في 15 ماي الفائت، وتزامنًا مع الحملة التي قادتها السّلطة ضدّ عدد من مُسيّري ومُسيّرات الجمعيّات، خاصّة الناشطة منها في مجال الهجرة غير النّظاميّة، استقدَم رئيس الدولة قيس سعيد وزيرة الماليّة سهام نمصية إلى قصر قرطاج، وطلب منها –”وهي العارفة بالأرقام”- قراءة حجم التمويلات الأجنبية التي تحصّلت عليها الجمعيات منذ 2011 إلى 2023. خلال ذلك اللقاء، طالب الرئيس لجنة التحاليل الماليّة التابعة للبنك المركزي التونسي بمزيد التحرّي في التدفّقات الماليّة الواردة من الخارج لتمويل الجمعيات التي تمثّل، حسب رأيه، امتدادًا لدول من الخارج. لم يكن هذا اللّقاء الأول حول التمويلات الأجنبية التي تتلقاها المنظمات والجمعيات، إذ سبق وأن تحدّث الرئيس أثناء لقاء جمعه برئيس الحكومة السابق أحمد الحشاني ووزيرتَي العدل والمالية، في 24 نوفمبر 2023، عن جمعيّة تلقّت سنة 2022 أكثر من مليونَيْ دينار، داعيًا إلى إعادة النظر في المفاهيم المتعلّقة بالمجتمع المدني والمجتمع السياسي.
تعدّ تونس أكثر من 25 ألف جمعيّة تنشط في الفضاء العامّ حسب مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات “إفادة“، التابع لرئاسة الحكومة. وتخضع الجمعيّات في إحداثها وتسييرها وطرق تمويلها إلى أحكام المرسوم عدد 88 لسنة 2011، الّذي ينصّ في فصله 34 على أنّ “التبرعات والهبات والوصايا، وطنية كانت أو أجنبية”، تُعَدّ من بين موارد تمويل الجمعية. فيما يمنع الفصل 35 أن تتلقّى الجمعيّة مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات ديبلوماسية. فالجمعيّات إذًا ليست جسمًا غريبًا وجب بترُه، بل هي جزء من مكوّنات الفضاء المدني الخاضع لقوانين الدّولة التونسية.
“الجمعيات تهتمّ بالشأن العامّ ونقد السياسات العمومية، وهي لا تسعى إلى الوصول إلى السلطة ولكنها طرف فاعل في الفضاء العام وفي الساحة المدنية، من جانب الاقتراح والنقد”، يقول أمين خرّاط، محلّل السياسات العمومية في منظمة البوصلة، للمفكرة القانونية.
تحالفت السّلطة والإدارة في مضايقة عمل الجمعيّات، تواصُلًا مع هدم الأجسام الوسيطة والإجهاز على مكوّنات الحياة السياسيّة، التي يُراد لها أن تُختَزَل في الفعل السياسي الّذي تُمارسه السلطة، خاصّة في فترة الانتخابات وما تخلّلها من توظيف للقانون ومن مضايقات طالت عددًا من المترشّحين، تفاعلت معها بعض المكوّنات المدنيّة والسياسيّة لتُشكّل جبهة موحّدة مُمثّلةً في الشبكة التونسية للحقوق والحريّات، نزلت إلى الشوارع في مناسبات متواترة تعبيرًا عن رفضها لكلّ المناورات السياسية التي تقوم بها السلطة لتُجدّد عهدتَها الرئاسيّة، بما في ذلك تعنّت هيئة الانتخابات في تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، وتنقيح القانون الانتخابي في اتّجاه سحب اختصاص النّزاعات الانتخابية من المحكمة الإدارية، والرقابة الماليّة على تمويل الحملة الانتخابية من محكمة المحاسبات، وتكليف القضاء العدلي بها.
استهداف ناشطي وناشطات مجتمع الميم-عين
توجّه الرئيس قيس سعيّد في بيانه الانتخابي الّذي نُشر في 16 سبتمبر الماضي بالخطاب إلى “الأبواق المأجورة المسعورة” الّتي “يتباكى أصحابها على الحريّة والديمقراطية”، في حين أنّهم يتظاهرون تحت الحماية الأمنيّة، و”يذرفون الدّموع الكاذبة على الديمقراطية”. ويعتبر كاتب البيان أنّه “من المفارقات” أن تجمع هذه المظاهرات بين من يدعون إلى تطبيق الشريعة مع من يدعون إلى المثلية الجنسية، خصوصًا وأنّ المسيرات الّتي نظّمتها الشبكة التونسية للحقوق والحريّات استطاعت أن تجمع عديد الفرقاء من منتسبي حركة النّهضة وعددا من التقدّميين والتقدّميات والنّشطاء والناشطات من مجتمع الميم-عين ضدّ السلطة.
