الثقة المالية: كيف يُعيد قانون الشيكات الجديد تشكيلها؟ نحو مقاربة سوسيولوجية


2025-03-07    |   

الثقة المالية: كيف يُعيد قانون الشيكات الجديد تشكيلها؟ نحو مقاربة سوسيولوجية
رسم عثمان سلمي

في روايته ” المقامر”، يُصوّر دوستويفسكي ببراعة أدبية كيف يصبح المال أكثَر من مجرد وسيلة تبادل، بل يَتجاوز ذلك ليتحوّل إلى رهان على المستقبل، أي إلى وعد مبني على الأمل والمخاطرة. بطل الرواية، ألسكي إيفانوفيتش، لا يرى في النقود مجرّد أداة لشراء السّلع والمنتجات، بل وسيلة للعبور إلى واقع آخر، حيث يُمكن للحظّ وحده أن يُغيّر المصير بين لحظة وأخرى. في أجواء الكازينو، مثلما صوّرها دوستويفسكي، تتلاَشى الفواصل بين الحاضر والمستقبل، إذ لا يغدو المال ملكا لصاحبه، بل يصبح كيانا مستقلًّا، مرتبطًا بآمال الآخرين، وبالثقة (أو الوهم) في أن الزمن قد يجلب ثروةً غير متوقّعة مما يعني أن المال في العالم الحديث ليس مجرّد مادّة بل هو بنية اجتماعية تُبنَى على الاحتمالات والانتظار والرهان.

 هذا التأويل الأدبي والتخييلي الذي صاغه دوستويفسكي يُمكن الانطلاق منه لفهم المال في الاقتصاد الحديث، حيث لا يعتمد التبادل المالي فقط على القيمة الفعلية للنقود، بل على الثقة المتبادلة بين الفاعلين الاقتصاديين. من هنا تحديدا تأتي أهميّة الشّيك، الذي يعتبر أداة مالية تختزل الحاضر والمستقبل في ذات الوقت. فهو في ظاهره ورقة ماليّة، لكنه في جوهره تعبير عن ثقة مؤجلة، عن وعد بالدفع في المستقبل. ومع ذلك، فإنّ هذه الثقة ليست دائمًا مضمونة ويقينيّة، تماما كما أن رهان المقامر في كازينو دوستويفسكي ليس دائما رابحا. هنا تحديدا يَظهر أن العلاقة بين المال والزمن ليست مجرد ثيمة أدبية، بل هي عنصر جوهري في فهم كيفية اشتغال النظم الاقتصادية الحديثة، حيث يتوقف المال غالبا على أن يكون مجرّد وسيلة ماديّة بل شكلًا اجتماعيا، يُعيد تعريف العلاقات الاجتماعية والثقة داخل المجتمع.

في كتابه “فلسفة المال”، يَدرس عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل المال ليس كمفهوم اقتصادي بحت، بل كظاهرة اجتماعية يتحوّل ضمنها الزمن والثقة إلى علاقات تجريديّة بين الأفراد. فالمال، وفقا لجورج زيمل، ليس مجرّد وسيلة للتبادل بل هو بنية رمزيّة تعيد تشكيل أنماط التفاعل الاجتماعي وتَخلق مسافة اجتماعية بين الأفراد، لكنه في الوقت ذاته يَجعل التّبادل ممكنًا. بخلاف أشكال التبادل البدائيّة القائمة على المقايضة، حيث تكون العلاقات مباشرةً وشخصيّة، يُتيح المال إمكانية التفاعل مع أشخاص مجهولين من دون الحاجة إلى الثقة الشخصية. وهنا تبرز فكرة التجريد: أي أن المال يفقد هويته المادية ليصبح وعدا بقيمة مستقبلية، أي “علاقة مع الزمن” بدلا من كونه مجرّد أداة آنية. الشيك كنموذج، هو تجسيد لهذا المبدأ: فهو ليس مالًا بحدّ ذاته، بل وعد بالدفع في المستقبل قائم على افتراض أن المُوقّع عليه لديه الرصيد الكافي أو سيكون لديه عند الاستحقاق، الأمر الذي يخلق إطارًا زمنيّا جديدًا يختلف عن التبادل النقدي المباشر. هذا الزمن ليس فقط مجرّد تأجيل بل هو إنتاج لعلاقة زمنية معقدة، حيث يكون المستقبل مرهونًا بالثقة في قدرة الطرف الآخر على الوفاء بالتزاماته. هنا تتجلى فكرة زيمل حول أن الثقة المالية هي شكل من أشكال الإيمان الاجتماعي، وهي ليست ثابتة بل تتغير بتغير الأطر القانونية والمؤسساتية.

إعادة هيكلة النظام المالي التونسي: هل الثقة ممكنة بلا زمن؟

  • الاقتصاد التونسي: من الإنتاج إلى الاستهلاك

قبل صدور القانون عدد 41 لسنة 2024، كان الشّيك، حتى وإن كان دون رصيد، يُعتبر وسيلة شائعة لتسيير المعاملات المالية في تونس إلا أن استخدامه الواسع دون رصيد أدّى إلى تراكم ديون غير مضمونة الخلاص وزادَ من المخاطر المالية. وفقا لبيانات وزارة العدل التونسية، تمّ إصدار حوالي 100 ألف حكم في قضايا الشيكات دون رصيد، منها 10 آلاف ضدّ أشخاص في حالة فرار، وهو ما كان يعكس في الحقيقة هشاشة النظام المالي الذي اعتمد بشكل كبير على أدوات مالية غير مضمونة. يعود هذا الأمر أساسًا إلى انخراط الاقتصاد المحلي في منظومة اقتصاد السوق الليبرالية منذ منتصف سبعينيات القرن الفائت، حيث شهدت البلاد تحوّلًا من اقتصاد يعتمد على الإنتاج ومحاولات أوليّة للتصنيع نحو اقتصاد موجّه نحو الاستهلاك والخدمات. هذا التحوّل لم يكن مجرد تطور طبيعي في الاقتصاد، بل كان نتيجة خيارات سياسية واستراتيجيات اقتصادية متأثرة بالسياق الدولي، لا سيما مع تصاعد المد النيوليبرالي وتوصيات المؤسسات المالية الدولية.

في ظل هذا التحول، تبنّت الدولة التونسية سياسات اقتصادية تُسهّل انفتاح السّوق، بما في ذلك تحرير التجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتطوير قطاع الخدمات، خاصة المالية والسياحية. لكن أحد أهمّ أوجه هذا التحوّل كان إعادة هيكلة النظام البنكي بحيث يصبح أكثر انخراطًا في عمليّة التوسّع الماليّ، وهو ما أدّى إلى زيادة الاعتماد على القروض والتمويلات البنكية والشيكات كأداة مركزية في الدورة الاقتصادية.

  • النظام البنكي: أداة لترسيخ التوسع المالي

ضمن هذا السياق، استفادت البنوك التونسيّة من هذا الانتقال، حيث عزّزَت من انتشار القروض الاستهلاكية وقروض الاستثمار الصغير، ما أدّى إلى تعزيز الطبقة المتوسطة الوهميّة التي اعتمدت بشكل أساسي على الاقتراض لتمويل استهلاكها. توسّعت القروض البنكيّة لتشمل كلّ مجالات الحياة اليوميّة، من تمويل شراء المنازل والسيارات والقروض الاستهلاكيّة إلى اقتناء الأجهزة الإلكترونية والأثاث، ممّا خلق وهمًا بالرفاه الاجتماعي من دون أن يكون له أسسٌ اقتصادية صلبة.

في هذا الصدد، لعب الشيك دورا محوريا في هذا النظام المالي الجديد، حيث تحوَّلَ من كونه أداة دفع عادية إلى أداة لتأجيل التسديد والرهان على تدفقات مالية مستقبلية غير مضمونة.  باتت المؤسسات البنكية تعتمد على الشيكات كضمان جزئيّ لمنح القروض و أحيانا كبديل عن التقييم الفعلي للقدرة الشرائية للحرفاء، وهو ما خلق ديناميّة دفَعت البنوك إلى التوسّع في منح التسهيلات المالية للأفراد والمؤسسات الصغيرة من دون تقييم حقيقي لمخاطر التخلّف عن السّداد، مما أدّى إلى تراكم الديون وظهور أزمة ثقة داخل النظام البنكي، حيث تبيّن أن هذا النموذج المالي لا يتّسم بالاستدامة. فمع تفاقم الأزمات الاقتصاديّة بدأت الفجوات في الظهور، حيث أدّت معدلات الفائدة إلى ارتفاع تكاليف الديون، بينما تراجع النمو الاقتصادي، ممّا جعل من الصعب على كثيرين سداد ديونهم. و هكذا ازدادت ظاهرة استخدام الشّيك دون رصيد التي لا تعكس فقط ضعف القدرة على السداد، بل أيضا أزمة الثقة في النظام المالي نفسه.

  • الشيكات كجزءٍ من الاقتصاد السياسي للسيطرة 

من هذا المنطلق، يُمكن فهم الشّيكات ليس فقط كأداةٍ ماليّة بل أيضا كأداة للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية. تُبيّن بياتريس هيبو في كتابها “قوة الخضوع” كيف أن الأنظمة الاقتصادية في سياقات نيوليبراليّة لا تَفرِض فقط السيطرة من خلال العنف المباشر، ولكن أيضا من خلال أدوات مالية وإدارية تجعل من الأفراد مقيّدين ضمن نظام اقتصادي لا يمكنهم الخروج منه. في تونس: كانَ الشيك وسيلة للزجّ بآلاف الأشخاص في دوامة الديون، ومن ثم في السجون، ممّا عزّزَ منطق الهيمنة البنكية على الأفراد والشركات الصغيرة. تُشير بياتريس هِيبو في هذا الصدد إلى أن الدولة التونسية، خلال حكم بن علي، اعتمدت على “بيروقراطية الدَّين” كأداة مركزية لإخضاع الأفراد والسيطرة عليهم. فالدَّين لم يكن مجرد مسألة اقتصادية، بل كان وسيلة لإدخال الأفراد في شبكة معقّدة من الالتزامات المالية التي تجعلهم غير قادرين على الخروج من النظام، وتدفعهم إلى الامتثال لقواعده تجنّبا لعواقبه القانونية والاقتصادية. في هذا السياق، لعب الشيك دورًا حاسمًا في تشكيل هذه الديناميّة من خلال إنتاج الخضوع عبر الالتزامات الماليّة، حيث يُستخدم النظام البنكي كوسيط لضبط السلوك الاقتصادي للمواطنين، إذ تمّ تشجيع الأفراد -بخاصة أفراد الطبقة الوسطى الناشئة- على اعتماد الشيكات كوسيلة للدفع والتمويل، ممّا جعلهم تدريجيّا رهائن للمنظومة المالية. تمّ كذلك عبر النظام البنكي تحويل المخاطر الاقتصادية إلى أدوات لضبط المجتمع. ففي ظل توسّع الاقتصاد النيوليبرالي الذي بدأ منذ نهاية الثمانينيات لم تعُدْ الدولة تلعب دور الضامن المباشر للاستقرار المالي، بل تمّ نقل هذا الدور إلى الأفراد عبر إلزامهم بالاعتماد على أدوات مالية مثل الشيكات.

كان من نتائج هذه السياسة تعميق الفوارق الطبقيّة عبر العقوبات الماليّة، ففي حالة الشيكات نجد أن الفئات الغنيّة والشركات الكبرى تتمتع بمرونةٍ ماليّة تُتِيح لها إعادة هيكلة ديونها و التفاوض مع البنوك، في حين يُترَك صغار التجار و أصحاب المؤسسات الصغرى من دون أية حماية، مما يؤدي إلى إنتاج هيمنة الطبقات العليا المتنفذة على المجال الاقتصادي. وقد تجسّد هذا الأمر بشكل جليّ مع أزمة فيروس كورونا، حيث شهدت البلاد موجَات إغلاق متكرّرة أثرت بشدّة في قطاعات واسعة، لاسيّما المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تعتمد على التمويل اليومي لتغطية نفقاتها. لكن في الوقت الذي تمكّنت فيه بعض الفئات من الصمود عبر استغلال الفرص المتاحة أو بفضل علاقاتها البنكية والسياسية وَجدَت فئات أخرى نفسها عاجزة عن التأقلم، ممّا أدى إلى انزلاقها نحو الهشاشة الاقتصادية و الاجتماعية، ورغم اعتماد الدولة على آليات محدودة لدعم المؤسسات المتضررة إلا أن توزيع تلك المساعدات تمّ بطريقة غير متكافئة، حَيث حَصلَت الشركات الكبرى والمجموعات الاقتصادية المرتبطة بالمنظومة البنكية على دعم مباشر أو تسهيلات في جدولة ديونها. في المقابل، تُرِكَ أصحاب المؤسسات الصغرى و المهن الحرة لمواجهة التزاماتهم المالية من دون أية حماية، وهو ما جَعل معدّلات إصدار الشيكات دون رصيد ترتفع بين سنتي 2020 و2021 بسبب توقف الدورة الاقتصادية، حيث اضطر الكثير من التجار وأصحاب المطاعم والمقاهي وغيرهم من الحرفيّين إلى إصدار شيكات لتغطية التزاماتهم، من دون أن يتمكنوا لاحقا من توفير السيولة اللازمة.

ورغم أن الإغلاق كان حينها قرارا حكوميا لم تتدخّل الدولة بشكل فعّال لحماية هؤلاء من الملاحقة القانونية، مما أدى إلى مئات القضايا والملاحقات التي مسّت أساسا الفئات المتوسطة والصغرى، بينما بقيت الشركات الكبرى محميّة عبر شبكات نفوذها داخل القطاع البنكي، حيث استفادت من إعادة جدوَلَة نفوذها عبر خطوط تمويل استثنائيّة. هنا تحديدًا تغدو القوانين الماليّة، بخاصة في سياق الاقتصاديات الليبرالية، أدواتٍ تنظيميّة يتمّ اعتمادها لإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية وترسيخ هرميّة اقتصاديّة تَجعَل الفئات المتوسطة والصغرى في وضعيّة تبعيّة دائمة، وهو ما يُساعد على رسم خارطة النفوذ داخل القطاع المالي، حيث يجد الفاعلون الاقتصاديون الصغار أنفسهم مجبرين على قبول الشروط المجحفة للبنوك أو الشركات الكبرى لضمان بقائهم في السوق، حتى وإن كان ذلك على حساب استقلاليتهم المالية.   

القانون الجديد: إعادة هندسة الثقة والنفوذ المالي

  • سوسيولوجيا الثقة المفقودة

بالعودة إلى جورج زِيمل، عالم الاجتماع الألماني الفذّ، المال ليس مجرد وسيلة تبادل هو “نظام من الثقة المُعمّمَة” يَسمح للمجتمعات الحديثة بالعمل من دون الحاجة إلى علاقات شخصية مباشرة. في السياقات الاقتصادية التقليدية يكون التبادل المالي محكوما بعلاقات اجتماعية قوية. لكن مع تطور المجتمعات الحديثة وسيطرة الاقتصاديات الرأسمالية أصبحت هذه العلاقات تُبنى على الثقة في المؤسسات أكثر من الثقة في الأفراد. في هذا السياق، كان الشيك قبل صدور القانون الجديد يُهَندِس التبادلات الماليّة ويُشكّل علاقات الثقة على نحو مزدوج. فهو من ناحية وسيلة دفع مؤجّلة تسمح للفاعلين الاقتصادييّن بالتصرّف في سيولة غير متوفّرة آنيا ممّا يعزّز حركة الاستثمار والاستهلاك، ومن ناحية أخرى شكّل أداة ثقة قانونية حيث كان التهديد بالسجن يُشكل ضمانا ضمنيا لإجبار صاحب الشيك على الدفع، مما يخلق نوعًا من “الثقة والإكراه”. لكن مع التحوير النّسبي للعقوبات السجنية وإلغاء اعتماد الشيك كضمان، ننتقل من ثقة قائمة على الرّدع القانوني إلى ثقة محكومة بالتصنيف المالي والمصرفي، وهو ما يُحيلنا إلى سؤال رئيسي في علم الاجتماع السياسي يتعلق بكيفية بناء الثقة داخل المجتمعات. بالنسبة لبيير بورديو، فإن الدولة هي التي تؤسس “رأس المال الرمزي” الذي يَجعَل النظام الاقتصادي يعمل من خلال فرض قواعد معينة. كان الشيك يُستخدَم كجزء من هذا النظام، حيث كانت الدولة تُوفر ضمانة غير مباشرة للمعاملات الاقتصادية عبر منظومة العقوبات. بالانتقال إلى تطبيق القانون الجديد لم تعد الثقة تُبنَى على الخوف من العقوبة السجنية بل عبر آليات التقييم البنكي والتصنيف الائتماني، وهو ما يُمكن أن يعزز سلطة المؤسسات المالية على حساب الفاعلين الاقتصاديين الصغار ويَمنح موقعا جديدا للبنوك تتحوّل فيه من وسيط إلى مركز للسلطة، حيث تُصبح هي من يحدد من يستحق التمويل ومن لا يستحقه، وهذا ما يسهم في إعادة تشكيل موازين القوى الاقتصادية ويعزّز مفهوم الاحتكار المالي للثقة.

فمع إعادة هيكلة العقوبة السجنية وتجريم اعتماد الشيك كضمان تُصبح البنوك هي الجهة التي تَمنح أو تَحجب الثقة المالية وفقا لمعايير قد تكون غير شفافة أو متحيّزة، ذلك أن النظام البنكي في تونس كثيرا ما يُفضّل تمويل المؤسسات الكبرى على حساب المؤسسات الصغرى، الأمر الذي قد يَزيد من تركّز الثروة في يد نخب اقتصادية بعينها ويُضعف الاندماج الماليّ بشكل عادل، وهو أمر تواجِه تبعاته بدرجة أكبر الطبقة المتوسّطة. وبتراجع إمكانيّة الولوج إلى التمويل الاستهلاكيّ، قد تجد هذه الطبقة نفسها أمام خيارين: إمّا الدخول في دوامة القروض البنكيّة بشروط أكثر صرامة أو تقليل استهلاكها، ممّا قد يكون له تأثيرٌ على أنماط الحياة الاجتماعية والاستهلاكية. وهكذا فإن إعادة هندسة النفوذ المالي عبر هذا القانون الجديد ليس مجرد مسألة تنظيمية، بل هو تحول سوسيولوجيّ في مفهوم الثقة، حيث تنتقل من كونها ضمانة قانونية إلى أداة تحكّم مالي، الأمر الذي قد يُعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.

لكن رغم الانتقادات التي يثيرها القانون الجديد إلا أنه يحمل بعض الإيجابيات، التي يمكن تحليلها من منظور علم الاجتماع الاقتصادي والسياسي، خاصة من زاوية تأثيره على العلاقات المالية وأنماط الثقة وإعادة تشكيل منطق المعاملات الاقتصادية في المجتمع التونسي.

  • من ” ثقة بالإكراه” إلى ثقة تعاقدية

في النموذج القديم كانت الثقة تستند إلى آلية ردعية قانونية تتمثل في التهديد بالسجن، وهو ما يخلق نوعا من الثقة المفروضة التي لا تعكس دائما قدرة الأطراف الاقتصادية على الوفاء بالتزاماتها الفعلية. أما القانون الجديد، فهو يحاول نقل الثقة من المجال الجزائي إلى المجال الاقتصادي عبر أدوات بديلة مثل الغرامات المالية وإجراءات التصنيف البنكي.

من منظور جورج زيمل، مثلما أشرنا سابقا، فإن المال الحديث يقوم على الثقة المعمّمة التي لا تعتمد على العلاقات الشخصية المباشرة، بل على مؤسسات مالية ونظام قانوني يوفر الضمانات. في هذا السياق يمكن اعتبار القانون الجديد للشيكات محاولة إلى تأسيس ثقة قائمة على المعاملات المالية الشفافة بدلا من الثقة المستندة على الخوف من العقوبة السجنية.

  • حماية نسبية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة من الإفلاس القسري

في نظام الشيك القديم، كان أصحاب المؤسسات الصغرى مهددين بالسجن بسبب تعثرات مالية قد تكون ناجمة عن تأخر في الدفع أو ظروف اقتصادية خارجة عن إرادتهم، مما يؤدي إلى زجهم خارج الدورة الاقتصادية. أما القانون الجديد فهو يقلّل من الوصمة الاجتماعية المرتبطة بإصدار الشيكات دون رصيد، ويمنح فرصة لإعادة التفاوض حول الديون بدلًا من تصفية المؤسسات الصغيرة بسبب صعوبات مالية مؤقتة.

من الناحية الأنثروبولوجية يتوافق هذا الأمر مع تحليلات مارسَال موس حول التبادل الاقتصادي كعلاقة اجتماعية، حيث يشير إلى أن المعاملات الاقتصادية ليست مجرد عمليات حسابية، بل تتطلب أشكالا من المرونة والتكيف مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأفراد. من منظور بورديو يمكن القول أن القانون الجديد يساهم في إعادة توزيع رأس المال الاقتصادي عبر منح المؤسسات الصغرى فرصة للبقاء في السوق بدلا من أن تكون عرضة للإقصاء السريع بسبب ديون مؤقتة.

على سبيل الخاتمة

في النهاية يمكن اعتبار قانون الشيكات الجديد جزءا من تحول أعمق في العلاقة بين الدولة والمؤسسات المالية والمجتمع. فهو ينقل مركز الثقة من القضاء الجزائي إلى المؤسسات المالية، مما يعيد ترتيب النفوذ داخل الحقل الاقتصادي. لكن هذا القانون لا يأتي في فراغ، بل يأتي ضمن تحولات اقتصادية أوسع مرتبطة بطلبات المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، فمنذ عقود، وتحديدا منذ اعتماد الخيار الليبرالي في أواسط السبعينيات أصبحت الإصلاحات المالية جزءا من إملاءات التكيف الهيكلي التي تسعى إلى تحويل الاقتصاد التونسي إلى نموذج أكثر انسجاما مع المعايير العالمية لرأس المال.

في هذا السياق يمكن فهم قانون الشيكات الجديد على أنه إعادة ضبط قواعد اللعبة المالية وفق منطق ليبرالي أكثر انضباطا، حيث تتحول المسؤولية من الدولة التي تضطلع بدور الضامن الجزائي، إلى الأفراد والمؤسسات التي عليها إدارة مخاطرها الماليّة ضمن منظومة مصرفية أكثر تحكّما. وهذا ما يتطابق مع ما ذهبت إليه بياتريس في كتابها “قوة الخضوع” حول كيفية استخدام الإصلاحات المالية كأداة لإعادة تشكيل شبكات النفوذ الاقتصادي والسيطرة الاجتماعية.

لكن يبقى السؤال الأساسي: هل سيؤدي هذا التحول إلى تقوية الطبقة المتوسطة ودعم المؤسسات الصغرى أم أنه سيُعزز سلطة البنوك ويُعيد إنتاج الفجوات الطبقية بطرق جديدة؟

هذا ما سيعتمد على كيفية تطبيق القانون ومدى توفير الدولة آليات حقيقة لحماية الفئات الهشة من الإقصاء المالي، في ظلّ اقتصاد بات أكثر خضوعا لشروط الماليين الدوليين.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مصارف ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني