا بالتوازي مع الأنظمة العسكرية واليمينية المدعومة من الولايات المتحدة في فضاء كانت تعتبره استراتيجيا وممنوعا على غيرها حفاظا على أمنها ومصالحها (مبدأ مونرو) لكنه تحول إلى ساحتها الخلفية.
كان من الضروري انتظار بداية الألفينات مع صعود الحركات اليسارية إلى السلطة حتى تتغيّر السياسة الخارجية لعدد كبير من دول القارة نحو دعم القضية الفلسطينية بشكل صريح ورسمي. فتجارب حُكم اليسار أواسط القرن العشرين قد حرصت الولايات المتحدة الأمريكية بأذرعها الاستخباراتية والاقتصادية على إجهاضها. إلا أنّ توجّه هذه الحركات نحو التخلّي عن العنف والتعويل على الانخراط في الصراع السياسي سمح لها بالفوز عبر صناديق الاقتراع مع هوغو شافيز في فنزويلا (1999) ولولا داسيلفا في البرازيل (2002) وإيفو موراليس في بوليفيا (2006) وصولا إلى أواسط الألفينات عندما كان ثلاثة أرباع سكان أمريكا الجنوبية تحت حكم حكومات يسارية، في ما سُمي بموجة “المد الوردي” (The Pink Tide).[3] انطلقت في هذه الفترة مرحلة تنسيق عربي-لاتيني في مؤتمرات برازيليا 2005 ومؤتمر الدوحة 2009. ظهرت مواقف عدة تعول عموما على القانون الدولي والدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني، ولا تتوانى عن قطع العلاقات مع “إسرائيل”. كما هو الحال مع بوليفيا سنة 2009 احتجاجاّ على الحرب على قطاع غزة. وهي الدولة التي بادرت إلى قطع علاقاتها مجدّدا نتيجة للعدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، بعد استئنافها سنة 2019 من طرف الحكومة اليمينيّة التي سبقت انتخابات 2020. وقد برّر وزير الخارجية البوليفي فريدي ماماني القرار بإدانة دولته “الأعمال العدوانية الإسرائيلية في قطاع غزة”، على خلفية أنها تشكل تهديداً للسلام والاستقرار الدوليين”. التحقت كذلك ببوليفيا كلّ من التشيلي وكولومبيا، ليشكّلواحاضنة يسارية لدعم القضية الفلسطينية. لكن وجب تنسيب ذلك حيث أنّ الموقف البرازيلي على سبيل المثال، رغم تمسكه بحلّ الدولتين، إلا أنه يحافظ على علاقات اقتصادية وعسكرية مستقرة مع إسرائيل منذ الثمانينات حتى بوجود اليسار في السلطة. وهو موقف يتماشى مع استراتيجية البرازيل الخارجية كقوة إقليمية صاعدة تتموقع بين القوى الكبرى التي تعوّل على تغيير توازنات العلاقات الدولية نحو تعدد الأقطاب. وهو موقف يميل نحو دعم إسرائيل بنتيجة صعود اليمين كما حصل في عهد بولسونارو. وتعيش الأرجنتين اليوم على وقع نفس التحولات بعد صعود الرئيس خافيير ميلي. لم يخفِ الأخير علاقاته بأصحاب أعمال ورجال دين داعمين لإسرائيل وبادر عند الإعلان عن فوزه إلى رفع العلم الإسرائيلي بين أنصاره.[4] ما يؤكد أنّ أمريكا اللاتينية ساحة صراع على النفوذ بين امتداد اسرائيلي في ظل النفوذ الأمريكي وحضور عربي فلسطيني لم يرتق إلى التحوّل إلى لوبي قائم الذات ومستقر. وتشهد على ذلك الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في الإكوادور. فرغم صعود مرشّح اليمين، والحليف الاستراتيجي للحكومة الإسرائيليّة دانيال نوبوا في 23 نوفمبر 2023، لا يزال تيار الرئيسِ الأسبق اليساري رافاييل كوريا قويا وقادرا على العودة في الانتخابات القادمة المبرمجة في 2025. لتبقى المواقف والتحالفات مفتوحة على مصراعيها.
يتطلب تحليل دعم القضية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية عدم الاندفاع في قراءة المواقف السياسية التي تتغير بمجرد صعود اليمين إلى السلطة، خاصة أنه على ارتباط واضح باللوبي الصهيوني القوي والمهيكل في المنطقة (منظمات مثل: الاتحاد الإسرائيلي البرازيلي والرابطة الأرجنتينية الإسرائيلية المشتركة ومفوضية الروابط الإسرائيلية الأرجنتينية). إذ أنه لوبي سعى إلى ربط علاقات اقتصادية وثقافية متينة عملت على تكوين نخب ثقافية وطلابية موالية لها عبر برامج دعم ومنح للناشطين والشباب طوال سنوات. فيما في المقابل يبقى الحضور الفلسطيني والعربي مرتبطا بحركات يسارية تاريخية ودعم شعبي لا يجد له استيعابا وتوظيفا في لوبي ونفوذ مستقرين يعولان على علاقات اقتصادية وثقافية سياسية وازنة وديناميكة. فالقمم المذكورة أعلاه على سبيل المثال لم تساعد على تعزيز العلاقات العربية مع أمريكا اللاتينية، وقدمت طابعا سياسيا خطابيا في الأغلب دون مرور إلى التفعيل الجدي والعملي. وخلافا لقبول عضوية فنزويلا سنة 2006 والبرازيل سنة 2003 كعضو مراقب لقمة واحدة في الجامعة العربية، لم يتم وضع هياكل أو برامج أو استراتيجيات تسمح بتطوير العلاقات سواء المتعددة أو الثنائية. يؤشر هذا المعطى على حالة ضعف التأثير العربي والفلسطيني في أمريكا اللاتينية في الوقت الذي تتكيف فيه إسرائيل مع ما يعتبر موجة شعبوية يمينية بدأت ببولسورانو في البرازيل واليوم تعاود الكرة مع خافيير ميلي، الذي اعتبر “ترامب الأرجنتين”، محافظة على تحالفاتها مع اليمين السياسي والديني في المنطقة. في الأثناء، هي تواصل امتدادها في العمق الإفريقي للعرب. فإذا كان شمال الكرة الأرضية قد ضمنته نسبيا، فهي تعمل بشكل دائم على خلق الشمال في الجنوب.
إسرائيل في العمق الإفريقي للعرب: محاصرة القضية الفلسطينية
لم تكن إفريقيا بعيدة عن أعين الأيديولوجيا الصهيونية حتى قبل نشأة الكيان الإسرائيلي نفسه. تراوح مشروع توطين اليهود بين كينيا والموزمبيق والكونغو الديمقراطية (الزائير سابقا) قبل العدول عنها جميعا إلى فلسطين ضمن مخطط القوى الإستعمارية التي سعت لضمان مصالحها في المنطقة بعد مغادرتها. لكن بسبب المحيط العربي المعادي لها خلال نشأتها، توجهت الاسترايتيجية الإسرائيلية في إطار تعزيز أمنها والعمل المشترك مع النفوذ الأمريكي والغربي إلى إفريقيا لفك الطوق عنها باللعب على نفس العوامل والظروف التي وفرتها القوى الإستعمارية في القارة. فالنفوذ الإسرائيلي في إفريقيا ترافق مع الحضور الاستعماري الذي سهّل لها إقامة تمثيليات ودعم نشاط المنظمات والهيئات النقابية والاجتماعية والمهنية والطلابية. في المقابل، منعت أية علاقات بين المستعمرات والدول العربية. واصل الكيان الصهويني جهوده في إطار استراتيجية ضمان الأمن الإسرائيلي وتطويق المنطقة العربية. لكنه واجه حركات معادية للاستعمار والإمبريالية الغربية. ويمكن القول أنّ الموقف الإفريقي قد تبلور في إطار منظمة الوحدة الإفريقية منذ الستينات والسبعينات باعتبار إسرائيل قوة احتلال والتأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني.[5]
تواصلت جهود “إسرائيل” رغم المعوقات حيث تمتلك اليوم 10 سفارات في القارة الإفريقية وترعى علاقات دبلوماسية مع أكثر من 40 دولة فيها. حضرت القارة الإفريقية بالخصوص منذ بداية الألفينات في برامج وتوجهات جميع الحكومات الإسرائيلية حيث زار نتنياهو عدة دول افريقية وحضر في عدة مؤتمرات لمنظمات اقتصادية في محاولة تعزيز الحضور الإسرائيلي. حضورٌ أصبح متعدد المستويات بدءًا بالدبلوماسي والاقتصادي والثقافي والتعليمي وصولا إلى التقني والعسكري. لذلك نجد اليوم أنّ المواقف الافريقيّة تتراوح اليوم بين ثلاثة مستويات. الأول في إطار الإتحاد الإفريقي الذي صدر بيانه مؤكدا على حلّ الدولتين وضرورة وقف الحرب. وثان داعم بشكل صريح لإسرائيل تمثّله كينيا وغانا وأثيوبيا والكاميرون والكونغو الديمقراطية. أما الثالث فهو الموقف الجنوب إفريقي الداعم للقضية الفلسطينية معتبرا ممارسات الاحتلال نظام فصل عنصري مشابها لما تعرضت له جنوب إفريقيا، خصوصًا وأنّ إسرائيل كانت على علاقة بنظام الفصل العنصري. يبدو أنّ التمدد الإسرائيلي متواصل معولا على العلاقات الثنائية عبر المساعدات والعلاقات الاقتصادية برعاية أمريكية وغربية وصولا إلى محاولة اختراق المنظمات الإقليمية وبالأخصّ منظمات التعاون الاقتصادي (ECOWAS) وصولا إلى الاتحاد الإفريقي. بالإضافة إلى تطوير صادرات الأسلحة العسكرية والسيبرانية، لتضمن إسرائيل لنفسها مكانا ضمن أهمّ عشرة مصدّري أسلحة إلى إفريقيا.
