التونسيون المقيمون في الخارج: عصا الجباية وجزرة الامتيازات 


2025-05-23    |   

التونسيون المقيمون في الخارج: عصا الجباية وجزرة الامتيازات 

تستعدّ تونس لانطلاق موسم “العودة الصيفية” الذي يَشهد سنويًا وفود مئات آلاف التونسيين المقيمين في الخارج لقضاء العطلة في بلدهم الأصلي. وككل سنة تُسهِب السلطات في الحديث عن الاستعدادات الحثيثة لتسهيل العودة وضمان أحسن ظروف الإقامة، ولا تنسى الإعلان عن “حزمة إجراءات وامتيازات جديدة” لصالح هذه الفئة من التونسيين. لكن هذه السنة يبدو طعم العودة مختلف قليلا، إذ يشوبه غضب وحَيرة وخوف لدى عدد من المهاجرين الذين تواترت شكاواهم في الأسابيع الأخيرة، والسبب -حسب شهاداتهم- تحريك وزارة المالية عصاها الجبائية الغليظة. 

يجد عدد من التونسيين المقيمين في الخارج أنفسهم مطالبين بدفع مبالغ كبيرة للقباضات المالية في شكل ضرائب وغرامات تأخير، وحتى الوقوف أمام القضاء بسبب عقارات يمتلكونها في تونس أو مداخيلهم في دول الإقامة وتقديم وثائق وإثباتات حول مصادر أموال بعضها تم تحويله منذ سنوات طويلة. 

ما يقوله القانون.. والواقع

بالعودة إلى النصوص القانونية المتعلّقة بالمسائل الجبائية ومداخلات عدة خبراء في المحاسبة والجباية في وسائل الإعلام خلال الأيام الفائتة نلاحظ أن كل هذه الإجراءات التي اشتكى منها تونسيون مقيمون في الخارج قانونيا منصوص عليها في التشريعات المحلية منذ سنوات. مثلًا الفصل 36 من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين يَعتبر “المداخيل ذات الأصل الأجنبي التي لم تخضع لدفع الضريبة في بلد المنشأ” من بين المداخيل التي تستوجب دفع الضريبة في تونس. وينصّ الفصل 43 من نفس المجلة على تطبيق “التقييم التقديري حسب النفقات الشخصية الظاهرة والجلية أو حسب نموّ الثروة على كل مطالب بالضريبة ما لم يقم بإثبات مصادر تمويل نفقاته أو نموّ ثروته”. لذلك فإن التونسي المقيم في الخارج عندما يصرّح طيلة سنوات لدى مصالح الجباية في تونس بأنه ليست لديه مداخيل ثم يتّضح للإدارة أنه اقتنى عقار أو أكثر خلال نفس المدة فسيتم تكييف الوضعية على أساس أنها نمو للثروة من دون مصدر معلوم. ويُلزم القانون التونسي الأشخاص المعفيين من الضريبة بتقديم التصريح السنوي، والا فإنهم معرّضون لغرامات مالية وعقوبات أخرى.

بعض المهاجرين المعنيين بهذه الإجراءات والعقوبات يُقيمون في دول لا تربطها بتونس اتفاقيات تجنب الازدواج الضريبي، مما يعني أنهم مطالبون بدفع ضرائب في بلد الإقامة، والتصريح لدى السلطات التونسية على مداخيلهم في الخارج ودفع ضرائب أخرى في تونس. والبعض الآخر يُقيم في واحدة من الدول الـ58 -أغلبها أوروبية حيث يتركز الجزء الأكبر من الجاليات التونسية في الخااج- التي وَقَّعَت مع تونس اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي، لكن السلطات التونسية تطالبهم بإثبات دفعهم للضرائب في دول الإقامة، وكذلك تقديم وثائق تظهر كيفية إدخالهم الأموال التي مكّنتهم من اشتراء عقارات سكنية في تونس سواء عبر الاستظهار بإثباتات للتحويلات المالية التي قاموا بها من دول الإقامة نحو تونس أو التصريحات الديوانية على العملة الصعبة عند عبورهم المعابر الحدودية. وحتى في حالة التمتع بإعفاء ضريبي على الدخل المحقق خارج تونس فإن اتفاقيات تجنب الازدواج الضريبي لا تشمل الأرباح المتأتية من تأجير العقارات في تونس أو بيعها. 

في حالات أخرى عَبّرَ مهاجرون عن مخاوفهم من إخضاع التحويلات المالية التي يرسلونها إلى تونس كدعم عائلي إلى الاقتطاع بعنوان الضريبة على الدخل، ممّا يُنقص نسبة مهمة من المبالغ المحولة ويَحرم منها عائلات المهاجرين. وهنا مرة أخرى لا يستثني القانون أي فئة من واجب التصريح الضريبي حتى وإن لم تكن لديها مداخيل أو تتمتع بإعفاء جزئي أو كلي. 

ما يلاحظ بوضوح أن القاسم المشترك بين كل الشكاوى والحالات المذكورة هو استهداف الإدارة الجبائية لفئة معينة: المقيمون بالخارج الذين اقتنوا عقارا سكنيا -أو أكثر- في تونس. وحسب ما جاء في شهادات بعض المهاجرين فإنه قد طُلِبَ منهم إثبات مصادر تمويل شراء عقارات اقتُنيَ بعضها منذ عشر سنوات وأكثر، فكيف يمكنهم ذلك والحال أن أغلبهم لم يقم بتحويل المبلغ مرة واحدة، بل على مراحل وسنوات، وبعضهم اختار مسالك موازية للبنوك والبريد ونقل أمواله من الخارج بالاعتماد على وسطاء التهريب والسوق السوداء وأقارب وأصدقاء يسلمونهم عملات صعبة في الخارج ويستلمون مقابلها دنانير تونسية. ويتساءل كثير منهم عن جدوى تدقيق الدولة التونسية في مصدر الأموال وحرصها على دفع مواطنيها المهاجرين لضرائبهم في بلدان الإقامة. وما يزيد في حنقهم أنه في كثير من الأحيان يتم توجيه إشعارات وتنبيهات وزارة المالية إلى عناوين غير محينة في تونس، وهذا يحرم عددا من المهاجرين من إمكانية الاعتراض في الآجال القانونية وتسوية وضعيتهم بأخف الأضرار. وتحدَّث كثيرون عن عدم بذل الدولة مجهود اتصالي يوضح للتونسيين المقيمين بالخارج، بمختلف شرائحهم، الإجراءات والقوانين والحقوق والامتيازات والواجبات التي تمسّهم مباشرة. 

إذاً ليست هناك قوانين أو إجراءات “جديدة”، بل تفعيل نصوص قانونية موجودة فعلا، وكأن الإدارة تتغاضى عنها أو تتهاون بشأن الخروقات بقرار أو “عرف” سياسي براغماتي حتى لا تغضب التونسيين المقيمين بالخارج وتضمن استمرارية تحويلاتهم واستثماراتهم في تونس.

لماذا الآن؟

 لكن ما الذي تغير في الأسابيع أو الأشهر الفائتة؟ يتحدث البعض عن ضغوط خارجية لدفع تونس لمراقبة التدفقات المالية بشكل أوسع ومكافحة شبكات تهريب الأموال وتبييضها العابرة للحدود وأشكال أخرى من الجريمة المنظمة، بخاصة وأن البلاد قد عانت سابقا من تَبِعَات وضعها من قبل مجموعة العمل المالي (غافي GAFI) على قائمة سوداء ثم رمادية للملاذات الضريبية ما بين سنتي 2017 و2019. لكن من غير المرجّح أن يكون هذا هو الدافع الحقيقي أو الوحيد، إذ يبدو أن محفزات “الحملة” القائمة حاليا داخلية بالأساس. على الرغم من إصرار الخطاب الرسمي على   تعافي الاقتصاد التونسي وتحسن الأوضاع الاجتماعية، فإن مظاهر التأزم ظاهرة للعيان، ومن أبرزها حجم المديونية العمومية. على امتداد سنة 2025 سيكون على الدولة التونسية سداد ديون خارجية (أصل الدين زائد الفوائد) تقدر قيمتها بحوالي 10،360 مليار دينار (أكثر من 3 مليار دولار) وسيكون الدفع بالعملات الصعبة طبعا، بالإضافة إلى ديون داخلية بقيمة 14،3 مليار دينار جزء منها بالعملات الصعبة أيضا. تعاني تونس من شُحّ مزمن في العملات الصعبة ازداد حدة في السنوات الأخيرة مما فاقم اختلال الموازنات المالية للبلاد وأثر في المبادلات التجارية الخارجية وتسبّب في نقص كبير أو اختفاء سلع متنوعة في السوق بعضها حيوي كالمواد الغذائية، والأدوية، وقطع غيار، وغيرها. ونظرا لأن عائدات القطاعات الرئيسية الجالبة للعملات الصعبة مثل السياحة وتصدير بعض المواد المعملية والفلاحية كزيت الزيتون والتمور قد بلغت أسقف عالية نسبيا في السنوات الفائتة، فمن الصعب أن تدرّ هذه القطاعات مداخيل أكبر بكثير في الفترة القادمة، كما أن الاقتراض من الأسواق الخارجية أصبح أصعب وأعلى تكلفة، وهذا يجعل الدولة تبحث عن أي مصدر إضافي للعملات الصعبة. ويبدو أن أنظارها اتجهت نحو المهاجرين، أو بالأحرى جيوبهم، علَّهَا تعوّض بعض النقص. 

لا يخفى على الدولة التونسية ولا على بقية الدول والمؤسسات المالية والمنظمات المعنية بالهجرة أن جزء كبير من التحويلات المالية للمهاجرين عبر العالم لا يمر بالمسالك النظامية/القانونية بسبب انخفاض سعر الصرف الرسمي، أو ارتفاع نسب العمولة الموظفة على التحويل أو تقييدات حول سقف المبالغ التي يمكن تحويلها، أو منعا لإمكانية تتبع مصدر الأموال ومسارها، وتختلف قيمة المبالغ المحولة بشكل غير نظامي من منطقة إلى أخرى، وقد تصل نسبتها 50 % وحتى أكثر في بعض البلدان. هذه النسبة التي تمرّ بعيدا عن أعين المسالك الرسمية هي التي ربما تُحرّك الدولة التونسية للضغط على المقيمين في الخارج والتلويح بالعصا الجبائية وقوانين مكافحة تبييض الأموال حتى تدفعهم مستقبلا إلى تجنب التحويلات “غير القانونية” والانخراط أكثر في المنظومة الرسمية مما يدر على الدولة والبنوك ومراكز البريد وشركات تحويل الأموال أرباحا إضافية بالدينار وتدعيم مدخراتها من العملات الصعبة. ولا يمكن تجاهل ما صرّح به محافظ البنك المركزي التونسي في 6 ماي الجاري عندما أكد أن متوسط قيمة التحويل الشهري للمهاجر التونسي لا يتجاوز 120 دولارا، في حين أن المعدل العالمي هو في حدود 200 دولار شهريا، مضيفا أن أغلب تحويلات التونسيين تذهب للاستهلاك وليس الاستثمار، فيما يشبه العتب. في نفس اليوم انعقد مجلس وزاري مضيق تحضيرا للموسم السياحي وعودة التونسيين المقيمين بالخارج واستعراض أبرز الاجراءات والامتيازات، ومن بين مقررات المجلس تشجيع التونسيين المقيمين بالخارج بنفس الامتيازات الممنوحة للمقيمين من الناحية الصرفية وهو ما يمكّنهم من شراء وبيع العقارات والحقوق العينية والأصول التجارية الموجودة بالبلاد التونسية وشراء وبيع الأوراق المالية والحصص الاجتماعية للشركات المقيمة بالبلاد التونسية وإبرام عقود قرض بالدينار التونسي وفتح حسابات داخلية بالدينار التونسي، والتصرف بحرية في مكاسبهم وأملاكهم الموجودة بتونس والقيام بجميع العمليات المتعلقة بها (إبرام عقود إسناد رهون إلخ…)، إضافة إلى حرية الاستثمار والانتفاع بضمان تحويل المداخيل ومحصول بيع أو تصفية الاستثمارات المنجزة بتونس، وفتح حسابات أجنبية بالدينار القابل للتحويل وفتح حسابات أجنبية بالعملة الأجنبية أو بالدينار القابل للتحويل. 

مساهمات وامتيازات.. وجحود

من ثوابت الخطاب الرسمي، ومنذ عقود، الحديث عن الامتيازات التي تُوفرها الدولة للتونسيين المقيمين بالخارج. أبرز هذه الامتيازات الإعفاء الكلي أو الجزئي، في إطار “نظام العودة النهائية” FCR، من دفع الأداءات على السيارات السياحية والشاحنات التي يقل عمرها عن خمس سنوات، مع تجديد هذا الامتياز كل 10 سنوات، وكذلك إمكانية إدخال أمتعة وقطع أثاث وتجهيزات منزلية تصل قيمتها إلى 50 ألف دينار. وهناك أيضا الامتياز الضريبي لدى اشتراء عقار سكني في تونس، إذ يدفع المقيم بالخارج ضريبة قدرها 1 % من سعر العقار مهما كانت قيمته في حين يدفع التونسي المقيم في تونس 6% بالنسبة للعقار الذي تقل قيمته عن 500 ألف دينار و8 % على العقار الذي تتراوح قيمته ما بين 500 ألف ومليون دينار و10 % على العقارات التي يتجاوز سعرها المليون دينار. هذا بالإضافة إلى جملة من التشجيعات على الاستثمار. طبعا هذه امتيازات تَخلق لدى عامة التونسيين الانطباع بأن المهاجرين هم الأبناء المدللين للدولة، بخاصة وانهم يتمتعون كذلك بتسهيلات عند القيام بمعاملات إدارية أثناء تواجدهم في تونس. 

لكن هذا الحديث عن المعاملات الخاصة من قبل المسؤولين وعموم المواطنين يتناسى أمرا مهما: الامتيازات هذه ليست “مجانية” ولا تنبع من “حَنان أمومي” بل هي أقرب للـ”مكافئات” و”المحفزات”. الدولة التونسية هي اليوم في أمس الحاجة إلى التونسيين المقيمين بالخارج، تحديدا أموالهم التي أصبحت رافدا أساسيا للاقتصاد التونسي. يُقيم حاليا حوالي 2 مليون تونسي خارج البلاد دون احتساب المهاجرين غير النظاميين الذين لم يتمكنوا بعد من تسوية وضعياتهم في بلدان الإقامة ولم يتم إحصائهم في سجلات البعثات القنصلية التونسية. يتركز أكثر من 80 % من المهاجرين في دول أوروبية -فرنسا وإيطاليا وألمانيا أساسا- والبقية موزعين بين أمريكا الشمالية، والخليج العربي، والجارتين ليبيا والجزائر. خلال السنتين الفائتين، 2023 و2024، تجاوزت قيمة تحويلات التونسيين المقيمين بالخارج عائدات القطاع السياحي على الرغم من أن الموسمين الفائتين اعتُبِرَا استثنائيين من حيث عدد السياح. 

بلغت قيمة التحويلات 8،13 مليار دينار في 2024، و7،5 مليار في 2023 و7،3 مليار في 2022.  وقد صرح محافظ البنك المركزي مؤخرا بأن أموال المقيمين بالخارج مثلت 30 % من مدخرات تونس من العملات الصعبة وساهمت بنسبة 6،5 في الناتج المحلي الخام خلال سنة 2024. خلال سنة 2024 سجلت المعابر الحدودية دخول أكثر من 1،3 مليون تونسي مقيم بالخارج (هناك من يعود إلى تونس عدة مرات في السنة الواحدة)، ويقدر معدل إنفاق كل واحد منهم حوالي 1800 دينار في كل زيارة. لا يقتصر الأمر على التحويلات المالية والمبالغ المنفقة خلال الإقامة في تونس، بل هناك عوائد اخرى ضخمة لا يتم قياسها بدقة: السيارات التي يدخلها المهاجرون إلى تونس في إطار الامتيازات الضريبية. بلغ عدد هذه السيارات خلال السنوات الثلاث الأخيرة أكثر من 53 ألف وحدة: 14922 سيارة في 2022، و16519 سيارة في 2023، و22232 سيارة في 2024. هذا العدد الكبير من السيارات التي يبيعها أو يهديها المهاجرون يُمكِّن آلاف العائلات التونسية من امتلاك سيارات خاصة دون المرور بوكلاء الشركات العالمية واستنزاف موارد الدولة من العملة الصعبة. 

 في أصعب الفترات التي عاشتها تونس خلال السنوات الأخيرة وَجدَت في تحويلات ونفقات المهاجرين خير سند، ويمكن بلا صعوبة إبراز مقدار مساهمة المهاجرين في الاقتصاد التونسي وتحسين أحوال عشرات آلاف العائلات التونسية خلال الستين عاما الماضية. ولا يجب أن ننسى أن المقيمين بالخارج لاعب أساسي في سوق العقارات في تونس. فماذا تريد الدولة منهم أيضا؟ ألا يمثل هذا الضغط الضريبي نوعا من “الجحود”؟ 

قد تغنم الدولة بعض المداخيل الاضافية من قبل المقيمين بالخارج الذين يهاجرون لفترة محددة ويريدون العودة إلى البلاد خاصة العاملين في الدول الخليجية، لكن الأثر العكسي قد يكون أقوى والخسائر أكبر. تتالي الاجراءات الضريبية وعمليات التدقيق قد تصبح عوامل منفرة للمهاجرين الذين كانوا يخططون للاستثمار في تونس وشراء عقارات فيها، والإحساس بـ”الاستغلال” و”الظلم” الذي يحس به البعض قد يدفعهم إلى الاعتماد أكثر فأكثر على القنوات غير النظامية لدى تحويل أموالهم إلى عائلاتهم وحتى التقليص في عدد سفراتهم إلى بلادهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني