انساب السير على الأوتوستراد الساحلي من بيروت نحو الجنوب، صباح اليوم الأحد 26 كانون الثاني 2025، على غير عادته في نهاية كل أسبوع، لا لشيء سوى لأنّ الجنوبيين كانوا قد وصلوا إلى قراهم الحدودية مع انبلاج الصباح. ومع ساعات النهار الأولى كانت أم شهيد ترفع صورة ابنها وتشرح لجندي في الجيش اللبناني على مدخل قريتها أنّها ذاهبة لتبحث عن ولدها الذي استشهد قبل ثلاثة أشهر “بدي روح فتش عليه يا إبني”، ليسمح لها بالعبور. وكان أب يقف على أبواب عيتا الشعب ليس ليعود إلى منزله فقط بل ليبحث عن جثمان ابنه الشهيد. الأب نفسه الذي رأيناه في فيديو انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي لاحقًا يحمل رأس شهيده بعدما لفّه بقطعة قماش بيضاء، ورأسه هو كلّ ما بقي من جسده. وفي فيديو آخر في ضيعة أخرى، كانت امرأة تتّشح بالسواد تتقدّم قافلة العائدين فيما يطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار من حولها، فتردّ عليهم “هيدي أرضنا وبلدنا وبدنا نرجع عليها”، ولا تتراجع.
وهؤلاء، مع الآلاف غيرهم، استعادوا اليوم وباللحم الحيّ، عشرات القرى الحدوديّة من قبضة الاحتلال الإسرائيليّ في اليوم الأوّل بعد انتهاء مهلة الانسحاب المعطاة لقوّاته بموجب إعلان وقف الأعمال العدائيّة، وفي ظلّ إعلان الحكومة الإسرائيليّة نيّتها البقاء في المناطق التي تقدّمت إليها خلال المعارك وحتى تلك التي تقدّمت إليها بعد سريان الهدنة، ما يحوّل عمليا تواجدها المؤقّت إلى احتلال.
وانطلقت مواكب العائدين منذ الفجر وتجمّع الأهالي عند مداخل القرى المحتلّة، محدّدين الساعة 7:00 صباحًا كموعد لدخول بلداتهم بشكل جماعيّ. وقد واكب الجيش اللبناني دخول الأهالي قراهم واحدة بعد أخرى، وتمركز فيها كما أعلن في بيانات متلاحقة. وبدورها استنفرت هيئات الدفاع المدنيّ والإسعاف الصحّي وعملت على إجلاء الجرحى والشهداء.
وفتح الجيش الإسرائيليّ نيران رشّاشاته على مئات المدنيّين العزّل العائدين إلى قراهم اليوم الأحد، في موجة واسعة من الاعتداءات الدمويّة التي حاولت الوقوف في وجه مسيرات العودة رغم التهديدات والمخاطر. وإضافة إلى إطلاق النار العشوائيّ والمباشر، رصدت “المفكّرة” اعتداءً واحدًا استهدف فيه الجيش الإسرائيليّ المدنيّين العزّل بقذائف الفسفور، وآخر بقنابل صوتيّة أسقطت جرحى.
وبلغت حصيلة الشهداء غير النهائيّة 22 شهيدًا وشهيدة، بينهم ستّ نساء وعسكريّ واحد في الجيش اللبنانيّ، بحسب حصيلة غير نهائيّة لوزارة الصحّة اللبنانيّة، فيما جرح 121 مواطنًا بينهم 12 سيّدة، ومسعف وجنديّة من الجيش اللبنانيّ جرّاء الاعتداءات. ومن بين الشهداء معاون أوّل في الجيش اللبنانيّ، وجنديّة جريحة. وسجّل كذلك إطلاق نار مباشر على الصحافيّين في ميس الجبل ومارون الراس، ما أدّى إلى جرح صحافيّ واحد، بينما نجت مراسلة صحافيّة من محاولة قنص في كفركلا.
وتوزّع الشهداء على قرى عيترون (خمسة شهداء) وحولا (ثلاثة) ومركبا (أربعة) وكفركلا (أربعة) والعديسة (شهيد) وبليدا (شهيد) والضهيرة (شهيد عسكري) وميس الجبل (ثلاثة شهداء).
ولم ينته اليوم على خريطة واضحة تظهر القرى التي حرّرت بالكامل من تلك التي لا تزال محتلّة بشكل جزئيّ أو كامل، وسط استمرار مسيرات الأهالي والاعتداءات الدمويّة عليها. وقد أعلن الأهالي أنّهم يبيتون اليوم ليلتهم في العراء في بلدات الخيام ومارون الراس ويارون وعيتا الشعب، المدمّرة، خوفًا من أن يؤدّي خروجهم منها إلى عودة الاحتلال، فيما يستعدّ أهالي بليدا وعيترون ويارون لدخول قراهم غدًا بعد حصيلة باهظة من الشهداء دفعوها اليوم. وقالت سيّدة من أسرة العبد في حديث مع “المفكّرة”: “سقط شهداء أمامنا اليوم، لكنّنا سنستأنف عودتنا إلى بليدا غدًا، وهذا غير قابل للنقاش”.
نور قاروط شهيدة ميس الجبل شهيدة مركبا تمارا شحيميشهداء حولا علي قطيش (في الوسط) وحسن بوزكلي (يسار الصورة) ونزار يعقوب.
إطلاق النار على العزّل
خلال يوم طويل من المواجهات التي قادها نساء ورجال عُزّل من مختلف الأعمار، رصدت “المفكّرة” إطلاق نار مباشر من قبل القوّات الإسرائيليّة على الأهالي العائدين في 14 قرية، هي كفركلا، والعديسة، ورب ثلاثين، ومركبا، وحولا، وميس الجبل، وبليدا، وعيترون، ومارون الراس ويارون الحدودية، وكذلك برج الملوك، والطيبة، وبني حيان وشقرا الخلفيّة، وذلك بحسب فيديوهات تحقّقت منها “المفكّرة”.
وأوردت وزارة الصحّة العامّة سقوط جريح واحد في كلّ من بنت جبيل وعيناتا ووادي السلوقي وبيت ياحون، وقال مصدر عسكريّ لـ”المفكّرة” إنّ هؤلاء أصيبوا جرّاء عمليّات قنص استهدفت أشخاصًا في طريق عودتهم في حالتين، وآخرين كانوا يغادرون قراهم بعد أن دخلوها في حالتين أخريين.
كما استهدف الرصاص الإسرائيليّ سيّارة جنديّة في الجيش اللبنانيّ بشكل مباشر، بحسب ما أخبر المصدر العسكريّ “المفكّرة”، وأصيبت الجنديّة راوية الحجة بجروح جرّاء تناثر الزجاج. كما استشهد المعاون أول محمد يوسف زهور بإطلاق نار إسرائيليّ استهدفه على طريق مروحين – الضهيرة، بحسب بيان رسميّ للجيش اللبنانيّ.
كما طالت الاعتداءات المجموعات الصحافيّة، فتعرّض المراسل حسن فقيه والمصوّر رضوان حرب من قناة NBN إلى إطلاق نار مباشر في ميس الجبل، وكذلك أصيب الصحافيّ حسين خليل من شركة إيزول للخدمات الإعلاميّة برصاصة أطلقها جنديّ إسرائيليّ في مارون الراس. بدورها نجت مراسلة قناة “روسيا اليوم” جويل مارون من محاولة قنص في كفركلا، وذلك بحسب شهادات مباشرة من الصحافيّن المستهدفين.
شابة في مارون الراس تقف في مواجهة الدبّابة الإسرائيلية
اعتداء بالفسفور الأبيض وخطف وعمليّة نسف
واعتدى الجيش الإسرائيليّ بإطلاق قنبلة فسفور أبيض على تجمّع للعائدين قرب وسط بلدة كفركلا، بحسب المصدر العسكريّ ذاته الذي تحدّث لـ”المفكّرة”، وقال شاهد من برج الملوك لـ “المفكّرة” إنّه رأى تفجّر قنبلة في الجوّ تصاعد منها دخان أبيض بما يشبه شكل انفجار قنابل الفسفور الأبيض.
بدورها قالت سيّدة لـ”المفكّرة” إنّ ولدها أصيب بضيق تنفّس جرّاء تنشّق ما وصفته بـ”دخان ذي رائحة كريهة” وهو يتلقّى العناية الطبيّة اللازمة.
وفي حولا، حيث سقط أوّل العائدين شهيدًا اليوم، وهو الشاب علي قطيش، خطفت القوّات الإسرائيليّة 3 مواطنين مع ساعات الصباح الأولى.
كذلك استهدفت قرية الوزّاني الحدوديّة بعمليّة نسف جديدة عصرًا، وكانت القرية قد شهدت نسف جميع الاستراحات السياحيّة على ضفاف نهر الوزّاني خلال الأسبوع الأخير من مهلة الانسحاب. وعند حدود العاشرة ليلًا، نفذ الاحتلال عملية نسف عنيفة في كفركلا سُمع صداها في أرجاء الجنوب كافة.
ونفّذت قوّات الاحتلال الإسرائيليّة عمليات تمشيط وإطلاق نار عشوائيّة من مواقعها في حولا وكفركلا ومركبا.
الجيش اللبناني يؤمّن غطاء دفاعيًا للأهالي العائدين إلى ميس الجبل
جرائم كبرى تحت غطاء ذرائع واهية
مارس أهالي القرى الحدوديّة اليوم الأحد حقّهم الأصيل بالعودة إلى قراهم، وإن كانت التهديدات الإسرائيليّة قد سبقت الاعتداءات الدمويّة ضدّهم وبشكل مباشر، إلّا أن هذه التهديدات لا تشكّل سوى اعترافاً بنية ارتكاب الجريمة وإدامة التهجير القسري لأهالي القرى الحدودية.
وقد نصّ إعلان وقف الأعمال العدائيّة بوضوح على عودة السكان فور بدء سريانه، أي منذ الـ 4:00 من فجر يوم 27 تشرين الأوّل 2024. ولم تكن مهلة الـ60 يومًا سوى مهلة انسحاب للقوّات الإسرائيليّة. وعليه، فإنّ مجمل التهديدات سواء على لسان المسؤولين الرسميّين أو المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي، أو حتى من خلال اتصالات مباشرة، تعدّ إخلالا بهذا الاتفاق يضاف إلى الإخلال الذي تمثل بعدم انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب.
من جانبه، أكد الجيش اللبناني أن العائق الوحيد أمام عودته إلى مواقعه على طول القرى المحتلّة هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وهو أوضح بشكل حاسم أن سبب تأخر انتشاره هو “نتيجة المماطلة في الانسحاب من جانب العدو الإسرائيلي، ما يعقّد مهمة انتشار الجيش”، وأشار في بيانه يوم أمس إلى أنّه “يحافظ على الجهوزيّة لاستكمال انتشاره فور انسحاب العدو الإسرائيلي”، وهو ما أثبته اليوم من خلال مواكبته دخول الأهالي إلى القرى. وتُسقط هذه الحقائق بشكل حاسم الذريعة الاسرائيلية بشأن تأخر انتشار الجيش، إذ أن هذا التأخر يعود لعدم الانسحاب، لا العكس، بما يُظهر كيف أن الادعاءات الإسرائيلية لا ترقى لكونها أكثر من ذرائع لاستمرار الاحتلال.
وتأتي الارتكابات الإسرائيليّة اليوم استكمالًا للجرائم الممنهجة خلال الهدنة. وقد شنّت القوّات الإسرائيليّة 855 هجومًا مباشرًا ضدّ القرى وأهلها طوال فترة المهلة الستّينيّة، شكّلت انتهاكات جسيمة لإعلان وقف الأعمال العدائيّة والقرار 1701، ووثّقتها “المفكّرة” في تقرير منفصل، كان أفظعها ضدّ هوية هذه القرى وكينونتها في عمليات نسف وتجريف واسعة النطاق ضدّ البنى التحتية والمنازل والمباني الخدمية والمنشآت الصناعية والزراعية والآثار والتراث، ما يشير إلى تحويل الجيش الإسرائيليّ مهلة الانسحاب إلى مهلة لاستكمال التدمير.
في هذا السياق، تأتي أهمية ما حصل اليوم من انتزاع الأهالي قراهم، رغم كل محاولات الاحتلال محوها عن الخريطة وقطع ارتباطهم بها، ومع تحوّل التواجد الإسرائيليّ من مؤقّت إلى احتلال يستدعي التصديّ له. وبهذا، تكون العودة اليوم فعل مقاومة ودليلًا حيًّا على العزم والتحدّي في مواجهة التدمير الممنهج ومحاولات الاقتلاع، حيث ينتزع الناس المبادرة ويواكبهم جيشهم في مواجهة جرائم الاحتلال المستمرة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.