تعد المحكمة الإبتدائية بتونس العاصمة حجر الزاوية في النظام القضائي العدلي التونسي باعتبار حجم عملها أولا وأهمية عدد القضاة العاملين بها ثانيا. فهذه المحكمة تتعهّد بما يقارب خمس القضايا المدنية وعشر القضايا الجناحية وربع القضايا الجنائية التي تتعهد بها المحاكم الابتدائية بالجمهورية التونسية ويشتغل بها في مختلف فروع العمل القضائي عشر القضاة العدليين المباشرين تقريبا. وقد حوّل حجم العمل وهاجس الفصل ما يصطلح على تسميته في الأوساط القضائية التونسية إمتياز العمل بالعاصمة إلى معاناة يومية لقضاة المحكمة الابتدائية بتونس والتعامل مع هذه المحكمة لمعاناة للمتقاضين الذين يصطدمون في مرحلة أولى ببطء الفصل في قضاياهم ويواجهون في مرحلة ثانية صعوبة الحصول على الأحكام التي تصدر لهم بسبب ما تستغرقه من آجال رقن.
سمح انخراط وزارة العدل التونسية بداية سنة 2012 في مشروع شراكة مع الاتحاد الاوروبي لاصلاح القضاء التونسي و تطوير مؤسساته لخبراء هذا الاتحاد بالاطلاع على أمراض المحكمة الابتدائية بتونس. واقترحت الخبرة الغربية كعلاج أولي للمرض الظاهر فكرة بعث دائرة مدنية نموذجية تعتمد التراسل الالكتروني في تبادل التقارير بين المحامين والاعلامية في صياغة الاحكام تكون نموذجا للحل الذي سيعمم لاحقا. حظيت الفكرة بقبول رسمي أثمر تركيز دائرة مدنية نموذجية بالمحكمة الابتدائية بتونس.
بدت الدائرة النموذجية في اعلان بعثها مشروعا طموحا يعد بتطوير القضاء المدني وبتفعيل دور القاضي المقرر. كما دفع الانخراط في مسار الاستفادة من الخبراء الاجانب الى أن اتخذت رئاسة المحكمة الابتدائية بتونس منتصف السنة القضائية 2014-2015 قرارا باعتماد التخصص كقاعدة في توزيع القضايا بين الدوائر الابتدائية بالمحكمة الابتدائية بتونس في محاولة لنقل التجربة الخارجية سريعا إلى المحكمة.
لم يتم الانتظار طويلا ليتم التراجع بداية السنة القضائية 2015-2016 عن تجربة التخصص في الدوائر المدنية على خلفية نتيجتها المتمثلة في التقسيم غير المتوازن للقضايا بين الدوائر الحكمية ولفشلها. وكشفت بداية ذات السنة القضائية أن عدد القضايا المنشورة بالدائرة النموذجية التي يشتغل بها خمس قضاة تجاوز الألفين وخمسمائة قضية. لم يفلح التراسل الإلكتروني الموعود في إنتاج أثر في عمل الدائرة النموذجية التي ظلت تعاني مصاعب تكدس القضايا. وتمكن في المقابل قضاة تلك الدائرة وغيرهم من القضاة في المحكمة الذين يعتمدون حواسيبهم الشخصية في انشاء لوائح أحكامهم من خلق ظاهرة جديدة بالمحكمة الابتدائية بتونس لم يلتفت لها انتباه المشرفين على وزارة العدل ولم يكن لهم فضل في تحققها.
تطورت ظاهرة رقن القضاة لأحكامهم بفضل عامليْن: الأول، تطور نسبة امتلاك القضاة لحواسيب شخصية والثاني، تطور معرفة القضاة في النسخ الالكتروني. غير ان تكاليف استخراج الاحكام وعدم امتلاك أغلب القضاة بمنازلهم آلات طابعة أدى لتواصل تعويلهم على المحكمة في استخراج نسخ لوائح الأحكام.
لم يركز القائمون على المحكمة الابتدائية بتونس آلات طابعة بمكاتب الدوائر القضائية وذكروا أنهم طلبوا ذلك، لكن وزارة العدل لم توفر لهم ما يطلبون. نُصح القضاة الراقنون في البداية بالتوجه لقسم الرقن بالمحكمة لاستخراج أحكامهم، لكن تلك التجربة انتهت بالفشل سريعا بسبب الاتهامات المتبادلة بين الراقنين والقضاة بسوء التعامل.
حاولت رئاسة المحكمة الابتدائية بتونس منتصف السنة القضائية 2014-2015 احتواء تذمّر القضاة من جهة وتجنب ما يطرأ من اشكالات بينهم وبين كتبة المحكمة بمناسبة طبع الأحكام. ركزت حاسوبا وآلة ناسخة بمكتب ملحق بكتابة رئيس المحكمة ليكون على ذمة القضاة الذين يرقنون أحكامهم. تحولت سريعا الآلة الطابعة الى مزار يقصده القضاة قبل جلساتهم لاستخراج أحكامهم ويجبرهم على الوقوف في صف انتظار يطول ويقصر حسب الأيام.توقع القضاة الراقنون أن يكون ارساء الالة الطابعة المشتركة خطوة اولى نحو تطوير المنظومة الاعلامية الخاصة بهم لكن نهاية سنة 2015 فندت توقعاتهم.
بحلول آخر شهر من سنة 2015، أعلمت كتابة رئيس المحكمة القضاة الراغبين في استخراج الأحكام أن أوراق الطباعة نفذت من المحكمة. وتداولت أوساط قضائية أخبارا مفادها أن إعادة تزويد الطابعة بالأوراق لن يتحقق قبل انقضاء الثلاثية الأولى من سنة 2016. حاول القضاة أن يتأقلموا مع الواقع الجديد الذي يبدو انه يتكرر سنويا بالمحكمة الابتدائية بتونس بحكم كون كمية الاوراق التي تخصصها لها وزارة العدل تقل فعليا عن حاجتها. اشترى القضاة على نفقتهم كما هي عادة الامور الأوراق اللازمة للطباعة لكن هذا لم ينهِ الاشكال اذ تعطبت الالة الطابعة في الاثناء وتعذر اصلاحها.
منعت مصاعب الطباعة قضاة المحكمة الابتدائية بتونس من الاهتمام بوعود القائمين على مشروع الشراكة بين الاتحاد الاوربي ووزارة العدل التي أطلقت يوم 17-12-2015 وتعلقت بمحكمتهم التي ذكر انه سيتم انشاء مقر جديد لها. فقد علمتهم الالة الطابعة المعطبة أن المشاريع الكبرى لا تتحقق دائما وان تحققت فتكون مشوهة.
يبدو للوهلة الأاولى انشغال القضاة بطباعة الاحكام حدثا تفصيليا لكن التأمل في هذا الحدث يكشف أن رقن القضاة لاحكامهم أدى لتطور ايجابي في عمل المحاكم وأن هذا التطور كان نتيجة حركة داخل الجسم القضائي لا دخل للخبراء الأجانب في حدوثها، ولا لزيارات المسؤولين القضائيين للخارج في تطورها. ويكشف تعامل القائمين على القضاء التونسي مع هذا التطور النوعي بفتور مقابل انشغالهم بالتجارب التي تسوقها الخبرة الاجنبية رغم فشلها الظاهر عن كون حضور فكرة الوصفات الجاهزة في الاصلاح منع من اكتشاف أن الاصلاح ينبع بداية من الداخل.
مكن رقن القضاة لأحكامهم من اختزال الآجال التي كانت تستهلك في رقن الأحكام. وأدت ذات الظاهرة لمنع تخصيص عدد كبير من أعوان المحكمة لأعمال الرقن. وكان يفترض أن يحتفي القائمون على المحاكم بهذه الظاهرة وأن يعملوا على إبرازها أولا وتحفيز القضاة على الإنخراط بها ثانيا بما يخدم مصلحة المؤسسة القضائية. كان يمكن ان تكون الدوائر النموذجية نتيجة طبيعية لتعدد القضاة الراقنين فيتم استحداث دوائر جميع قضاتها يرقنون أحكامهم وتخصص لهم بمكتب الدائرة آلة طابعة يتم ربطها بكتابة المحكمة بما يسمح باختزال اجراءات التصريح بالاحكام. وكان يمكن أن يؤدي الاهتمام بتثمين مجهود القضاة في رقن احكامهم لتنافس القضاة والدوائر القضائية في اكتساب المعارف الرقمية اللازمة لرقن الاحكام بما يكون معه التوجه نحو النموذجي عبر النظر للذات لا للآخر.
يستخلص من استعراض مسار رقمنة العمل القضائي بالمحكمة الابتدائية بتونس أن غياب الثقة بالذات منع الاستفادة من القدرات الذاتية فيما لم يؤدّ في المقابل الانصياع للخبرة الاجنبية لانتاج أثر. وكان بذلك هذا المسار على بساطته انعكاسا وفيا لأفكار حكمت على تجاربنا التنموية بالفشل.