“نحن ندفع ثمن مواقفنا وتسيُّسنا وثمن أزمة النظام في علاقته بالحقوق والحريّات”، يقول الناشط السياسي الكويري وعضو جمعية دمج سيف عيادي للمفكرة القانونية، ليضيف: “الصّدام مع النّظام ليس جديدًا، فهو يعيش بالحملات بدءًا بالقُضاة، فالمحامين والصّحافة والنّساء والمهاجرين وصولًا إلى مجتمع الميم-عين، ويريد أن يجعلنا نتصادم مع شعبنا. لأنّ خطاب التفرقة والخطاب العنصري العنيف يجدّ صداه لدى الأوساط الأكثر هشاشةً وفقرًا وتهميشًا. المواجهة مع الشعب ليست خيارَنا، ولكنّ السلطة تدفع في هذا الاتجاه”.
تعرّض عدد من الناشطين والناشطات ضمن جمعية دمج للعدالة والمساواة إلى حملة تضييقات خلال فترة الانتخابات، حيث تمّ استدعاء الناشطة ميرا بن صالح منسقة مكتب الجنوب لدمج استدعاء للمثول أمام فرقة الشرطة العدلية بباب بحر في صفاقس من دون تقديم أي معلومات أخرى تبعتها استدعاءات أمنية أخرى لمناضلين من جمعيات كويرية تونسية أخرى، وفق بيان الجمعية الصادر يوم 19 سبتمبر الماضي، فيما تمّ استدعاء الناشطة الكويرية أصالة المدوّخي للمثول أمام الإدارة الفرعية للأبحاث بالقرجاني يوم 10 أكتوبر، من دون توضيح أسباب الاستدعاء. وقد تزامنت هذه الأعمال “الانتقامية” مع حملة إيقافات عشوائية جماعية أطلقتها وزارة الداخلية بداية من 26 سبتمبر ضد أفراد مجتمع الميم-عين على أساس فصول تتعلق بالاعتداء على الأخلاق الحميدة والتجاهر بما ينافي الحياء والفصل 230 من المجلة الجزائية، بالإضافة إلى تهم هضم جانب موظف عمومي وتجاوزت فيها عدد المساجين والمسجونات 27 شخصًا، “عبر قرارات قضائية سريعة وإجراءات لا تضمن حق الدفاع وشروط المحاكمة العادلة”، وفق بيان نشرته دمج على صفحتها يوم 03 أكتوبر.
تضييقات إدارية وماليّة وتحقيقات أمنية
إلى جانب الهرسلة الأمنية، تتعرّض الجمعيّات إلى تدقيق ورقابة إداريّة وماليّة على حساباتها البنكيّة، وإلى تثبّت وتمحيص في وثائق الضمان الاجتماعي والمساهمات الاجتماعية، في سياق مشحون ضدّ الجمعيّات، يُشكّك في نشاطها وفي ولائها ويعتبرها امتدادًا “لأطراف خارجيّة”، وهو ما يجعل الرقابة في وقت تشحّ فيه ضمانات المحاكمة العادلة ونزاهة الإجراءات، أمرًا يبعث على التخوّف، خاصّة وأنّ الجمعيّات المعنيّة بهذه الإجراءات والتدابير عُرفت بمواقفها الصّريحة في كشف تجاوزات السلطة. “السلطة يُزعجها صوت الجمعيّات لأنّها تمارس المساءلة السياسية، فتعتبرها أطرافًا دخيلة، خاصّة عندما تصل الجمعيّة إلى قطاع واسع من المتابعين والمتابعات. نحن نتعرّض إلى هرسلة ممنهجة، ورأس الحرْبة هي منظّمة أنا يقظ لأنّها تشتغل على الشأن العامّ وهي قادرة على كشف السياسات الفاشلة للدّولة”، يقول المدير التنفيذي لمنظمة أنا يقظ، طلال الفرشيشي، للمفكرة القانونية، مُضيفًا أنّ تكرّر الاستدعاءات للتحقيق أمام فرق الأبحاث المتشعبة ومكافحة الإجرام والأبحاث الاقتصادية يكاد يُصبح “أمرًا عاديًّا”: “تمّ استدعاؤنا للبحث في 15 مناسبة تقريبًا خلال هذه السنة، في قضايا مُضحكة أحيانًا، من قبيل “من يُموّل أنشطتكم وما هو معدّل الأجور الّتي تتقاضَوْنَها”، وأخرى رسميّة إمّا على سبيل الاسترشاد أو في قضايا يتمّ فتحُها. على سبيل المثال، وجدنا أنفسنا محلّ شكاية من هيئة الانتخابات بعد نشر تقرير حول مدى إيفاء رئيس الدّولة بالتزاماته ووعوده، اعتبرته نشرًا لنتائج سبر آراء، وهو ما يُعتبر في حدّ ذاته هرسلة، لأنّك لا تعلم ما إذا كنت ستعود إلى البيت بعد التحقيق أو سيتمّ إيقافك. تجد نفسَك تُحارب الدّولة بكلّ أجهزتها، ومهما بلغت قوّتك وشجاعتك كناشط مدني فإنّك حتْمًا ستُرهَق وتُستنزَف”.
من ناحية أخرى، تقول سارة بن سعيد رئيسة جمعيّة أصوات نساء للمفكرة القانونية، إنّ التضييقات شملت بالأساس الرقابة على التمويلات، حيث أصبحت البنوك تلعب دورًا رقابيًّا على التحويلات الماليّة، والحال أنّ هذا الدّور تتعهّد به بالأساس رئاسة الحكومة. “أصبحنا نقضي معظم وقتنا في إعداد الوثائق عوضًا عن الانشغال بخلايا الإنصات للنساء المُعنَّفات والدفاع عن حقوق النّساء المهمّشات اللواتي يحتجْنَ إعانةً عدليّة وقضائيّة”.
فيما يقول سيف عيادي إنّ البنوك أصبحت تُطالب الجمعيّات بتوفير اتّفاقيات التمويل مع الجهات الأجنبيّة المانحة، رغم أنّها تمتلك تلك الوثائق. هذا التدقيق من شأنه أن يُعطّل تغذية الحسابات الماليّة لمدّة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، وهو ما يحول دون قيام الجمعيّة بنشاطاتها وخلاص أجور موظّفيها ومسدي الخدمات. أمّا منظّمة أنا يقظ، فيقول مديرها التنفيذي للمفكرة القانونية إنّ أبرز التضييقات تتلخّص في منع الجمعية من ممارسة عملها الميداني، وهو أسوأ ما يُمكن أن يحصل لمنظّمة تعتمد بالأساس على أنشطة القُرب، عبر عدم توفير الوثائق الضرورية من القباضة الماليّة لاستكمال الشراءات، بالإضافة إلى تعطيل التحويلات المالية من البنك المركزي التونسي. “في بعض الأحيان، تبقى الأموال عالقة لدى البنك المركزي لمدّة قد تصل إلى ستة أشهر”، يقول طلال الفرشيشي للمفكرة.
ماذا عن بدائل مواجهة المنع والتضييق؟
طرحنا سؤالًا على ممثّلي وممثلات الجمعيات التي تحدّثنا إليهم، “ماذا ستفعلون في صورة غلق كلّ العمل المدني لأسباب سياسيّة تحت غطاء قانوني؟ فكانت الإجابات متناغمة، دون تنسيق بين الفاعلين والفاعلات، على أن تواصل الجمعيّات نشاطها في كلّ الظروف، “شريطة أن تتحدوا”، وفق ما قاله سيف عيادي عن جمعية دمج: “المنظومة لا تُفرّق بين من هم مُسيّسون ومن هم غير مُسيَّسين. لا بدّ من رفع الوعي لدى الجمعيّات للنضال من أجل عدم غلق قوس الثورة والحريّات. الجمعيّات المُضمَّنة بالسجلّ الوطني للمؤسسات تُساهم في الصناديق الاجتماعيّة وفي الناتج القومي الخامّ وفي إدخال العُملة الصعبة للبلاد”، وهو ما يتقاطع مع ما ذكرته سارة بن سعيد عن جمعية أصوات نساء، فهي ترى أنّ الجمعيّة تُساهم في تشغيل النّساء المُفقَّرات والشابات اللواتي يُعتَبَرْن “الأكثر عُرضة للبطالة. نحن نساهم بقدر كبير في الصناديق الاجتماعية وفي الضرائب ونلعب دورًا في الحلقة الاقتصاديّة، والتضييقُ على الجمعيات سيزيد من حجم البطالة وسيحدّ من قيمة المساهمات الاجتماعيّة”.
فيما يرى محلّل السياسات العمومية في جمعية البوصلة، أمين خرّاط، أنّ العمل المدني لا ينقطع بانقطاع التمويلات أو بغلق الجمعيّات وإنّما يتواصل بشكل تطوّعي. أمّا مدير أنا يقظ فيرى أنّ عمل الجمعيات لا يظهر “وقت الرّخاء”، وأنّ “أنا يقظ” ليست مرتبطة بمقرّ وتمويلات، بل هي “حراك”، وبقاؤها رهين هياكلها وأنشطتها.
في الأثناء، وفي سياق السعي إلى تقنين التضييقات ومنع العمل الجمعياتي، قدّم عدد من النوّاب في 10 أكتوبر 2023 مقترح قانون يهدف، وفق وثيقة شرح أسبابه، إلى “إضفاء الشفافية على التعاملات المالية للجمعيات ووضع ضوابط للتمويل الأجنبي الذي استشرى منذ صدور المرسوم عدد 88 لسنة 2011″، على اعتبار أنّ الجمعيات “برزت كالفقاقيع” وفق عبارة أصحاب المبادرة، انسجامًا مع الخطاب السيادوي الّذي تروّج له السّلطة. وقد نظّمت لجنة الحقوق والحريات بالبرلمان خمسة اجتماعات في شأن هذه المبادرة، كان آخرها في 18 جويلية 2024. فيما أشرف رئيس الحكومة السابق أحمد الحشاني على مجلس وزاري مضيّق في 05 جويلية الماضي يعلّق بمناقشة مشروع قانون أساسي يُنظّم عمل الجمعيات، بشكل يُحقّق الموازنة بين حرية التنظم والرقابة على النُّظم المالية للجمعيات، وفق ما ورد في صفحة رئاسة الحكومة.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 31
لقراءة وتحميل العدد 31 بصيغة PDF