ولعلّ مما سهّل هذا الاختراق الاسرائيلي، تراجع العلاقات العربيّة مع العمق الإفريقي وتحييد العوامل التاريخية والثقافية المعززة لها. فالدّول ذات الغالبية المسلمة قد انخرطت في التطبيع مع إسرائيل، ولم يعد لإرث النضال المشترك ضد الاستعمار قيمة تذكر في تحديد التوجهات والبرامج المشتركة بين العالم العربي وإفريقيا. إذ تبقى الجهود المعززة للتعاون بينهما محدودة جدا حيث يواجه مثلا الصندوق العربي للمعونة الفنية للدول الإفريقية في الجامعة العربية صعوبات مالية كبيرة بسبب تخلف المساهمين عن الإيفاء بالتزاماتهم. في المقابل، بلغت المساعدات الإسرائيلية لمواجهة وباء الإيبولا سنة 2014 8.5 مليون دولار. ووقعت سنة 2017 اتفاق شراكة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – برنامج Power Africa لتسهيل إبرام عقود طاقة في الدول التي لا تملك فيها إسرائيل حضورا دبلوماسيا. مع الحرص على دعم الجامعات والمنظمات الخيرية وإقامة علاقات مع الأئمة والشيوخ المسلمين في الدول الإفريقية عبر تبادل الزيارات وعقد المؤتمرات.[6]
فيما تسعى الإستراتيجية الإسرائيلية إلى تحقيق أهدافها باستغلال المظلة الأمريكية لتجعل من نفسها بوابة للشمال، يبقى الجنوب في مواجهة تفكك بين الأنظمة وشعوبها بحيث يكتب كل منهما ويعيش تاريخه الخاص. ففيما تاريخ الأنظمة السياسية في أمريكا اللاتينية مثل رمزا للاستبداد برعاية غربية، كان تاريخ الشعوب هو تاريخ التحرر عبر روافد ثورية يسارية ومضادة للإمبريالية. هذه الروافد قد نجحت في التحول، عبر صناديق الاقتراع والانخراط في الصراع السياسي، إلى مواقف رسمية. يبقى أن المتغيرات أصبحت أكثر تعقيدا في ظل التحولات العالمية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المنطقة. ما يجعلها عرضة لاختراق أكثر قوة يضمن للّوبي الإسرائيلي ديمومة واستقرارا. لا يختلف المشهد في إفريقيا كثيرا، حيث حيّدت إسرائيل إلى حد بعيد التاريخ الشعبي لجنوب مُستعمر ومُستغل لصالح علاقات مع الأنظمة الرسمية. وهي تواصل في هذا التوجه مستغلة غياب النفوذ العربي الموحد على حساب القضية الفلسطينية. لتبقى المبادرات الشعبية المحلية والدولية الأكثر حيوية وتغييرا للتوازنات من الأسفل.
[1] جميل مصعب محمود، أميركا اللاتينية واليسار: الابتعاد عن الجار الأميركي اقتراب من فلسطين، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد ،20 العدد 79 (صيف 2009). الرابط: https://bit.ly/4139rD6
[2] Bishara Bahbah, Linda Butler, Israel and latin america; the military connection, Palgra Macmillan, 1986.
[3] Marina Gold and Alessandro Zagato, The Pinke Tide; Egalitarianism and the Corporate State in Latin America, University of Bergen, p3. Link: https://bit.ly/3SXq9l2
[4] Argentine: Javier Milei ultralibéral et pro-Israël, élu président, The Times of israel et AFP, 20/11/2023. Lien: https://bit.ly/4a3DS02
[5] خريف عبد الوهاب، التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، مجلة البحوث والدراسات القانونية والسياسية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، عدد3، ص40-41.
[6] Israeli Cooperation with Africa, Jewish Virtual library. Link: https://bit.ly/3uxCKS1