يوم 24 نوفمبر الماضي تلقى الطالب بكلية العلوم القانونية بتونس يحيي السهيلي استدعاءً للمثول أمام الفرقة الأولى لمكافحة الإجرام بولاية بن عروس، حيث وجد الطالب نفسه معرضا لتهم عدة تصل عقوبة أحدها لعشر سنوات سجن وفقا لأحكام المرسوم “54”، وذلك على خلفية ما تم اعتباره “تشهيرا وتشويها وشتما وانتهاكات للكرامة و تهديدا بأعمال انتقامية”. هذه التهم الخطيرة بنيت على منشور فيسبوك ساخر من صنف “الميمز” قام الأخير بنشره، أما الطرف المشتكي فكانت أستاذة في الكلية كانت “صورتها” محلّ السخرية في ذلك المنشور.
وقد نجحت الحادثة في إثارة الرأي العام الطلابي على الأقل، إذ شهدت كلية العلوم القانونية إضرابا عاما طلابيا يومي 27 و28 نوفمبر، تزامنا مع مثول السهيلي أمام الفرقة المعنية، و”حرب بيانات” بين عمادة الكلية وفرع الاتحاد العام لطلبة تونس، وصولا إلى تضامن عدد من المنظمات والجمعيات مع الطالب. وبعد الاستماع إلى أقواله يوم 28 نوفمبر بقي الطالب في حالة سراح، من دون أن يتوقّف بذلك الجدل والاستغراب. ذلك أن الحادثة، وإن وجدنا جذورا لها في ممارسات شبيهة كشفت عن رغبة في التضييق على حرية الطلبة في التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي، تمثّل سابقة في شكلها الجزائي والتّهم الموجّهة، ناهيك إذا وقع تنزيلها في سياق واقع شامل سمته التهديد والتضييق على كل أشكال الحقوق والحريات.
سوابق وجذور التضييق العميقة
يوم 8 جوان 2019، لم يكن متوقعا أن تدوينة الطالب بكلية الطب بتونس وجيه ذكار الساخرة على موقع فيسبوك، قد تثير أي اهتمام يتجاوز سخرية بعض من متابعي صفحته الخاصة. إلاّ أنّ مسلسل الأحداث التي تلت أثبت عكس ذلك، إذ تلقى الطالب في البداية استجوابا من طرف إدارة الكلية حول ما اعتبرته “متنافيا وتراتيب القانون الداخلي للمؤسسة”. وبتاريخ 26 جويلية قرر مجلس التأديب طرد الطالب لمدة 4 أشهر، وفي ظل خصوصية النظام التعليمي لهذه الشعبة وما يستوجبه من تربصات إجبارية، فإنّ هذا القرار كان يعني على أرض الواقع قرارا بالطرد لمدة سنة.
وقتها تمّ ارتهان إلغاء العقوبة أو التخفيف منها بتقديم الطالب الاعتذار عما بدر منه، وهو ما رفضه واختار عوضا عنه التوجه للمحكمة الإدارية. وفي شهر نوفمبر تمّ تصعيد القضية مع تبني منظمة الأطباء الشبان للملف وتنفيذها لإضراب وطني بكامل كليات الطب يوم 4 نوفمبر وتهديدها بآخر قادم. وتسارعت الأحداث مع حملة إعلامية واسعة لمناصرة القضية، أسفرت عن تأكيد الاتحاد العام التونسي للشغل على تبنيه ودعمه لقضية الطالب، بل وحتى تدخل وزارة الإشراف نفسها التي سعت ” لإيجاد حلّ بعد أن أخذت المسألة أبعادا أخرى”. وقد انتهت القضيّة بتوصّل إدارة الكلية لاتفاق مع الطالب، عاد بموجبه لمقاعد الكلية.
لم تكن هذه الحادثة الأولى ولا الأخيرة، بل إنها تزامنت مع حادثة من الصنف ذاته تقريبا تتعلق بطالب بكلية صفاقس للطب، قام بنشر تدوينة ساخرة في مجموعة فيسبوك مخصصة للطلبة، تم على إثرها دعوته للمثول أمام مجلس التأديب، الذي “أجبره” على الاعتذار وإبداء الأسف ليس فقط داخل المجلس بل مع نشر اعتذار علني “للسيد العميد” في نفس المجموعة، ومع ذلك فإنّ هذا لم يشفع للأخير من التعرض لعقوبة تأديبية هي “التوبيخ” .
وفي نوفمبر 2020، تكرّر المشهد مع الطالب بكلية علوم الصحة بتونس حمزة العياري. وهو ما تطلّب تدخّل الاتحاد العام لطلبة تونس.
ورغم أنّ هذه الممارسة لم تقتصر على التعليم العالي بل تعدّته لمراحل تعليمية أدنى إلا أنها تشترك جميعا في أنّ مبررات من قبيل “الإخلال بواجب التحفظ” أو “الثلب” كانت تخفي على الأرجح رغبة شخصية في التتبع، ولولاها لما تم “منح” الطلبة إمكانية “الاعتذار”. في حين تبرز في المقابل مقاربة أخرى ترى أن للمؤسسة الجامعية مهمة تربوية تتجاوز في أدائها أسوار الكلية، وما منح الطلبة فرصة للاعتذار إلا تكريس لذلك الدور التربوي والإصلاحي الذي تضطلع به نحوهم. وبقطع النظر عن كل ذلك فإن تكرار هذه الحوادث على مواقع التواصل، أكد أننا أمام ظاهرة سرعان ما ستطرح بإلحاح أمام المشرع والقضاء.
عشرية الثورة: التكريس المتعثر لحرية التعبير على مواقع التواصل
قبل إصدار الرئيس سعيّد للمرسوم عدد 54 لسنة 2022، لم يكن التعبير على التواصل الاجتماعي وما قد يترتب عنه من “تجاوزات” محتملة، خاضعًا لنصّ تجريمي خاص، بل لجملة من الأحكام الجزائية المتفرقة بين النصوص. وأبرز هذه النصوص، الفصل 86 من مجلة الاتصالات الصادرة سنة 2001 الذي يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة واحدة وسنتين و بخطية من مائة إلى ألف دينار “كل من يتعمد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحتهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات”. كما كان للمرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الدور الكبير في تحديد مفاهيم الثلب والشتم أو التحريض، وتمييز الحالات التي يتعلّق فيها الأمر بالشأن العامّ عبر نقل عبء الإثبات من الشخص المتّهَم بالثلب إلى الشخص (العامّ) المعني به، والتخلي عن العقوبات السجنيّة. لكنّ المرسوم لم ينسخ بشكل صريح وقاطع الفصول 245 إلى 247 من المجلّة الجزائيّة الموروثة من عهود الاستبداد، والتي تعاقب جرائم التشهير والقذف بعبارات فضفاضة وبعقوبات سجنيّة قاسية، فواصلت المحاكم تطبيقها. كما طرح مجال تطبيق المرسوم 115 أسئلة، خصوصا حول جواز اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي كوسائل إعلام إلكترونيّة أو أماكن عموميّة.
فقد رفضت محكمة التعقيب الاستناد إلى الفصل 54 من المرسوم عدد 115 بهدف تتبع شخص قام بتنزيل منشور على صفحته في “فيسبوك”، باعتبار أنّ مواقع التواصل الاجتماعي لا تعدّ وسيلة من وسائل الإعلام الإلكترونية نظرا “لانحصار الاطلاع على الصفحات المنشورة على المواقع في عدد محدود من الأفراد لهم علاقة بعضهم بالبعض الآخر ولم يكن القصد من إحداث تلك الصفحات النشر الواسع للمعلومات والأخبار للعموم”.
وقد تبلور معيار التمييز بين الصفحة العامة المفتوحة للعموم والتي يمكن تتبع صاحبها، والصفحة الخاصة التي لا يمكن الاطلاع على محتواها إلا عن طريق “الاشتراك” والتي تبقى خارج دائرة التتبع، ليوافق التمشي المعتمد في فقه القضاء المقارن. يبقى أنّ فقه القضاء التونسي، ورغم تردّده في الأساس القانوني ولجوئه أحيانا إلى العقوبات السجنيّة في المجلة الجزائيّة، لم يشذّ بشكل كبير عن السياق العامّ الديمقراطي، خصوصًا في ظلّ وجود حراك اجتماعي ومد تضامني عالٍ ساهم في الحدّ من الكثير من محاولات التضييق. هذا الحراك والاستعداد المجتمعي للدفاع عن حرية التعبير في الفضاء الإلكتروني خصوصا، كلها عوامل ساهمت في تعطيل وإفشال محاولات إصدار تشريعات جديدة تضيّق منها. هذه الظروف تغيّرت تماما في السنتيْن الأخيرتين، مع إخضاع القضاء بشكل كامل للسلطة السياسيّة، وإصدار المرسوم 54 بإرادة رئاسيّة منفردة، وبأحكام أكثر قسوة من المجلّة الجزائيّة نفسها.
المرسوم عدد 54 أداة لكل ذي سلطة
بتاريخ 13 سبتمبر 2022، أصدرت السلطة القائمة المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وبهذا نجحت الأخيرة في تكريس مشروع نصّ جزائي عجزت عدة حكومات سابقة لـ 25 جويلية على تمريره. سرعان ما أثار هذا النص فزع الحقوقيين والسياسيين والصحفيين جميعا الذين اعتبروه محاولة للتضييق والحدّ من حريتهم في عملهم الصحفي أو نشاطهم السياسي. وفعلا، لم يطل الزمن حتى تحققت هواجسهم، وتداول عديدون من فئات عدة على تذوق كأس المرسوم المرّ.
إلاّ أنّ للمرسوم ضحية أخرى رئيسية، وهي عموم المستعملين العاديين لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائط الإلكترونية، ومن بينهم الطلبة. إذ مكّن السلطة من أساس قانوني صالح للتطبيق والتتبع الجزائي المباشر على الأفراد العاديين بقطع النظر عن طبيعة ما نشروه افتراضيا ومكانه. وعليه فإن التمييز القضائي القديم بين الصفحة العامة والخاصة، بهدف الحد من تطبيق أحكام مرسوم الصحافة، يصبح فاقدا للكثير من جدواه وفعاليته، ليشمل التجريم كامل الفضاء الإلكتروني، إضافة إلى الفضاء الإعلامي والفضاء العامّ.
وبعد حوالي شهر من تاريخ إصدار هذا المرسوم، تم تتبع أول طالب وفقا لأحكامه، مع إيقاف طالب الحقوق بهاء الدين حمادة على خلفية إنشائه صفحة فيسبوك لنقل وتوثيق بعض الاحتجاجات في أكتوبر 2022. واليوم، بعدما يقارب سنة من استعمال هذا النص، كانت حافلة بالإحالات ضدّ معارضين ومناضلين ومدوّنين، تمت معظمها عبر شكاية من ممثلي السلطة، أصبحت السخرية نفسها في قضية الطالب يحيى السهيلي محلا للتتبع وربما العقاب.
يبدو بذلك أنّ المرسوم 54 قد نجح في نشر فكرته وروحه،إذ لم يعد مقتصرا على أن يكون سلاحا بيد السلطة التنفيذية العليا وأجهزتها، وإنما أصبح وسيلة تهدد بها كل مؤسسة وكلّ صاحب سلطة، ولو كانت بسيطة،حرية منظوريه في التعبير. وكل ما سبق يشي بتطور وارتفاع في منسوب الضغط على الحقوق والحريات بشتى أصنافها وصولا لحرية الرأي والتعبير. بل إنّ هذا التقييد والذي شمل في البداية التعبير على المواقف السياسية المعارضة، انسحب في النهاية على أكثر أشكالها عفوية من السخرية “الفنية” وصولا إلى تلك التي يمارسها المواطنون العاديون. وهو ما يفترضه منطق القمع.
الجامعة: حين يفقد “الحرم” هيبته
يبقى أنّ تسرّب المنطق التسلّطي والقمعي، والتطبيع مع المرسوم 54، لكليّات العلوم القانونيّة، التي يفترض أن تكون من أكثر الفضاءات وعيا وتشبثا بحقوق الإنسان، يدقّ ناقوس الخطر أكثر فأكثر. فالفضاءات الجامعية، توصف عادة بعبارة “حرم”، التي تعكس سمة جوهرية ملازمة له، تكسيه مهابة وتعظيمًا وتحرّم انتهاكه أو استباحته. وفعلا فإنّ الفضاء الجامعي الحديث يفترض فيه الاستقلالية والحرية الأكاديمية وعدم القابلية للضغط أو التأثر والتقييد الخارجي بشتى أصنافه المادية أو المعنوية. وعليه تتمتع الجامعات بسلطات تأديبية في علاقة بكل ما يطرأ داخل الفضاء الجامعي أو يقوم به أحد المنتسبين لها سواء كانوا طلبة أو إطار تدريس، وذلك سعيا لحسم أكثر ما يمكن من خلافات داخل أسوار الجامعة.
وفي هذا السياق يتنزل الأمر عدد2716 لسنة 2008 المتعلق بتنظيم الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، الذي يوفر الإطار القانوني للعملية التأديبية. ويبقى الدور التأديبي خاضعا لرقابة القاضي الإداري، كضمانة أساسيّة للمعنيّين به. وقد سبق للمحكمة الإدارية أن نظرت في ملفات تعلقت بطلبة وحقهم في التعبير – ولو بشكل ضمني-، مثل ملف الطالب جاسر تكروني الذي وقع طرده من كلية الحقوق والعلوم السياسية سنة 2018، في حادثة ربطها البعض بفوزه في مسابقة مرافعات ضد الفساد، أثار خلالها شبهة فساد حول أحد الإداريين في الكلية. في جميع الحالات، المسار القضائي (وليس الجزائي) يتلو المسار التأديبي الذي تبادر به الكلّية، في حال شعر الطالب بالظلم.
لكنّ خصوصيّة قضيّة يحيى السهيلي، هي في خيار التتبع الجزائي، أي عدم دعوة الطالب للمثول أمام مجلس التأديب ولكن أمام الإدارة الفرعية لمكافحة الإجرام. وإن كان الأمر، ظاهريا، يتعلّق حصرا بإرادة الأستاذة المشتكية، فإنّ فرضيّة انخراط إدارة الكلية في دعم هذا التوجه تبقى واردة، خصوصا بالنظر إلى بيانها يوم 27 نوفمبر 2023 الذي عكس مساندة صريحة لخيار الطرف المشتكي. إذ اعتبرت أنّ الـ “ميم” محل الشكاية “شتم وانتهاك للكرامة وتهديد بأعمال انتقامية”، أمّا حرية التعبير، فلم يخصص لها الكثير بل واقترنت بعبارات الاحترام والكرامة، في صيغة تذكر بالصيغ السائدة في الفضاءات التسلطية. هذا فضلا عن شبهة تسريب عنوان الطالب للأستاذة وهو من معطياته الشخصيّة، حيث أنّ الشكاية تضمّنت العنوان الدقيق الذي لا يفترض أنّه متاح للأساتذة.
يبقى أنّ إقحام القضاء الجزائي في الحياة الجامعية لم يأت فقط من جهة الأساتذة. ففي حادثة معاكسة، وعوضا عن التوجه للقضاء الإداري، قام أحد الطلبة بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس برفع شكاية جزائية ضد عدد من أساتذة الكلية مدعيا فيها أنهم “حالوا دون حصوله على شهادة الماجستير”، عبر تعطيل مناقشة رسالة الماجستير. وفعلا قامت إحدى فرق الأبحاث التابعة للحرس الوطني بتوجيه استدعاء للأساتذة المعنيين للحضور يوم 11 أكتوبر 2023 لسماع أقوالهم. وقد أثارت هذه الحادثة بدورها سخطا داخل وسائل التواصل الاجتماعي، مما دفع الرئيس قيس سعيّد إلى التدخّل بنفسه ليأذن لوزيرة العدل بغلق الملف وإلغاء الاستدعاء، معتبرا أن “احترام استقلالية الجامعيين مسألة مبدئية” كما جاء في تدوينة نشرها عميد كلية الحقوق بتونس في حسابه الشخصي يوم 7 أكتوبر.
تدخل رئاسة الجمهورية بعنوان حماية “استقلالية الجامعيين”، يثير تساؤلات كثيرة حول استقلال القضاء، الذي يبدو وأنّه قبر تماما في السنتين الأخيرتيْن. ولكن بقطع النظر عن ذلك، فإنّ هذه الحادثة ونظيرتها، تمثلان تعبيرا عما يطرأ داخل الفضاء الجامعي من تراجع للحريات ولقدرة هذا الفضاء على توفير حيز للتواصل والحوار داخله. في وقت يفترض فيه من الجامعات أن تتحمل جزءا من مسؤولية التوعية ومواجهة التضييقات على الحقوق والحريات اليوم، خاصة عندما يتعلق الأمر بكليات الحقوق والعلوم القانونية.
تبدو حادثة الطالب يحيى السهيلي كمؤشر ومقدمة لما هو لاحق من تضييق في الحريات داخل الجامعة. وقد سبق للجامعة أن وجدت نفسها أمام تحديات عدّة خلال الفترات الماضية، ولكنها نجحت في التصدي لها ولو نسبيا وللدفاع عن استقلاليتها وحريات طلبتها وأساتذتها. وفي كلّ التجارب السابقة، مثّل الالتحام الصريح – أو الضمني- بين الأكاديميين والطلبة ضمانة لتحصين الجامعة والحريات. فضلا عن الضمانة التي لا تقلّ أهمّية، وهي تبني الخطاب الحقوقي داخل الفضاء الجامعي وخارجه والدفاع عنه، بما يمنحه ذلك من مصداقية وانسجام بين الممارسة وما يدرّس في المدارج. في حين أن التخلي اليوم على هذا الانسجام والالتحام في ظل وضع حقوقي متأزم، لن يتوقف أثره على مجرد تدوينات ساخرة على مواقع التواصل، والحبل الذي سُلّم للتضييق على هذه الحرية سرعان ما سيضيق على أوداج الجميع.