لقد أعادت الأزمة اللبنانية الراهنة إلى الواجهة تساؤلات مصيرية حول لبنان كنظام وككيان كانت رائجة أيام الحرب الأهلية 1975-1990 لكنها طويت – أقلّه في الحيّز العام – مع طيّ صفحة الحرب. وقد أدّى ذلك إلى شبه قطيعة معرفية مع الماضي بخاصّة عند جيل ما بعد الحرب، مما سلبه الحق والقدرة في فهم أعمق ونقدي للماضي. تطرح المفكرة القانونية – عبر سلسلة من المقالات – قضايا محورية في تكوين لبنان ونظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي خلال المئة عام الماضية من منظور فهم الماضي لاستشراف المستقبل. (المحرّر)
عندما أنشئ “لبنان الكبير“ لم تكن الجامعة اللبنانية قد وُلدت بعد. في ذلك العام (1920) كان هناك جامعتان خاصّتان، الأولى عمرها 55 عاماً (الجامعة الأميركية في بيروت) والثانية عمرها 45 عاماً (جامعة القديس يوسف أو اليسوعية). وكانت الأخيرة هي المؤهّلة لتؤدّي دور جامعة دولة الانتداب، لأنّها فرانكوفونية وتضمّ النخب المارونية، وبالتالي كانت الجامعة الأميركية مستبعدة.
وكان على الجامعة اللبنانية أن تنتظر دولة الاستقلال لكي تولد فتكون ابنة هذه الدولة وجامعتها.
المخاض
كان خليل الجرّ أوّل عميد في الجامعة اللبنانية في العام 1951 عندما كانت مؤلّفة من كلّية واحدة (كان اسمها دار المعلمين العليا وصار وقتها، أي عام 1959، معهد المعلمين العالي). والجرّ هو ابن التعليم اليسوعي ومن أوائل الحاصلين على الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا. لكنّ فؤاد أفرام البستاني أصرّ أنّه هو أوّل رئيس للجامعة اللبنانية،[١] عندما عُيّن محلّ الجرّ في العام 1953، مع أنّها ظلّت حتى العام 1959 مكوّنة من الكلية الوحيدة نفسها. كان البستاني أستاذاً في الجامعة اليسوعية منذ العام 1933، ودرّس فيها الآداب العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ.
لم يأت رئيس الجامعة اللبنانية وحده من الجامعة اليسوعية، ولا عدد من الأساتذة والعمداء، بل إنّ المطالبة الطلابية بإنشاء الجامعة اللبنانية انطلقت من الجامعة اليسوعية. فقد عقد “اتّحاد الطلاب العام” التابع للحزب الشيوعي اللبناني في الجامعة اليسوعية، اجتماعاً دعا فيه الجامعة إلى تحقيق مطالب الطلاب، التي تتلخّص في إعفائهم من الأقساط “بانتظار إنشاء الجامعة اللبنانية“. وفي 2 شباط 1951 انطلقت تظاهرة من أمام مبنى الطبية على طريق الشام. وقد اصطدمت التظاهرة بقوى الأمن وتعرّض الطالب فرج الله حنين إلى ضرب مبرح أدى إلى وفاته. وعليه كان “أوّل شهيد للحركة الطلابية في لبنان من أجل الجامعة اللبنانية“، من الجامعة اليسوعية أيضاً.
كانت صلة الجامعة اليسوعية بالجامعة اللبنانية تشبه صلة دولة الانتداب بدولة الاستقلال، كمرحلة انتقالية، قبل أن تحصل الجامعة اللبنانية على استقلالها. وقد ورثت اللبنانية من هذه الوضعية التاريخية “الجينات” الفرنسية في الإدارة والتعليم.
ظهور جامعة الدولة
يجب الانتظار حتى العام 1959 في حقبة الرئيس فؤاد شهاب لنتكلّم عن ظهور “الجامعة” اللبنانية بالمعنى القانوني للكلمة وبمعنى جامعة الدولة. في هذا التاريخ أنشأ المرسوم 2883 أربع كليات، إضافة إلى معهد المعلّمين العالي، وهي كليات الآداب والعلوم والحقوق ومعهد العلوم الاجتماعية. يلوم البعض فؤاد أفرام البستاني على تصريحه بأنّ الاقتصار على هذه الكليات يقصد منه أن تؤدّي الجامعة اللبنانية دور المكمّل للجامعتين اليسوعية والأميركية. كان البستاني على الأرجح يغطّي امتعاضه من القرار الذي اتّخذه فؤاد شهاب بعد استشارة خبراء من فرنسا ومن اليونسكو. لو أنشأ شهاب كليات “تطبيقية” لما كان في ذلك أي فكرة متعلّقة بالدولة. مع كلية الحقوق، انتقلنا من القانون الفرنسي إلى القانون اللبناني. ومع كليات الحقوق والآداب والعلوم بدأ تكوين النخب والأطر الإدارية والتعليمية المطلوبة لبناء الدولة. حتى أنّ معهد العلوم الاجتماعية لم ينشأ كمعهد تطبيقي كما نصح الأب لويس جوزيف لوبريه، الرئيس شهاب بل كمعهد يركز على المعرفة الاجتماعية تعليماً وبحثاً كما نصحه جاك بيرك.
لم يصدر المرسوم 2883 بسبب إضراب أحد. كانت هذه ربّما المرّة الوحيدة في تاريخ الجامعة اللبنانية التي يتّخذ فيها قرار بشأنها انطلاقاً من رؤية الحاكم وليس بسبب ضغوط الطلاب والأساتذة. وهي رؤية تتعلق بمستلزمات بناء الدولة. وبمجرّد إنشاء الكليات بدأ انضمام الطلاب إليها بأعداد كبيرة، بخاصّة من قبل من لم تكن لديهم أي فرصة للالتحاق بالجامعات الخاصّة التي كانت حكراً على طبقة أو طائفة معينة. أدت المخالطة داخل الجامعة إلى تزايد وعي الطلاب بهويّتهم الجديدة وبأنّ هناك فجوة بين المرسوم الذي صدر وتنفيذه، وأنّ هذه الفجوة تصنعها قوى إدارية وسياسية وأصحاب مصالح وعقليات وأنماط تفكير.
لذلك كانت الستينيّات سنوات احتجاجات مستمرّة، قادها الطلاب من جهة والأساتذة من جهة أخرى ولا سيما أساتذة كلية العلوم بقيادة حسن مشرفية. وقد أفضت الضغوط إلى نتائج مهمّة لجهة ترسيخ جامعة الدولة.
أول هذه الأمور صدور قانون الجامعة المعروف بالقانون 75/67. وقد كان القانون بمثابة سياج الجامعة [الذي يحميها من العبث والاستنساب]، فحدّد هيكليتها، وعلاقاتها الداخلية (كترشيح الرئيس وتعيينه) والخارجية (كالعلاقة مع الحكومة ووزارة التعليم والمجتمع عموماً).
كان قانون 67/75 القانون الفعلي لاستقلال الجامعة. ظهرت أولى ثمراته عندما رشّح مجلس الجامعة أحد عمدائها لمنصب الرئيس، في العام 1970. وكان هذا الرئيس (إدمون نعيم) مستعدّاً لمناكفة رئيس الجمهورية الذي أصدر مرسوم تعيينه (سليمان فرنجيه) كلّما شعر أنّ ما يريده هذا الأخير يُعدّ خرقاً للسياج.
وثاني هذه الأمور صدور قانون تفرّغ أفراد الهيئة التعليمية (1970)، الذي حصّن هؤلاء ضدّ التعسّف في استخدامهم ومنع عنهم العمل خارج الجامعة. وقد نصّ القانون على آلية الانتقال من التعاقد بالساعة إلى التعاقد بالتفرّغ. وعليه كان كلّ قسم يدرُسُ في كلّ سنة حاجته من الأساتذة المتفرّغين ويبتّ بالطلبات المقدّمة، وما على العميد إلّا الموافقة وما على رئيس الجامعة إلّا توقيع العقود. وهذا ما حصل معي بالضبط عندما تفرّغت في الجامعة اللبنانية في العام 1977. اجتمع مجلس القسم وقرّر. وانتهى الأمر هنا كما في أي جامعة طبيعية في العالم.
وثالث هذه الأمور كان إنشاء الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية (1971). وقيمة هذا الإنشاء مزدوجة. فهو أعطى الطلاب فرصة المشاركة في اتخاذ القرارات (في مجلس الجامعة ومجالس الكليات) إلى جانب ممثلي الأساتذة المنتخبين والعمداء والرئيس المعيّنين من قبل السلطة السياسية. ومن جهة ثانية أعطاهم منصة ديمقراطية للتعبير عن قضاياهم والتفاعل فيما بينهم على امتداد الجامعة ككل.
يجب الإقرار أنّ هذه الأمور الثلاثة لم تكن لتثمر جامعة تعمل كمؤسّسة أكاديمية مستقلة لولا الحد الأدنى من القيم العامّة المشتركة بين جميع الأطراف. وأظنّ أنّ وجود إدمون نعيم على رأس الجامعة شكّل ضمانة لثقافة القانون. هذا لا يعني أنّ الأمور كانت تسير في جو من الغرام والنوايا الطيبة، بل يعني أنّ النزاعات التي اتّسمت بحدّة شديدة بين التيارات السياسية آنذاك (اليمينية واليسارية) بقيت ضمن حدود السياج الذي صنعته المشاركة وثقافة القانون.
في تلك الفترة، الممتدّة من أوائل الستينيّات إلى منتصف السبعينيّات، أصبحت الجامعة هي مؤسّسة الدولة بالمعنى الثاني للكلمة أيضاً، أي ليس فقط باعتبارها بنت الدولة بل باعتبارها المصدر الأهم للدولة في تطوير أجهزتها من حيث الموارد ومن حيث النظم والخطط والمؤسّسات. أي أدّت الدور الذي كانت تؤدّيه اليسوعية في دولة الانتداب. ومع الوصول إلى منتصف السبعينيات كانت قد أصبحت قطباً رئيسياً في التعليم العالي في لبنان، وجاذباً للطلاب والأساتذة من القطاع الخاص، حتى بلغ عدد طلابها، بحسب إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء لفترة 1974-1975، 15,722 مقابل 4,995 في الجامعة الأميركية و4,150 في الجامعة اليسوعية.
إنشاء الفروع: حصان طروادة
لم يكن إنشاء فروع جغرافية للجامعة اللبنانية ليؤدّي بالضرورة إلى “خراب البصرة“. كان هذا هو الحلّ الواقعي للحفاظ على أرواح الأساتذة والطلاب العابرين لخطوط التماس بين البيروتَين الشرقية والغربية، منذ أن اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975. أصلاً كانت هناك مطالبات قبل الحرب بإنشاء فروع للجامعة في المحافظات الأخرى. العنصر الجديد الذي يعزى إلى الحرب فقط هو إنشاء فروع في بيروت نفسها. والجامعة فعلت ما فعلته جميع الوزارات والدوائر الحكومية، كلّ وزارة قائمة في منطقة من بيروت أنشأت مكاتب لها في المنطقة “الثانية” حفاظاً على سلامة موظفيها. وهذا ما حصل في الجامعات الخاصّة أيضاً ومنها الجامعة الأميركية في بيروت التي أنشأت فرعاً في جبيل.
وبناء على اقتراح بطرس ديب الرئيس الرابع للجامعة أصدر كميل شمعون وزير التربية قراراً بتفريع الجامعة لكنّ المرسوم التشريعي صدر لاحقاً بتوقيع الوزير أسعد رزق ورئيس الحكومة سليم الحص (1977). في التنظيم الجديد حافظت الكليات على وحدتها وأعطي مدراء الفروع صلاحيات إدارية ومالية وبقيت الصلاحيات الأكاديمية في يد عميد الكلية. اعترضت وقتها جبهة قوى الأحزاب الوطنية والإسلامية على التفريع، في مواجهة أحزاب الجبهة اللبنانية المسيحية التي دعمت إنشاء الفروع الثانية في بيروت الشرقية.
على الأرض، أي لجهة سير العمل الأكاديمي في الفرعين كان الأمر عادياً في البداية، لجهة التعليم وعمل الأقسام والمتابعة، بخاصّة أنّ الزملاء في الفرعين الأول والثاني كانوا حتى تلك اللحظة زملاء يعملون معاً. لكنّ ذلك لم يدم سوى بضع سنوات كانت كافية لكي تصبح الفروع جزءاً عضوياً من الانقسام والنزاع السياسي في البلاد بعد توفّر الشرط التالي: أن تتّسق مصلحة المدير في حيازة منطقة نفوذ شخصية مع مصلحة الجهة السياسية التي دعمت تعيينه، وأن يتعزّز ذلك مع ضخ أساتذة جدد في كل فرع، “غرباء” عن الفروع الأخرى. عملياً مع الوصول إلى العام 1990 ونهاية الحرب، كان أهل الفروع جميعاً متمسّكين بفروعهم، والأحزاب السياسية جميعاً، بما فيها الأحزاب الوطنية والإسلامية ولو أنّها لم تصدر تصريحاً بهذا المعنى. فقد لمست جميع الأحزاب ثمرات التفريع بل أصبحت الفروع جزءاً من عملها السياسي. لذلك لم يكن ممكناً إغلاق الفروع مع انتهاء الحرب، لا في اللبنانية ولا في عدد من الجامعات الخاصّة. فقط الجامعة الأميركية في بيروت أقفلت فرع جبيل رغم مقاومة ورفض بعض العاملين فيه.
بطرس حرب: أول الغيث من فوق
بعد انتهاء الحرب افتتح أهل الحكم الجديد تعاملهم مع الجامعة اللبنانية، باستيلاء بطرس حرب، وزير التربية آنذاك، على السلطة في الجامعة. وقد تمّ ذلك بما يشبه الخدعة، بحسب رواية ميشال عاصي[٢]. فقد قرأ العمداء ورئيس الجامعة بالتكليف في الصحف أنّ الوزير اكتشف فساداً في الجامعة. وبعد أيام (في 5 نيسان 1991) نزع الوزير عنهم الصلاحيات الإدارية والمالية ووضعها في عهدة رئيس المصلحة الإدارية المشتركة، وهو موظف فئة ثانية في الجامعة. ولمّا خلت له الساحة أخذ يبدّل في مواقع الموظفين طبقاً لولائهم السياسي، ثم أصدر قراره الشهير بتعيين مئات الموظفين فيها، في لائحة ظلّت لمدّة تسمّى في أرشيف الجامعة بـ “لائحة بطرس حرب“. صحيح أنّ حصّة الأسد فيها كانت لموالين له إلّا أنّها ضمّت مجموعات موزّعة على القوى السياسية التي كانت قد انتقلت من عالم الميليشيات إلى عالم الحكم. كانت تلك أوّل سلّة تعيينات سياسية في الجامعة، و“نجحت” التجربة.
سيطرة المكاتب التربوية للأحزاب
مرّت خمس سنوات كلّف فيها تباعاً ثلاثة عمداء (الأكبر سنّاً) برئاسة الجامعة عن طريق التكليف (ميشال عاصي، هاشم حيدر، محمد مجذوب). في العام 1993 عيّن أسعد دياب رئيساً أصيلاً، وعاد مجلس الجامعة في عهده إلى العمل. أعطى تعيين دياب الأحزاب السياسية المسيحية ذريعة، معلنة أو غير معلنة، للتمسّك بشعار “الفروع الثانية وُجدت لتبقى“. فهو من جهة شيعي، لأول مرة في تاريخ الجامعة، ومن جهة ثانية هو خيار سوري واضح. هكذا أصبحت الفروع الأولى والثانية في مدينة واحدة أمراً راسخاً. الأولى للمسلمين يديرها مدراء تختارهم أحزاب، والثانية للمسيحيين تختارهم أحزاب أخرى.
وفي عهد دياب صدر قرار مجلس الوزراء الشهير، بتوصية من الوزير ميشال إده وبموافقة دياب، والقاضي بنقل صلاحية التعاقد بالتفرّغ من الجامعة إلى مجلس الوزراء (قرار رقم 42 تاريخ 19/3/1997). ولعلّ هذا كان أخطر قرار اتّخذته الحكومة اللبنانية وكرّست عن طريقه تسييس إدارة شؤون الجامعة إلى غير رجعة. بنى إدّه اقتراحه على مطالعة قدّمها إلى مجلس الوزراء تقول إن هناك تلفيقاً واستحداثاً لصفوف وشُعَب وهمية لتسويغ العقود ونفخها. لم يتّخذ مجلس الوزراء قراراً بمساءلة الرئيس أو بطلب اعتماد آلية شفافة في هذا الموضوع، بل قرّر أن يقوم هو بالمهمّة التي كان تقوم بها الأقسام في الجامعة. ومنذ ذلك التاريخ أصبح تعيين الأساتذة في الجامعة على أساس “السلّة“ السياسية (توزيع الحصص بين أهل الحكم) أمراً رسمياً. وما زال القرار معمولاً به حتى اليوم.
طبقاً للآلية القائمة، تُرفع طلبات الترشح للتعاقد بالتفرّغ من القسم إلى مجلس الفرع ومنه إلى مجلس الكلية ومنه إلى مجلس الجامعة ومن هناك إلى مجلس الوزراء. وفي طريقها الصاعد يجري “تحميل” الأسماء تباعاً، وصولاً إلى مرحلة الغربال، ما بين رئيس الجامعة ووزير التربية والتعليم العالي. عملياً تكون المكاتب التربوية للأحزاب في تلك الطريق في حالة استنفار وجهوزية لكي تبلّغ الرئيس والوزير بمرشّحيها، بما يفضي إلى تثبيت أسماء واستبعاد غيرها. ولا تمرّ اللائحة أصلاً في مجلس الوزراء إذا كان أيّ من المكاتب التربوية للأحزاب الحاكمة غير راضٍ عنها، لذلك تستغرق الغربلة مداً وجزراً يتراوح بين أسابيع وسنوات.
ثلاث سلال سياسية فقط صدرت حتى الآن. أوّلها في العام 1999 وآخرها في العام 2015. ونحن في انتظار السلّة الرابعة المعلّقة بمشيئة شبه إلهية لا يعرف مصيرها إلّا المنجّمين. تعطي الإطالة المكاتب التربوية للأحزاب الفرصة الضرورية والكافية لتطويع ضحاياها وكسب ولاء الأساتذة بطريقة “مستدامة“، وإظهار هذا الولاء في سائر المناسبات: انتخاب رؤساء الأقسام وممثلي الأساتذة في الفرع والكلية ومجلس الجامعة، وترشيح المدراء والعمداء ورئيس الجامعة، وتحكيم الأبحاث وتوزيع المقرّرات، إلخ، هذا فضلاً عن تأييد مواقف أو رفض مواقف أخرى أو التزام الصمت.
أين رابطة الأساتذة المتفرغين من كلّ هذا ومن القرار 42 تحديداً؟ لم يرد إلى علمي أنّ الرابطة رفعت يوماً مطلب إلغاء هذا القرار، ولو أنّها كرّرت دوماً مطلب إعطاء الجامعة استقلاليتها. فقد حدث في الرابطة ما حدث في إدارة الجامعة في الفترة نفسها (التسعينيّات)، حين انتقلت الهيئة التنفيذية من “جيل قديم” (هيئة 1994-1996) إلى “جيل جديد” (ابتداءً من هيئة 1998-2000). ضمّ الجيل الجديد ممثلي الأحزاب المتحالفة مع سوريا (بمن فيهم تيار المستقبل)، أما الجيل القديم فكان يضمّ مستقلّين ويساريين أمثال عصام خليفة وصادر يونس وغيرهم. أي أنّ الرابطة أصبحت على صورة ومثال مجلس الجامعة الذي هو بدوره على صورة ومثال الحكومة، التي تتلقّى بياناتها عن الجامعة من المكاتب التربوية للأحزاب السياسية. ولم يغيّر دخول التيار الوطني الحر لاحقاً إلى الحياة السياسية في الجامعة من هذه الصورة، بعد أن أصبح طرفاً رئيسياً في الحكم، وله حصّته في جميع الهيئات والرابطة والسّلال.
وأين الطلاب؟ كان الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية قد انحلّ مع الحرب وإنشاء الفروع. حالياً، ثمة مجالس فروع للطلاب، جرى انتخابها مرّة، وبما أنّ النتائج معروفة سلفاً فقد تم الاستغناء عن خوض معركة انتخابية ويجري حالياً “توريث” المجلس آلياً لأفراد من الحزب نفسه كلّما تخرّج حزبي منه.
هكذا اكتملت عناصر نظام الحوكمة السياسية في الجامعة اللبنانية.
نظام الحوكمة السياسية
باختصار يتكوّن هذا النظام من ثلاثة عناصر:
- هيكل متكامل لاتخاذ القرارات، مركزُهُ الأحزاب السياسية المشارِكة في الحكم، وذراعُهُ المكاتب التربوية لهذه الأحزاب، ويتفرّع على المستوى الرسمي نحو الهياكل القانونية للجامعة (رئيس، مجلس جامعة، الخ) وعلى المستوى غير الرسمي نحو الرابطة والمجالس الطلابية. ويفضي توزيع الأدوار بين هذه العناصر إلى إعادة إنتاج النظام بصورة مستمرّة ولو تغيّر بعض اللاعبين وتغيّرت بعض الحصص بين جولة وأخرى من جولات التنازع بين الأحزاب السياسية.
- مناطق النفوذ. تعزّز الحوكمة السياسية، وكلّ حوكمة تقوم على المشيئة والاستنساب، ثقافة منطقة النفوذ لدى الأفراد الذين يكلّفون بمسؤوليات معنيّة في الجامعة (انتخاباً أو تعييناً). فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ هناك 68 فرعاً وشعبة في الجامعة اللبنانية اليوم، فهذا يعني أنّ هناك 68 منطقة نفوذ للأحزاب في الجامعة، ويعني أيضاً أنّ هناك 68 شخصا يتمتّع كلّ منهم بمساحة من النفوذ الشخصي، الذي لا يحاسب عليه لأنّه محمي سياسياً. وبالتالي يصبح المزيد من إنشاء الوحدات، سواء كان اسمها فرعاً أو شعبة أو معهداً للدكتوراه عملاً مرحّباً به سياسياً.
- الثقافة السياسية. لا بدّ لهذه الحوكمة من مجموعة أفكار وقيم ولغة، بديلة عن ثقافة المؤسسة والقانون. تظهر هذه الثقافة في “المنهج الموازي” في الفروع (ما ينظّم من أنشطة وما يعلّق على الجدران من صور وشعارات) وفي المنهج الذي يعلّم (مضامين المقررات في العلوم الإنسانية والاجتماعية)، وفي الحواشي الإيديولوجية لمحاضرات الأساتذة خلال عملية التعليم.
الأكاديميا والأكاديميون
من الصعب تقدير حجم الأضرار التي يلحقها هذا النظام بالأكاديميا، أي بنوعية التعليم في الجامعة، لأنّه يحتاج إلى النظر في كلّ اختصاص على حدة. لكن يمكن الافتراض أنّ هذه الأضرار أقوى في الاختصاصات الإنسانية والاجتماعية ممّا هي في الاختصاصات الطبيعية والبحتة. كما يمكن الافتراض أنّ المحسوبيات والحمايات تشكّل عاملاً طارداً للنوعية في التعليم والبحث على السواء. ويمكن رصد ذلك في مجريات العمل في معاهد الدكتوراه، وفي الأساليب الشائعة في تقييم الأبحاث وترقية الأساتذة، وفي تنظيم المؤتمرات، وغيرها الكثير.
يفتخر المرء بأطباء الجامعة اللبنانية وممرّضيها الذين برهنوا عن أداء رائع في أزمة كورونا. لكنّ الكليات العلمية التطبيقية هي أولاً محدودة الحجم لا تضمّ سوى 6% من طلاب الجامعة، وهي ثانياً لا تشكّل بذاتها جامعة، الجامعة هي كلّ لا يتجزّأ فكيف الحال إذا كنّا نتحدث عن الجامعة التي نريد أن نستعيدها كجامعة عامّة، جامعة دولة بالمعنى العصري للكلمة.
كذلك ثمة أساتذة مستقلّون في الجامعة، بعضهم تمكّن من الوصول إلى الهيئة التنفيذية أو إلى أيّ من مجالس الجامعة والكلية والفرع. بعضهم نشِط والكثير منهم صامت. وهم في الحالتين يواجهون نظاماً قوياً يحاصرهم. بل أنّ أصوات بعض المستقلّين تحمل خطاباً يصبّ في طاحونة النظام السياسي فيها: البعض يركّز على أشخاص في الجامعة (كرئيسها) وكأنّ الشخص هو المشكلة، والبعض الآخر يستعمل لغة الجيل الذي انقضى في رابطة الأساتذة المتفرغين، وكأنّ النظام السياسي لم يقمْ بعدُ فيها.
أساتذة الجامعة وطلّابها مدعوّون إلى بلورة سردية جديدة في مواجهة هذا النظام الذي تعيشه جامعتهم منذ عقود.
[1] لمزيد من التفاصيل عن هذه النقطة وغيرها من الأحداث الواردة في هذه المقالة يرجى مراجعة: عدنان الأمين، (2018). الجامعة اللبنانية تحت وطأة التحولات السياسية، في: سِيَر عشر جامعات حكومية عربية، بيروت، المركز العربي للأبحاث وإدارة السياسات، ص 147-205.
[2] في كتابه: من أيام الضوء والظلام: سيرة ذاتية، دار النهار، 1994