الجمعية العامة للأمم المتحدّة تمهل إسرائيل عامًا لإنهاء الاحتلال في فلسطين


2024-11-29    |   

الجمعية العامة للأمم المتحدّة تمهل إسرائيل عامًا لإنهاء الاحتلال في فلسطين
الجمعية العامة للأمم المتحدة

بتاريخ[1]  18 أيلول 2024، وبعد مضيّ شهرين على صدور الرأي الاستشاري عن محكمة العدل الدولية حول الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدّة قرارًا رحّبت فيه برأي المحكمة واتّخذت فيه سلسلة تدابير من أجل تطبيقه، أبرزها مطالبة إسرائيل بإنهاء احتلالها خلال مهلة عام. وقد صدر القرار رقم 10/24 بأغلبية 124 دولة (مقابل رفض 14 دولة وامتناع 43 دولة)، مما يؤكّد وجود توافق دوليّ واسع حوله. وكانت فتوى المحكمة الصادرة في 19 تمّوز 2024 التي قدّمت مكتسبات تاريخية للقضية الفلسطينية، وأوكلت مسؤولية “تحديد السبل الملائمة لإنهاء الوجود الإسرائيلي غير المشروع في الأرض الفلسطينية المحتلة” لمجلس الأمن وللهيئة العامة التي طلبت الرأي[1]، مع تشديدها على “الحاجة الملحة لأن تقوم الأمم المتحدة بمضاعفة جهودها” من أجل إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مثلما جاء في رأيها عام 2004[2].

جاء قرار الجمعية العامّة مطابقًا بشكل واسع لرأي المحكمة حيث أكّد على أهمّ المكاسب القانونية التي قدّمها الرأي، ومنعها إعلان عدم قانونية الاحتلال، تكريس وحدة الأرض المحتلّة التي تشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية  وغزة[3]، ورفض إخضاع حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم لشروط سلطة الاحتلال[4]،  واعتبار أنّ ممارسات الاحتلال تخالف المادة 3 من مناهضة أشكال التمييز التي تحظر الفصل والعزل العنصري[5]، بالإضافة إلى إسقاط ذريعة اتفاقيات أوسلو وحجّة المخاوف الأمنية لإسرائيل من أجل تقويض حقوق الفلسطينيين بموجب القانون الدولي[6].

بالإضافة إلى هذه المكاسب القانونية، حدّدت المحكمة الموجبات الملقاة على عاتق جميع الأطراف، أي إسرائيل، وكافّة الدول والأمم المتحدة، أبرزها موجب إنهاء الاحتلال وكافّة التدابير والممارسات الإسرائيلية غير القانونية. فجاء قرار الجمعية العامة ليحدد تفاصيل هذه الموجبات وأدوار هيئات الأمم المتّحدة. وتكمن أهمية القرار ليس في تطابقه مع رأي المحكمة لجهة تحديد التبعات القانونية الناتجة عن عدم قانونية الاحتلال وممارساته فحسب، بل أيضّا في تجاوزه الرأي في بعض الأحيان لجهة تحديده الموجبات المفروضة على إسرائيل والدول وهيئات الأمم المتحدة. ففيما بررت بعض الدول[7] امتناعها عن التصويت بحجة أن القرار تجاوز حدود الرأي، من المهم الإشارة إلى أن ذلك يدخل من ضمن مسؤوليات الجمعية العامّة، إذ أن المحكمة نفسها اعتبرت أن تحديد آليات تطبيق رأيها يعود لهيئات الأمم المتحدة وبشكل خاص للجمعية العامة التي طلبت الرأي. من هذا المنطلق، كانت الجمعية العامة لتعدّ متخلية عن مهامها لو أنها اكتفت بالترحيب بالرأي من دون اتخاذ الإجراءات التي تترتب عليها من جرائه.

