نشرح في هذا المقال بعض علل نظامنا التعليمي قصد فتح حوار جدي يهم مؤسستنا الجامعية في نظامها التعليمي، مدخلاته ومخرجاته. وسيكون جهدنا وصفيا. وهي مقدمة تبدو لنا ضرورية لتبين العلل قصد مواجهتها وإصلاحها. وإذا قصرنا نظرنا هنا على الجامعة، اكتشفنا أنها لم تعرف طوال تاريخها الذي يتجاوز الخمسين سنة وضعا أسوأ مما تعيشه اليوم. ففي تصنيف منظمة علمية اسبانية تعتني بمعايير الانفتاحية والتميز ضمنالتصنيف العالمي للجامعات"ويب ماتركس "في تقريرها لشهر جويلية 2014كانت مراتب الجامعات والمعاهد العليا التونسية والتي بلغت 195 بين جامعة ومعهد عال ومدرسة عليا- كانت قد أدرجت في هذا التصنيف – صادمة إذ جاء ترتيب أول جامعة تونسية وهي جامعة تونس الافتراضية في المرتبة 3783عالميا وفي المرتبة 75 افريقيا و68 عربيا لتأتي بعدها "جامعة تونس المنار"في المرتبة 6242.عالميا .لا شك أن هذه الأرقام المفزعة لها ما يفسرها في نظامنا الجامعي. فالمقبلون على الجامعة في تونس ذوو مستويات مدهشة في ضعفهانتيجة عوامل كثيرة، البعض منها يعود إلى ضعف التكوين في الحلقات الابتدائية والإعدادية والثانوية، والبعض الآخر يعود إلى التهميش الذي أصاب شهادة الباكالوريا جراء سياسة شعبوية أرست منطق الربع السنوي المحتسب في عملية النجاح والذي نعلم كلنا وأوّلنا وزارة التربية ما يدخله من عمليات البيع والشراء في سوق مفتوحة على الاستثمار الخاص من جهة وعلى دروس الدعم بما قد تعنيه من محاباة لهذا وذاك. وأمّا خريجوها فتدفعهم مقاعد الدراسة إلى الضياع والبطالة وإلى حظائر البناء للبحث عن الشغل استحال عليهم وجوده بما يلائم خبرتهم ودرجتهم العلمية.
نظام "إجازة ماجستير دكتوره":أرصدة بلا رصيد
ولقد تعقدت الأمور أكثر مع هذا النظام الجديد الذي فرض على الجامعة التونسية. وهو نظام اختصر الإجازة في ثلاث سنوات. لا شك انه لا خيار لنا في تبنيه خاصة وأنه النظام المعتمد في أوربا منذ بداية الألفية الثالثة والتي ترتبط بها تونس في علاقات اقتصادية وعلمية كثيرة إذ ان كثيرا من طلبتنا وخاصة المتفوقون منهم يلتحقون بجامعاتها. فتخلف تونس عن اعتماد هذا النظام سيؤول بلا شك، إلى عوائق وإشكالات في التحاق هؤلاء الطلبة بالجامعات الاجنبية ثم في منح المعادلات العلمية للطلبة الذين يدرسون في الخارج ويعودون إلى تونس فضلا عن ان الجهات الدولية المانحة أو المقرضة كثيرا ما طالبت بتبني تونس لهذا النظام. ونحن بخلاف ما يقوله كثير من الطلبة وحتى أساتذة الجامعة نعتقد أن المشكل هو في فهم الفلسفة التي انبنت عليها هذه المنظومة: فقلد قام النظام على هاجس أساسي هو حركية الطلبة داخل الفضاء الأوروبي وكيفية تلقي أفضل تكوين وفي أقل وقت ممكن، على أن يوفر وقتا للراحة والمطالعة.وفي هذا الإطار فإن اختصار رحلة الإجازة من 4 سنوات إلى 3 سنوات لا يعني التقليص في مدة التكوين. بل بالعكس فإن التكوين يمكن أن يتدعم استنادا إلى ما توفره التكنولوجيات الحديثة.غير أن جوهر هذه الفلسفة لم يفهم عندنا، لعدة أسباب أهمها أن منظومة "إمد" لم تحظ بالنقاشات الضرورية ولم يتم الاستعداد لها وتوفير مقومات نجاحها وخاصة تحقيق الأهداف المرجوة منها.
ولتبيان تفاصيل هذا النظام، فانه من الجدير بنا إن نذكر انه يقوم في هندسته البيداغوجية والتقييمية على عنصر أساسي وهو ما يصطلح عليه بالرصيد الذي يمثل الوحدة القياسية التي تسمح بقياس حجم العمل المستوجب لبلوغ الأهداف الخاصة بكل وحدة تعليمية أو بأحد العناصر المكونة لها. ويترتب عن الاكتساب النهائي للوحدات التعليمية الاكتسابالنهائي للأرصدة التي تناسبها. ولقد قام هذا النظام في غير بلادنا على اعتماد وسائل مضبوطة وصولا إلى أهداف مرسومة بدقة ومنها تنويع طرق التقييم وتثمين جهد الطالب سواء في مستوى فرق التكوين التطبيقي بواسطة المراقبة المستمرة وإجبارية الحضور وربط التكوين النظري بالتكوين التطبيقي بإقرار تربّصات مهنية مدروسة أو سواء من خلال إدخال جهد الطالب الشخصي وحتى عمله المنزلي في عملية التقييم مما يخلق تفاعلا مثمرا بين الجهد الشخصي وعطاء المؤسسة.
إلا أن هذا النظام أفسد في جامعتنا تماما لأنه اقتصر فيه على أعمال القسم الذي هجره عدد كبير من الطلبة اذ اصبح الأساتذة الجامعيون يدرسونالكراسي الشاغرة في كثير من الاختصاصات ضعيفة القدرة على إدماج الطالب في سوق الشغل وتحولت فيه المراقبة المستمرة إلى روتين إداري يتمثل عند اغلب الأساتذة في تمرين يجرى في آخر السداسي ويصلح في ظروف لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها. بل إن هذه "المراقبة" التي تُسمّى خطأ "مستمرّة" قد تحولت إلى نوع من العقوبة المصلتة على الطالب المواظب وذلك لأن عددها لا يحتسب في دورة التدارك إذا ما تغيب الطالب عن فرض المراقبة وأسند إليه صفر. وهكذا يؤدي هذا النظام من المراقبة المنقطعة وليس المستمرة إلى واقع شاذ قد يتفوق فيه الطالب المتغيب الكسول على الملتزم المواظب. ولم يقف الأمر عند هذا الحد لان الخلط بين نظام الوحدات القائم على الأرصدة ونظام المعدل السنوي المشفوع بإمكانية الإسعاف قد أتلف تماما نظام الأرصدة إذ أن اغلب الطلبة ينجحون دون الحصول أحيانا حتى على نصف الأرصدة المطلوبة. فيمنح الطالب بذلك شهادة في مادة لم يدرس فيها ساعة واحدة في بعض الحالات وفي أغلبها أكثر من أربع أو خمس حصص وبحجم عمل لا يتجاوز العشر ساعات طوال سداسي بأكمله. وكانت النتيجة المؤكدة لنظام الأرصدة هذا هو إضعاف معنويات الطالب وجعل الدورة الأولى من الامتحان دون نجاح مما يؤول إلى احتجاجات وإضرابات وحتى إلى المطالبة بإعادة الإصلاح آو تغيير مقاييس النجاح مثل الحط من معدل النجاح من 10 على عشرين إلى تسعة ونصف مثلما وقع ذلك السنة الماضية في كليتي الاداب والحقوق بالعاصمة وفي غيرها من الكليات وهي مطالب مخالفة تماما للقانون. فالمعمول به في تونس أو في غيرها من البلدان هو أن النجاح يكون بتحصل الطالب على نصف العدد الأقصى. وهكذا يجد الطالب القريب جدا من المعدل والمتحصل على تسعة من عشرين في رصيده عددا من الأرصدة لا تتجاوز العشرة أو الخمسة عشرة فيحين يطلب منه على الأقل ثلاثون لإسعافه و45 لنجاحه بالإمهال. فأي جهد ضائع وأي أوقات مهدورة وأي نفقات باهظة تصرفها العائلات الفقيرة من اجل إقامة أبنائها لئلا تتجاوز نسبة النجاح أحيانا 3 بالمائة في الدورة الأولى.
إن موقفنا من هذا النظام كان دوما من داخل المنظومة ذاتها أي أننا لم نرفض أبدا الانخراط في هذا الإصلاح الذي فرضته سيرورة العولمة. لكن ظللنا ننادي كأساتذة وكفاعلين نقابيين ومنذ كان الإصلاح في طور المشروع بضرورة استشارة المعنيين به من أساتذة وطلبة ومكونات مجتمع مدني ذات صلة بالإصلاح التربوي، وهو ما لم يتم. لذلك جاء الإصلاح منقوصا ومشوها ولم تتوافق نتائجه الأولى مع الأهداف التي رُسمت له.
وتمثلت أهم النواقص فيه في الآتية:
أ) نقص في إشراك مختلف الأطراف المعنية وخاصة منها الهياكل العلمية والمهنية (مجالس علمية ومجالس جامعات ونقابات) وفي ذلك إخلال بمبدأ وقاعدة التصرف الرشيد،
ب) عدم تهيئة الظروف المادية والبيداغوجية لانطلاق عملية الإصلاح،
ج) عدم دراسة متطلبات الشغل حتى يتاح رسم ملامح الإجازات ومحتوى برامجها،
د) نقص في التقدير الصحيح للعلاقات بين التكوين الأساسي والتكوين المهني أو التطبيقي.
وأدى كل ذلك إلى أن التكوين الذي تلقاه الخريجون الأوائل في إطار الإجازة لم يكن مستجيبا لمتطلبات سوق الشغل والاقتصاد الوطني لان تلك المتطلبات بقيت غير معلومة بدقة. وبقي العامل الأساسي المتحكم في توجيه الطلبة ليس المتطلبات الحقيقة لسوق الشغل في الاختصاصات التقنية الجديدة، بل كان هاجس الوزارة التقشف في المصاريف أي التركيز على الاختصاصات التي يكون فيها تكوين الطلبة أقل كلفة. وعوض الاهتمام بأسباب ضعف التشغيلية وقع الاكتفاء بتوجيه إصبع الاتهام إلى الاختصاصات الأدبية والإنسانية وتعويضها باختصاصات تطبيقية لا تطبيق فيها أحيانا ولا خبرة ولا مؤهل حقيقي.
وهكذا جاء الإصلاح مشوها وخاليا من كل مبادرة أو تجديد فعلي. بل أدى إلى ضعف المستوى التكويني في كل الاختصاصات تقريبا كما آل في كثير من الأحيان إلى مزيد إرهاق الأساتذة بسبب تعدد الوحدات وكثرة اختبارات المراقبة المستمرة وتمطيط السنة الجامعية كل ذلك بدون فائدة ترجى للطالب وبدون مقابل للأستاذ في جو من التشكك العام من الأساتذة والطلبة من جدوى إصلاح أكثرهم لا يفهمون تفاصيله بل يقعون ضحية له وكأنه قدر غامض مصلت عليهم.
جامعة مهنية بلا تكوين مهني
أشار صندوق النقد الدولي في تقريره السنوي لسنة 2014 حول الوضعية الاقتصادية في العالم أن تونس سجلت أعلى نسبة بطالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فمعدّلات البطالة التي كانت سببا رئيسيا للثورة، خصوصا بطالة أصحاب الشهائد العليا، بقيت مرتفعة. إذ وحسبالأرقام الصادرةعن البنك المركزي خلال الثلاثيّة الأولى من سنة 2015، بلغت نسبة البطالة في تونس 15.2%. أمّا بالنسبة لخرّيجي الجامعات فتتراوح النسبة بين 31% و57% خلال سنة 2014.
وقد تكون معدلات البطالة في الواقع أعلى من تلك التي تعلنها الجهات الرسمية في تونس. ولا شك أن للتكوين في الجامعة التونسية مسؤولية في ذلك. فطبيعة الدراسة فيها غير ملائمة لسوق الشغل كما يشاهد في بعض الاختصاصات الأدبية والإنسانية خاصة، وإن مست الأزمة في العقدين الأخيرين حتى الشعب العلمية. إن قضية البطالة لا يمكن طرحها إلا في إطار أوسع إذ لا بد أن نتساءل عن فرص الشغل التي يوفرها الاقتصاد الوطني ضعيف البنية وفي ظل استشراء ظاهرة التشغيل القائم على المحاباة والعلاقات الشخصية والإشباع الذي تعيشه الوظيفة العمومية. ولا يمكن لهذه القضية في كل الحالات أن تكون مدخلا لمهننة الجامعة التي باتت منذ سنوات التوجه الجديد لوزارة التعليم العالي وذلك لما للإجازات والمستارات المهنية التي فرضتها الوزارة بشكل عشوائي حتى على الكليات ذات التكوين الأساسي والتي لا صلة لها بعالم المهن من مخاطر على وظيفة الجامعة ورسالتها. لقد اختارت وزارة التعليم العالي منذ سنوات أن تفرض في أقسام هذه الكليات اختصاصات مركبة: تجارة الكترونية ومحاسبة واقتصاد، كل ذلك في مناخ غير ملائم وببرامج يصعب تحديدها وقد تصنع أحيانا بشكل مرتجل وعشوائي. وفي حين يشكو أصحاب "الشهائد الصافية" في القانون والتصرف والاقتصاد من البطالة، يدفع إلى السوق بمتخرجين من أصحاب شهادة "من كل شيء بطرف"، لا يتقنون شيئا ولا يفقهون مما درسوه غير مقدمات عامة ومداخل تاريخية يتفطنون سريعا أنها لن تنفعهم فيفقدون الثقة في ما يدرسون وفي من يدرسهم. لا يهم الوزارة كثيرا إذا كانت بعض الكليات والمعاهد غير مهيأة لتدريس هذه الإجازات التطبيقية إذ أن ما يعنيها من كل ذلك هو "الماكيت" لا أكثر ولا أقل.
معالجة البناء المقلوب
أن مهننة الجامعة بالشكل الذي وصفنا هو عملية مغلوطة ولا بد من تداركها . لقد صار متحتما مراجعة الخيارات التربوية والمجتمعية السائدة التي تدفع بأعداد كبيرة من الشباب نحو الجامعة دون مراعاة لمؤهلاتهم الحقيقية وميولاتهم ودون تلاؤم مع الحاجات الفعلية للاقتصاد والمجتمع. ويتطلب تفعيل هذا التوجه الحرص على إعادة الاعتبار لشهادة الباكالوريا والابتعاد عن تحشيد الجامعة. فلا يمكن بأية حال أن يكون شعار "الجامعة للجميع" مدخلا لإفساد المستوى فيها وتحويلها إلى أماكن لرفع الأمية أو لتغذية ثقافة التهاون واليأس من المستقبل وهو المناخ السائد في الجامعة التونسية الآن. فالغياب عن الدرس دون رقيب ولا حسيب يشهد تقدما لافتا. وتمثل معضلة الفرار من القسم كما قلنا واحدة من المعضلات الكبرى التي تعيشها الجامعة وتسكت عنها اغلب المؤسسات الجامعية ومنها حتى كليات الطب نفسها التي لوحظ غياب طلبتها في السنوات الأخيرة عن حلقات التربص داخل المستشفيات كما تسكت عنها الوزارة. فالجميع يخشون مواجهتها خوفا من ردة فعل الطلبة الذين يعمدون إلى إيقاف الدروس والى الإعتصامات والإضرابات إذا ما أريد تطبيق مبدأ الحرمان من الامتحان اثر عدد معين من الغيابات. وهو ما ينص عليه القانون الجاري به العمل في الدروس التطبيقية خاصة أن الرفع من مستوى حاملي شهادة الباكالوريا شرط ضروري لنجاحهم كطلبة ولتحسين أداء التكوين الجامعي وتجويد مخرجاته. أما غير المؤهلين بحكم عدم قدرتهم على التلاؤم مع متطلبات الدراسة الجامعية من مستوى نظري وعلمي مطلوبون لمتابعة الدروس النظرية والفنية في الجامعة، فانه تفتح أمامهم فرص أخرى أكثر تلاؤما مع مؤهلاتهم وذلك بإعادة بعث الشعب المهنية في التعليم الثانوي وإعادة الاعتبار للمهن لتمكين شريحة كبيرة من التلاميذ من تكوين ممهنن يمد المحيط الاقتصادي والاجتماعي بكفاءات مهنية. فمن المؤمل في مستوى التنفيذ أن يتزايد عدد الطلب عليها مع فتح الآفاق أمام المتميزين منهم لتمكينهم من مواصلة دراساتهم في التعليم العالي عامة والتعليم العالي المهني خاصة وهي الحقيقة التي انتهى إليها مشروع الإصلاح الأخير2025 -2015الصادر عن وزارة التعليم العالي في 23 افريل 2015. أما التكوين في الجامعة فلا بد أن تتوفر فيه الشروط الضرورية للتكوين ومنها خلق عدد من الاختصاصات يؤمنها العدد الكافي من المدرسين الأكفاء بناء على احتياجات سوق الشغل انطلاقا مما تمت معاينته من ضعف فادح في نسب التأطير في جملة من الاختصاصات كاللغات الأجنبية، والفنون والحرف والتصميم، والسمعي البصري وخاصة في الجامعات الداخلية التي تشكو من نقص في الإطار إذ أنها تكاد تشتغل بأساتذة تعليم ثانوي أو بأساتذة جامعيين في الدرجة السفلى من الرتب الجامعية وفي غياب تام للتجهيزات الكافية. فكثيرا ما تصبح هذه الجامعات أماكن لتربص الأساتذة لا الطلبة يحلون بها على أمل وحيد هو إتمام شهائدهم العلمية والالتحاق بإحدى جامعات العاصمة أو الجهات المحظوظة. وهو ما يؤدي الى نفور الطلبة من هذه الجامعات داخل البلاد في الجنوب والوسط البعيدين عن الساحل والفرار منها بحثا عن تكوين افضل مما يؤدي إلى إفساد الخريطة الجامعية وخلق أقطاب علمية وتكنولوجية مزيفة بلا إطار ولا تجهيزات وهو أمر يستحيل معه خلق مسالك الامتياز في مختلف المجالات في تلك الجامعات، اذ المطلوب هو العمل على تصميم برامج خاصة بمسالك تكوين تقوم على الامتياز في كل جامعة، وتوفير كافة المتطلبات التي تضمن جودة عالية في التكوين ووضع الآليات المناسبة لاختيار الطلبة وتوفير الإجراءات التحفيزية الضرورية لهم من سكن ومنح وتربصات داخل تلك الجهات بحسب التوجهات العامة لمشروع الإصلاح الهيكلي الذي تعد الوزارة لتنفيذه في العشرية القادمة.
ومن نافلة القول أن نؤكد أن الجامعة لا يمكن أن تكون معزولة عن محيطها وذلك يعني ربط التكوين المهني والتكنولوجي بمحيط التشغيل نفسه من خلال التربصات والتكوين العملي الذي يمكن أن يكون بالتداول بين الطلبة أنفسهم في المؤسسات المهنية وبالتناوب أيضا صلب التكوين ذاته انتقالا من النظري إلى التطبيقي ومن التطبيقي إلى النظري . ولا شك أن ذلك يمثلٕ الآلية الأبرز لتمكين الطالب من خوض تجربته المهنية الأولى وتكوين كفاءات جديدة تتلاءم مع احتياجات المحيط الاقتصادي والاجتماعي.
غير إن الإعداد للحياة المهنية ليست مهمة الجامعة ولا هي مسؤولية وزارة التعليم العالي فقط بل من الضروري التنسيق مع الوزارات المكلفة بالتربية والتكوين المهني أي بين الوزارة المكلفة بالتعليم العالي وغيرها من الوزارات المتدخلة في العملية التكوينية مع مأسسة هذا التعاون . تلك ضرورة تجمع عليها المجموعة الوطنية. وتتطلب إحداث هيئة وطنية قارة للتنسيق بين المتدخلين المعنيين وضمان ديمومة التعاون والتكامل بينها. وهو ما يؤسس لبلورة منظومة وطنية ناجعة للنهوض بالموارد البشرية للبلاد عامة، وهو ما أشار إليه مشروع الإصلاح المذكور والمخطط الاستراتيجي للعشرية القادمة.
غير أننا نعلم أن هذا البرنامج الطموح غير كاف إذا لم تدعمه إرادة سياسية تعطي الأولوية للسياسة التنموية وخاصة في الأماكن الفقيرة والمهمّشة تفعيلا للمبدأ الدستوري الذي ينص على ضرورة التمييز الايجابي لفائدة هذه الجهات المحرومة التي زادت تهميشا وفقرا بعد الثورة. ومن المعلوم أن تنزيل هذا المبدأ على الصعيد الواقعي لم يناقش بعد بل يظل رهين توجهات المخطط الخماسي وذلك بحسب الامكانات على حد تعبير وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي في الجلسة التي جمعته بأعضاء لجنة التخطيط والتمنية صلب مجلس النواب يوم الجمعة 30 اكتوبر 2015. ومهما يكن من أمر، فان هذه السياسة لا يكمن أن تكون ناجعة إلا بدعم الاستثمار العام والخاص. مع الاعتماد على جهد أبناء الجهة ذاتها من خريجي الجامعة أساسا لبعث المؤسسات الصغرى ومساعدتها على تجاوز العراقيل التي تواجهها .ومن الضروري في هذا الصدد القيام بجهد لمنح القروض لمن يستحقها خارج دائرة المحسوبية والولاء السياسي وإعادة النظر في التشريعات وتبسيط الحصول على هذه القروض لبعث المؤسسات.
لاشك أن عهد الاعتماد على جهد الدولة فقط قد ولى، عهد الدولة الراعية والحاضنة، دولة العناية الإلهية. أن المطلوب اليوم تضافر كل الجهود وخاصة مجهود القطاع التمويلي الخاص وذلك بتحسين البنية التحتية للمناطق المحرومة وتوفير الأمن والوقوف أمام كل مظاهر التسيب والاعتصام والإضرابات العشوائية. فالرأسمال الوطني يمكن أن يرحل إلى المناطق الداخلية خدمة للبلاد والعباد ولكن طبيعته الحذر. فلنوفر له إذن كل ظروف الاطمئنان حتى يتمكن من التغلب على كل مظاهر الخوف المتأصل فيه من اجل أن يكون جزءا من الحل ومدخلا للربح له ولكل من يطلبون العمل والكرامة والحياة اللائقة وخاصة من أصحاب الشهائد العليا الذين يظلون على الدوام قنبلة موقوتة تهدد أمن البلاد واستقرار كل الحكومات.