وكان لافتًا تركيز الجمعية العامّة على مفهوم المساءلة، فختمت مقدّمة القرار بالتشديد على “الضرورة الحتمية لكفالة المساءلة عن جميع انتهاكات القانون الدولي من أجل إنهاء الإفلات من العقاب وضمان إقرار العدالة وردع أيّ انتهاكات مقبلة وحماية المدنيين وتعزيز السلام”، بما يؤكّد اعتمادها لمقاربة السلام في فلسطين على نحو يشمل العدالة ولا ينكرها. وترجم القرار هذه الضرورة في عدد من بنوده، حيث لفت إلى ضرورة إنشاء آلية دولية لجبر جميع الأضرار الناجمة عن الاحتلال، وإنشاء سجل دولي يوثّق هذه الأضرار والخسائر ويجمع الأدلة حولها. كما طلبت الجمعية من جميع الدول دعم جهود المساءلة لجميع الضحايا[8]. كما أكّدت على ضرورة ضمان المساءلة عن “الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي من خلال تحقيقات ومحاكمات مناسبة وعادلة ومستقلة على المستوى الوطني أو الدولي”[9].

في المقابل، تأتي الممارسات الإسرائيلية الأخيرة لتؤكّد على ازدراء إسرائيل الصريح لرأي المحكمة ولقرار الجمعية العامة حيث تستمر في ترسيخ احتلالها على كامل الأراضي الفلسطينية، وفي اتخاذ تدابير تمييزية إضافيّة بحقّ الفلسطينيين، وفي انتهاكها الصريح للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وفي تنفيذ سياسة هدم المنازل التي أدانتها المحكمة بوضوح. ويشكّل تصريح وزير المالية بتسالل سموتريش الذي أمل فيه أن تمّد إسرائيل سيادتها إلى الضفة الغربية في عام 2025 خير دليل ليس فقط على عدم احترام إسرائيل للرأي والقرار، بل اتباعها جهارًا مسارًا مناقضا تمامًا.

وقبل المضي في البحث بأبرز الموجبات الناتجة عن رأي المحكمة  وقرار الجمعية، يسجّل أن القرار صدر في إطار آلية “الاتّحاد من أجل السلام” التي تُجيز للجمعية العامّة أن تصدر توصيات تراها ضروريّة من أجل استعادة الأمن والسلم الدوليين، وذلك في حال أخفق مجلس الأمن في التصرف للحفاظ عليهما. وعليه، فإنّ القرار يكتسب أهميّة بالغة لارتباطه بهذه الآلية من دون أن يكون له صفة إلزامية. ولكنّ غياب الصفة الإلزامية للقرار، كما للآراء الاستشارية للمحكمة، لا يعني غياب الآثار القانونية والسياسية المباشرة لها[10]، إذ تشكّل سندًا لجميع الدول والمنظمات الدولية لاتخاذ الإجراءات المتلائمة معها. وحين ينطوي الرأي الاستشاري للمحكمة على التزامات تجاه الكافة (erga omnes obligations) كما هي حال هذا الرأي، فتكون هذه الموجبات ملزمة لجميع الدول بشكلٍ مباشر[11]، وذلك كون الرأي لم يخلق هذه الموجبات التي كانت قائمة بذاتها قبل تاريخ صدوره، بل اكتفى بإعلانها.

1. موجب إنهاء الاحتلال من دون تأخير في مهلة أقصاها 12 شهر

“على إسرائيل إنهاء وجودها في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أسرع وقت ممكن” (الفقرة 267). لعل أبرز مكاسب فتوى محكمة العدل الدولية يكمن في إعلانها موجب إسرائيل بانهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية “بأسرع وقت ممكن”، ومن دون ربط الانسحاب بأية شروط.

والتزامًا بالدور الذي أولتْها إياه المحكمة، فرضت الجمعية العامة إطارًا زمنيًا واضحًا لإنهاء الاحتلال من كامل الأراضي الفلسطينية يتمثّل بمهلة أقصاها 12 شهرًا من تاريخ اتخاذ القرار[12]. والمفهوم من هذا الأجل الأجل النهائي الذي يجدر أن يكون انتهى الاحتلال فيه تمامًا. أمّا العمل من أجل إنهاء الاحتلال، فهو فوري، حيث نبّه القرار أنّ على اسرائيل أن تلتزم و”من دون تأخير” بإنهاء أعمالها غير القانونية من ضمنها  سحب جميع قواتها العسكرية من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك من مجالها الجوي والبحري.

وتكمن أهمية فرض الجمعيّة العامّة مهلة زمنية للانسحاب في أنّها قطعت الطريق أمام التذرّع بحجج مختلفة لعرقلة الانسحاب، والتي كان برز بعض منها في البيانات المستقلّة الصادرة عن قضاة محكمة العدل. وفيما حاول بعض القضاة إنكار هذا الموجب أو التخفيف من حدّته، إلّا أنّ القراءة التي قدمّوها والتي يستشف منها التساهل مع الاحتلال، تتعارض مع موقف المحكمة لدى قراءته كوحدة متكاملة. 

بالإضافة إلى اعتراضهم على توصيف الاحتلال بالغير قانوني، رفض القضاة الثلاثة أوريسكو (رومانيا)، أبراهام (فرنسا) وتومكا (سلوفايكيا)، إعلان موجب إسرائيل بالانسحاب الكامل وبأسرع وقت بالنظر إلى “صعوبته في ظل غياب الضمانات [لاسرائيل]، ومن دون تعريض أمنها لتهديدات جوهرية.” بهذا الموقف، تمسّك القضاة الثلاثة بمعادلة ربط الانسحاب الإسرائيلي وممارسة الشعب الفلسطيني حقّه في تقرير المصير بحقّ إسرائيل (وفلسطين) في الأمن، وقد عارضوا الرأي لأنّه أسقط هذه المعادلة بوضوح. واعترضت أيضًا القاضية سيبوتندي (أوغندا) على إعلان موجب الانسحاب، حيث اعتبرت أنّ “صياغة الرأي الاستشاري التي تُغَيِّب ولا تلحظ المخاوف الأمنية الاسرائيلية” من شأنها أن تعطي عبارة “الانسحاب بأسرع وقت” نفس التأثير لعبارات “انسحاب فوري وكامل وغير مشروط” الذي طالبت به فلسطين ومعظم المشاركات.

أمّا لجهة القضاة المؤيدين للرأي، فقد لحظ القاضيان كليفلند (الولايات المتّحدة الأمريكية) ونولت (المانيا)، أنّ العبارة التي اعتمدتها المحكمة تختلف عن الصيغة التي حثّ عليها بعض الدول والمنظمات الدولية التي شاركت في إجراءاتها بشأن الانسحاب الفوري والكامل وغير المشروط. وقد بديا متساهلين في تفسيرهما للرأي حيث اعتبرا أنّ “واجب إسرائيل بإنهاء وجودها لا يعني أن واجبها بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجب بالضرورة أن يتم الوفاء به بنفس الطريقة، أو في نفس الوقت، فيما يتعلق بكل جزء من تلك الأراضي”. كما أكّد القاضي إيواساوا (اليابان) أنّ إسرائيل ليست ملزمة بسحب جميع قواتها المسلحة من الأراضي الفلسطينية نظرًا لمخاوفها الأمنية المشروعة “خاصة في قطاع غزة في ضوء الأعمال العدائية المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023″، وذلك رغم إسقاط المحكمة هذه الحجة كما أشرنا في المقالة السابقة.

وإذا قرأنا رأي المحكمة بشكل متكامل، نرى أنّ آراء هؤلاء القضاة تتناقض معه، إذ أنّ المحكمة اعتبرت أنّ الاحتلال ينكر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الذي يتمتع بمكانة عليا في قواعد القانون الدولي، مما يجعله حقًا غير قابل للتنازل أو الاستثناء ولا يخضع لشروط سلطة الاحتلال. كما أكّدت على وحدة الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية، القدس الشرقية وغزة) وخضوعها كاملة للاحتلال الإسرائيلي، واستبعدت حجة المخاوف الأمنية لتبرير استمرار الاحتلال. 

من هنا، جاء الموقف الأكثر توافقًا مع الرأي من رئيس المحكمة القاضي سلام (لبنان) الذي اعتبر أن الانسحاب هو الالتزام الأساسي المستخلص من الرأي، ويعني ذلك أنه لا يمكن ربط هذا الانسحاب بنجاح المفاوضات التي تعتمد نتائجها بشكل كبير على موافقة إسرائيل. وعلى وجه الخصوص، اعتبر أنّه ليس لإسرائيل أن تتذرع بضرورة التوصل إلى اتفاق مسبق بشأن مطالبها الأمنية قبل الانسحاب، لأن مثل هذا الشرط قد يؤدّي إلى إدامة احتلالها غير المشروع. وأشار القاضي سلام إلى أن المفاوضات يجب أن تركّز على “طرق تنفيذ الانسحاب وآلياته”، وليس على “مسألة الانسحاب الإسرائيلي الذي يجب أن يتم وفقًا لشروط الرأي بأسرع ما يمكن”.

2. موجبات إضافية أساسية على عاتق إسرائيل

بالإضافة إلى إعلان وجوب الانسحاب السريع من الأراضي المحتلة، أعلنت المحكمة جملة من الموجبات التي تقع على إسرائيل والتي غالبا ما يحاول الإسرائيليون ترك البتّ فيها إلى مفاوضات مستقبلية بهدف إرغام الفلسطينيّين على تقديم المزيد من التنازلات حولها. وها هي المحكمة تعلن أنّها موجبات قانونية لا يمكن التفاوض عليها، وجاء قرار الجمعية العامة ليؤكّد عليها ويحدد بعض التدابير لمتابعة تنفيذها.

ومن أبرز الموجبات الملقاة على عاتق إسرائيل، الآتية:

  • ●        الوقف الفوري لأي نشاط استيطاني جديد وإخلاء جميع المستوطنين من المستوطنات القائمة[13]، وهو ما سيشمل أكثر من 714 ألف مستوطن في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
  • ●        إلغاء جميع القوانين والتدابير التي تخلق أو تحافظ على الوضع غير القانوني، بما في ذلك تلك التي تميز ضد الشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة. وفي هذا الإطار، أوكلت الجمعية العامة إلى الأمين العام (بالتشاور مع مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان ومع بعض الدول الأعضاء ذات الخبرة والدراية ذات الصلة)، مهمة تقديم مقترحات حول إنشاء آلية للمتابعة فيما يتصل بارتكاب إسرائيل جريمة الفصل والعزل العنصريين[14]. ويذكر أنّ بعض الخبراء كانوا قد نادوا بإعادة إنشاء اللجنة الخاصة للأمم المتحدة لمناهضة الفصل العنصري[15] التي كان لها دور حاسم في العمل على فرض عقوبات دولية فعّالة على نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وتقديم الدعم للضحايا ولحركات التحرير، وضمان استمرار نشر الوعي بشأن وحشية نظام الفصل العنصري.
  • إلغاء جميع القوانين والتدابير التي تهدف إلى تغيير التكوين الديمغرافي لأي جزء من هذه الأرض[16]؛ وقد لحظ قرار الجمعية العامة بشكل خاص ضرورة إلغاء التدابير التي تنتهك الوضع التاريخي في الأماكن المقدسة في القدس[17].
  • إعادة الأراضي والعقارات الأخرى، وجميع الأصول التي صادرتها إسرائيل من أي شخص طبيعي أو معنوي منذ بداية احتلالها في عام 1967، وأي ممتلكات ثقافية ومبانٍ تمّ الاستيلاء عليها بما في ذلك الوثائق والمحفوظات[18].
  • ●        تفكيك أجزاء الجدار التي بنتها إسرائيل والواقعة في الأرض الفلسطينية المحتلة، وهو ما كانت قد أعلنته المحكمة في رأيها السابق عام 2004[19].
  • تمكين جميع الفلسطينيين الذين نزحوا أثناء الاحتلال من العودة إلى أماكن إقامتهم الأصلية. وفيما حصر الرأي حق العودة للفلسطينيين المهجّرين قسرًا ابتداءً من العام 1967 من دون أن يتطرّق للمهجّرين منذ النكبة عام 1948، أتى قرار الجمعية بصيغة مماثلة حيث طلبت الجمعية العامة من إسرائيل “السماح لجميع الفلسطينيين النازحين أثناء الاحتلال بالعودة إلى مكان إقامتهم الأصلي”[20].
  • تعويض الفلسطينيين عن الأضرار الناجمة عن الاحتلال في حال تعذّر الاسترداد المادي. وقد أثار هذا الموجب غضب القاضية سيبوتندي (أوغندا) التي رفضت تطبيق مبدأ التعويض الشامل معتبرة أنّه لا يمكن تحميل إسرائيل المسؤولية وحدها، فالفلسطينيون مسؤولون أيضًا “عن فشل مفاوضات السلام السابقة واللجوء إلى الحرب”، وإلى حد ما “المجتمع الدولي لتأخره في إيجاد حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”. لكنّ الجمعية العامة أكّدت على هذا الموجب، وأقرّت بالحاجة إلى إنشاء آلية دولية لجبر جميع الأضرار أو الخسائر أو الإصابات الناجمة عن الاحتلال، ودعت الدول الأطراف إلى إنشاء سجل دولي للأضرار ليكون بمثابة وثيقة تسجّل فيها الأدلة والمعلومات المتصلة بالمطالبات المتعلقة بالأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين والمعنويين وكذلك بالشعب الفلسطيني ككل بسبب أفعال اسرائيل غير المشروعة، من أجل “تعزيز عملية جمع الأدلة والمبادرات الرامية إلى تقديم إسرائيل ذلك الجبر”[21]. نذكر هنا أنّ عام 2007، وعملًا برأي المحكمة في قضية الجدار الفاصل (2004) قررت الجمعية العامة  إنشاء سجل الأمم المتحدة للأضرار الناجمة عن تشييد الجدار في الأرض الفلسطينية المحتلة (UNRoD) يتولّى مهمّة تسجيل مطالبات المتضررين من تشييد الجدار ولكنّه لا يقدّم التعويضات.
  • وكان لافتًا أن قرار الجمعية العامة أضاف صراحة موجب إسرائيل بالامتثال الفوري للالتزامات بموجب القانون الدولي المشار إليها في أوامر التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية في دعوى الإبادة الجماعية المقامة ضدّها من قبل جنوب أفريقيا؛ في حين كانت المحكمة قد أشارت إلى أنّ الأعمال العسكرية الدائرة في غزة تخرج عن نطاق الرأي المطلوب منها. كما أكّدت المحكمة أنّ الالتزامات الناشئة عن أفعال إسرائيل غير المشروعة دوليًا لا تعفيها من واجبها المستمر في الوفاء بالالتزامات الدولية بصفتها سلطة احتلال. وعلى وجه الخصوص، تبقى إسرائيل ملزمة بمراعاة التزامها باحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان (272 الفقرة).

يذكر أنّ المحكمة لم تستجب لطلب بعض المشاركات حول فرض ضمانات على إسرائيل لعدم تكرار ممارساتها غير القانونية.

3. التزامات على الدول والمنظمات الدولية

أكّدت الجمعية العامّة على الموجبات التي وضعتها المحكمة على عاتق الدول كافة نتيجة انعدام قانونية الاحتلال. وقد لحظت المحكمة أنّ “الالتزامات التي خالفتها إسرائيل تشمل التزامات تجاه الكافة” (erga omnes)، أي أنّها موجبات تقع على عاتق كل الأطراف (دولًا ومنظمات دولية)، وذلك بالنظر إلى أهمية القواعد والحقوق التي تحميها. يقع ضمن هذا التصنيف على وجه الخصوص الحق في تقرير المصير وحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة. وننوّه بأنّ المحكمة، لدى تطبيقها قواعد المسؤولية العامة على الحالة الإسرائيلية، قامت بالتأكيد على موجبات الدول، لكنّها لم تخلق هذه الموجبات التي تُعتبر قائمة بذاتها قبل صدور الرأي أو قرار الجمعية العامّة.

بالنسبة لحق تقرير المصير، اعتبرت المحكمة أنّه إذ يعود للأمم المتحدة ولهيئاتها مسؤولية تحديد التدابير اللازمة لضمان إنهاء الوجود الإسرائيلي غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة وممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير،  إلّا أنّ على جميع الدول أن تتعاون معها لتعطي هذه التدابير كامل مفاعيلها[22].  وذكّر قرار الجمعية العامّة بهذا الموجب داعيًا الدول أن تعمل بشكل مشترك أو منفرد من أجل إعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وأن تمتنع عن أي عمل يحرم الشعب الفلسطيني من هذا الحق، وأن تكفل إنهاء أي عوائق ناجمة عن الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأراضي المحتلة. وقد استندت المحكمة على عدد من القرارات السابقة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة[23] التي حددت فيها موجبات الدول والمنظمات الدولية الناجمة عن مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، لتُعيد التأكيد عليها في متن رأيها وتستخلص الموجبات الإضافية.

موجب عدم الاعتراف بالوضع غير القانوني

أكّدت المحكمة والجمعية العامّة أنّه على الدول الأطراف الامتناع عن الاعتراف بقانونية الوضع الناشئ عن وجود إسرائيل غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، أو بأي تغييرات في الطابع المادي أو التكوين الديموغرافي للأرض المحتلة أو في هيكلها المؤسساتي إلا ما يتفق عليه الطرفان من خلال المفاوضات. ويشمل ذلك موجب ضمان أن الاتفاقيات المعقودة مع إسرائيل لا تعني الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي التي احتلتها في عام 1967. كما يجب على جميع الدول والمنظمات، عند إنشاء وإدامة بعثات دبلوماسية في إسرائيل،  الامتناع عن الاعتراف بأي شكل من الأشكال بوجودها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة.

ضمان تطبيق القانون الدولي الإنساني

ذكّرت المحكمة بأن جميع الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة ملزمة أن تضمن احترام إسرائيل للقانون الإنساني الدولي على النحو المنصوص عليه في هذه الاتفاقية[24]. وبناء عليه، دعت الجمعية العامة سويسرا لعقد مؤتمر للدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة في غضون ستة أشهر من أجل تحديد تدابير إنفاذ الاتفاقية[25]. يذكر أنه سبق وعقدت سويسرا ثلاثة مؤتمرات مماثلة[26]، كان آخرها المؤتمر في عام 2014 الذي قاطعته اسرائيل وضغطت من أجل عدم عقده ومقاطعته، منددةً ب “تسييس اتفاقيات جنيف” واستغلالها لمهاجمة إسرائيل. وإذ لبّت بعض الدول النداء الإسرائيلي (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا)، إلّا أنّ المشاركة في المؤتمر كانت واسعة.

موجب الامتناع عن تقديم المساعدة والدعم

أكّدت المحكمة والجمعية العامّة أنّه على الدول الأطراف الامتناع عن تقديم مساعدة أو دعم يساهمان في استمرار الوضع الناجم عن الوجود الإسرائيلي غير القانوني. وقد جاء ذلك ليوّسع الموجب الذي كانت أعلنت عنه سابقًا الجمعية العامة في قرارها عام 2019  بشأن منع “تزويد إسرائيل بأي مساعدة قد تُستخدم بشكل مباشر لصالح المستوطنات”[27]، إذ أصبح يطال أي منفعة لاستمرار الاحتلال وليس فقط محصورًا بالمنفعة للمستوطنات[28].

موجب التمييز بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة

أعلنت الجمعية العامّة أنّه يجب على جميع الدول والمنظمات التمييز بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة في إطار تعاملاتها الديبلوماسية والسياسية والقانونية والعسكرية والاقتصادية والتجارية والمالية مع إسرائيل. ويشمل ذلك، الامتناع عن إقامة اتفاقيات مع إسرائيل في الحالات التي تزعم فيها التصرّف نيابة عن الأراضي المحتلّة أو جزء منها في المسائل المتعلقة بالأراضي، والامتناع عن إقامة علاقات تجارية أو اقتصادية مع إسرائيل التي من شأنها أن ترسّخ وجودها غير القانوني في هذه الأراضي، بما فيها ما يتصل بالمستوطنات، والامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في القدس. وأعلنت المحكمة أيضًا أنّه على الدول أخذ التدابير اللازمة لمنع من أن يساهم التبادل التجاري والاستثمارات في استمرار الواقع غير القانوني في الأرض المحتلة.

وعليه، تفرض هذه الموجبات أن تقوم جميع الدول بمراجعة آليات تعاملها مع إسرائيل، وبخاصة فيما يتعلّق بالعلاقات الاقتصادية مع المستطونات، إذ من شأنها أن تنتج منفعة مادية للمستوطنات وأن تشكّل اعترافًا ضمنيًّا بوضع غير قانوني. وإذا ما نظرنا إلى سياسة الاتحاد الأوروبي في هذا الخصوص، فهي تعتمد رسميًا سياسة تمييز (رغم ضعفها من حيث التطبيق والمراقبة)، فلا تمنح البضائع المستوردة من المستوطنات امتيازات التعرفة الجمركية، وتفرض أن يكون مصدرها واضحًا على الملصق. ولكنها لا تمنع دخول هذه البضائع إلى السوق بالمطلق، بل تظل الأسواق الأوروبية مفتوحة أمامها. لذلك، تسمح هذه السياسة بتقديم المنفعة المادية للمستوطنات المصدرة للبضائع، ما يعدّ مساهمة في دعم المستوطنات، وتاليًا إخلالًا من الدول الأوروبية بالتزاماتها، خصوصًا أن الأسواق الأوروبية تشكّل أكبر سوق للبضائع الإسرائيلية، وأنّ نسبة التجارة القادمة من المستوطنات عالية جدًا[29].

يبقى أن موجب التمييز يواجه تحديّات أساسية في التطبيق إذ لا يمكن الفصل عمليًّا بين الاقتصاد الإسرائيلي الداخلي واقتصاد المستوطنات في معظم القطاعات، إذ يحظر القانون الإسرائيلي على الحكومات الإسرائيلية والجهات الخاصة التمييز بين إسرائيل ومستوطناتها. على سبيل المثال، تلتزم البنوك ومقدمو خدمات الاتصالات ومحلات البيع بتقديم خدماتهم في المستوطنات، وينطبق ذلك على كل القطاعات، بما فيها المياه والزراعة وتصنيع الأسلحة، علمًا أنّ هذه الأسلحة يتم تطويرها وتجريبها في كل عدوان اسرائيلي سواء على غزة أو في الضفة الغربية أو حتى لبنان، قبل تصديرها إلى الدول الأخرى، سيما الأوروبية[30].

لذلك، إن العواقب القانونية المترتبة على عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي تفرض على جميع الدول موجب وضع قواعد واضحة بشأن منشأ المنتجات والخدمات الإسرائيلية، وحظر العلاقات الاقتصادية في حال لا يمكن ضمان أن المنشأ “غير مرتبط بالمستوطنات” أو لا يمكن تحقيق الشفافية التي يتطلبها موجب التمييز. وهذا يعني عمليًا، أنّه في حالة الشك، يجب الامتناع عن إقامة العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل بالمطلق، وليس فقط فيما يتعلّق بالأراضي المحتلّة.

خطوات إضافية دعت إليها الجمعية العامة

بالإضافة إلى تأكيدها على الالتزامات التي أعلنت عنها المحكمة، دعت الجمعية العامّة الدول إلى اتخاذ خطوات إضافية تماشيًا مع التزاماتها الدولية. ومن هذه الخطوات:

  • ضمان ألا يقوم القطاع الخاص، بما في ذلك الشركات والأفراد الخاضعين لسلطتها، بأي تصرف يُساهم في الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو يقدم الدعم أو المساعدة في الإبقاء عليه؛
  • وقف استيراد أي منتجات منشؤها المستوطنات الإسرائيلية؛
  • وقف توفير أو نقل الأسلحة والذخائر والمعدات لإسرائيل التي يرجّح استخدامها في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛
  • فرض عقوبات، بما فيها حظر السفر وتجميد الأصول، على الأفراد والكيانات الضالعين في الإبقاء على الاحتلال، بما في ذلك فيما يتعلق بعنف المستوطنين؛
  • دعم جهود المساءلة لصالح جميع الضحايا.

[1] الرأي الاستشاري 2024، فقرة 281

[2] الرأي الاستشاري 2024، الفقرة 282

[3] “Reaffirming the illegality of Israeli settlements and their associated regime, as well as all other measures aimed at altering the demographic composition, character and status of the City of Jerusalem and of the Occupied Palestinian Territory as a whole, and rejecting in this regard any attempt at demographic or territorial change in the Gaza Strip, including any actions that reduce the territory of the Gaza Strip, which constitutes an integral part of the Occupied Palestinian Territory” . A/ES-10/L.31/Rev.1 Preambule, p. 4-5

[4] A/RES/ES-10/24 Preambule (h) p. 3

[5] A/RES/ES-10/24,Preambule (e) p. 3

[6] A/RES/ES-10/24,Preambule (i) p. 4

[7] كوريا، استراليا، سويسرا، المانيا

[8] قرار الجمعية العامة، فقرة 5.د

[9] قرار الجمعية العامة، فقرة 11

[10] Moise Jean, “Les avis consultatifs de la Cour internationale de Justice, un puissant outil de développement du droit international”. L’Observateur des Nations Unies, 2024, 55 (2023-2), pp.251-277

[11] CIJ, Avis consultatif sur les Conséquences juridiques pour les États de la présence continue de l’Afrique du Sud en Namibie (1971), § 119 et 123-124; CIJ, Avis consultatif sur les Conséquences juridiques de la séparation de l’archipel des Chagos (2019), §183; CIJ, avis consultatif sur les Conséquences juridiques de l’édification d’un mur (2004), §183.

[12] قرار الجمعية العامة، الفقرة 2.

[13] الرأي الاستشاري  الفقرة 268 والفقرة 270؛ قرار فقرة 3.ب

[14] قرار الجمعية العامة  فقرة 14؛ الرأي الاستشاري فقرة 268

[15] تأسست عام 1962 بقرار الجمعية العامة (رقم 1762)

[16] الرأي الاستشاري فقرة 268

[17] قرار الجمعية العامة فقرة 3.ب

[18] الرأي الاستشاري فقرة 270؛ قرار الجمعية العامة فقرة 3.ج

[19] الرأي الاستشاري فقرة 270؛ قرار الجمعية العامة فقرة 3. ب

[20] الرأي الاستشاري فقرة 270، قرار الجمعية العامة فقرة 3.د

[21] قرار الجمعية العامة فقرة 9-10

[22] الرأي الاستشاري فقرة 275

[23] Conseil de Sécurité : Résolution 465 (1980); Resolution 2334 (2016); Assemblée Générale : Résolution 74/11 (2019),  Résolution 77/126 (2022), Résolution 32/161 (1977),

[24] الرأي الاستشاري فقرة 279

[25] قرار الجمعية العامة، فقرة 12

[26] عام 1999، عام 2001 وعام 2014

[27] AG résolution 74/11 (2019)

[28] الرأي الاستشاري فقرة 279، قرار الجمعية العامة فقرة 4.ج

[29] “Les échanges économiques entre l’Union européenne et Israël sont très importants, l’UE constituant la principale destination d’exportation des produits israéliens. Ces échanges comprennent une part non négligeable de produits en provenance des colonies, même si leur volume précis est malaisé à déterminer, compte tenu de l’étiquetage « made in Israël » de nombreuses marchandises manufacturées en tout ou en partie dans les colonies, comme l’a constaté la mission internationale indépendante d’établissement des faits. Dans un rapport publié en 2012, la Banque mondiale a souligné l’importance de l’économie des colonies, évaluée comme suit : « There are about 20 Israeli industrial settlements in the West Bank in addition to many others with cultivated agricultural areas (agricultural developments sometimes extend beyond the built up boundaries of the settlements). The Government of Israel estimates that the value of goods produced in West Bank settlements and exported to Europe is US$300 million per year. Other analysis also considers goods that were partially produced in settlements, resulting in an increased estimate of US$5.4 billion in 2008 ». Francois Dubuisson,  “Les obligations internationales de l’Union européenne et de ses États membres concernant les relations économiques avec les colonies israéliennes”, ULB 2014.

[30] “الاحتلال الإسرائيلي يستعمل الجسد الفلسطيني كرأس مال استثماري تسويقي لأسلحته”، غسان أبو ستة في حوار مع المفكرة في كانون الأول 2023.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، محكمة العدل الدولية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني