التوجيه الجَامِعي في تونس: عشرات الاختصاصات حُذِفَت بقرار فوقي


2024-07-08    |   

التوجيه الجَامِعي في تونس: عشرات الاختصاصات حُذِفَت بقرار فوقي
رسم عثمان سلمي

في 25 جوان 2024، وبعدَ ساعات قليلة من إعلان نتائج الدورة الرئيسية لامتحان الباكالوريا في تونس، أصدرَت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي دليل التوجيه الجامعي حتى يتمكن الناجحون من الاطلاع على الشعب والاختصاصات التي يُمكِنهم التسجيل فيها خلال السنة الجامعية 2024 – 2025. حدث عادي يتكرر سنويا من دون أية مشاكل في أغلب الأحيان، لكنه أثار هذه المرة جدلا وغضبا داخل الأوساط الجامعية في عدة مناطق من البلاد بسبب سحب عشرات المسالك التكوينية من دليل التوجيه مقارنة بنسخة 2023.  

قرار أحادي ومفاجئ 

بالمقارنة بين دليل التوجيه الجامعي للسنة الجامعية 2023 – 2024 والدليل الجديد الذي أصدرته وزارة التعليم العالي منذ أيام نلاحظ سحب 50 مسارا تكوينيا على الأقل في بعض كليات ومعاهد التعليم العالي في تونس، منها 21 مسارا في مجالات اللغات والترجمة والفنون والثقافة، و29 مسارا في العلوم الصحيحة والدراسات الهندسية. وقد توزَّعَت المسارات الملغاة على عدة شعب واختصاصات: الإجازة في الفرنسية، الإجازة في الإنجليزية، الإجازة في الألمانية، الإجازة في الترجمة، الإجازة في الموسيقى والعلوم الموسيقية، الإجازة في الفنون التشكيلية، الإجازة في تصميم المنتوج، الإجازة في تصميم الصورة، الإجازة في علوم الجيوماتيك، الإجازة في الكيمياء، الإجازة في الفيزياء، الإجازة في الرياضيات والرياضيات التطبيقية، الإجازة في الجيولوجيا، الإجازة في علوم الأحياء والمحيط، الإجازة في فيزياء المواد، الإجازة في الهندسة الميكانيكية، الإجازة في هندسة الأساليب، الإجازة في الإلكترونيك والآلية، المرحلة التحضيرية العلمية رياضيات – فيزياء، الإجازة في التكنولوجيات الغذائية. 

وحَازت كلية العلوم بقفصة على نصيب الأسد بسبعة مسارات تكوينية مُلغاة، وتليها كلية العلوم بقابس، والمعهد العالي للفنون والحرف بسيدي بوزيد، وكلية العلوم والتقنيات بسيدي بوزيد وكلية العلوم بصفاقس بثلاثة مسارات لكل مؤسسة. 

وكانت النقابة الأساسية بالمعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بقفصة أول المبادرين بالاحتجاج وإصدار بيان، في 27 جوان 2024، عبّرَت فيه عن رفضها قرارات وزارة التعليم العالي، قبل أن تلتحق بها نقابات عدة مؤسسات جامعية أخرى في الولاية، وتُصدر بيانا مشتركا وصَفَت فيه القرار بأنه “جائر وله تداعيات سلبية ماديا ونفسيا واجتماعيا على الطلبة والأولياء على حد سواء فضلاً عما قد ينجرّ عنه من نتائج وخيمة على الحركة الاقتصادية التي عرفتها الجهة منذ إحداث الجامعة”.  

نقابات المؤسسات الجامعية في ولاية سيدي بوزيد، عَبّرت هي الأخرى عن رفضها قرارات سحب بعض المسارات التكوينية ونظّمت وقفات احتجاجية أمام الكليات واجتماعات في مقر الاتحاد الجهوي للشغل.  

ولم يقتصر الغضب على هاتين الولايتين. إذ عبّرت عدة نقابات جامعية في ولايات أخرى عن احتجاجها داعية إلى التراجع عن قرار الإلغاء. وكانت الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل قد أصدرت في 1 جويلية الجاري بيانا استنكرت فيه “عدم استشارة أو تشريك الهياكل الأكاديمية المعنية قبل اتخاذ هذه القرارات الخطيرة”. وأكدت فيه مساندتها المطلقة للجامعات في “الدفاع عن حظوظها وتصوراتها في تحديد مسالك التكوين صلبها”، وشددت على “رفضها لأيّ مراجعة مقنّعة للخارطة الجامعيّة تحت غطاء دليل التوجيه الجامعي”.  

بعد أيام قليلة من صدور البيان، صرّح الكاتب العام للنقابة، نزار بن صالح، خلال مداخلة إذاعية أنه تم التواصل مع الوزارة التي أكدت أن النسخة المنشورة من دليل التوجيه ليست نهائية وأنها مستعدة للتواصل مع الجامعات المعنية والاستماع لمقترحاتها وتصوراتها.  

ولئن أكدت الوزارة على لسان رئيسة مصلحة التوجيه الجامعي، هادية الخاروني، أن دليل التوجيه المنشور يوم 25 جوان ليس نهائيا، فإنها لم تعبر عن نيتها في مراجعة قراراتها، بل تحدثت عن إمكانية إضافة اختصاصات جديدة دون أن توضح إن كان ذلك سيَشمل المؤسسات التي ستُحرم من المسارات الملغاة.  

إلغاء يفاقم الإقصاء الجهوي 

إذا ما تثبّتنا في التوزع الجغرافي للمؤسسات الجامعية التي شملتها قرارات تجميد أو إلغاء مسارات تكوينية، فسنجد أن 23 مسلكًا تمّ حذفه في ولايات الجنوب، و17 في ولايات الوسط، و10 في ولايات الشمال. وإذا ما اعتمدنا تقسيم الدواخل/الغرب والسواحل/الشرق فسيصبح التوزيع كالآتي: 33 مقابل 17. حيث أن إقليميْ الجنوب الغربي (قفصة- توزر- قبلي) والوسط الغربي (القيروان – القصرين – سيدي بوزيد) هما الأكثر تضرّرا، إذ حَرَمهما الدليل الجامعي “المؤقت” من 27 مسلك تكوين جامعي. وتأتي ولاية قفصة في طليعة المتضررين، إذ تمّ إلغاء أو تجميد 11 مسارا جامعيا في مؤسساتها، وتَعقبها ولاية سيدي بوزيد بسبعة مسارات.  

هذا التوزع الجغرافي مهمّ لكي نفهم ردة فعل النقابات والجامعات الغاضبة ونستوعب لماذا يعتبر حذف 50 مسارا تكوينيا من جملة مئات الاختيارات قرارا قاسيا. على الرغم من أن التعليم العالي في تونس المستقلة انطلق منذ سنة 1958، فإن المؤسسات الجامعية تركّزَت كلها إلى حد سنة 1973 في العاصمة تونس، قبل أن تنتشر تدريجيا في المدن الساحلية الكبرى والمتوسطة مثل صفاقس وسوسة والمنستير ونابل وبنزرت وقابس، وتُصبح تدريجيا أقطابًا جامعية متفاوتة الأحجام و”القيمة” على طول الواجهة الشرقية للبلاد. أما الجهة الغربية/الداخلية، فظلّت أشبه بـ”صحراء” جامعية لم تنبت فيها إلا بعض المؤسسات المتناثرة هناك وهناك في أواسط تسعينيات القرن الفائت، ثم بشكل أسرع في العشرية الأولى من القرن الحالي. هذا الواقع أفرزَ اختلالا هائلا -يعكس التفاوتات في التنمية والثروة والخدمات في البلاد- في خارطة التعليم العالي في تونس: من جملة 200 مؤسسة جامعية هناك أكثر من 150 تتركز في ولايات الشريط الساحلي. وإذا ما قمنا بتكبير حجم الصورة أكثر، فسنجد أن ولايات تونس الكبرى وصفاقس وسوسة تستأثر لوحدها بأكثر من 100 مؤسسة.  وكما أوضحنا سابقا، فإن غرب البلاد هو أكثر منطقة متضررة من قرارات إلغاء المسارات التكوينية، وهو لا يضم إلا ربع مؤسسات التعليم العالي، ولا يحتمل قضم “نصيبه” الهزيل. 

هل تُعالج أخطاء الماضي بأخرى جديدة؟  

ليت الاختلال بين جهات البلاد يتوقف عند عدد المؤسسات، إذ أنه يشمل أيضا جودة المسارات التكوينية وقيمتها التشغيلية والمعرفية. فلنتأمّل مرة أخرى في قائمة المؤسسات المعنية بإلغاء المسارات التكوينية: 29 مؤسسة تنقسم بين 7 كليات و22 معهد عالي “Institut supérieur”. وبالتثبّت في تواريخ تأسيس هذه المؤسسات، نجد أن 22 منها أحدِثَت في سنة 2000 أو في السّنوات التي أعقبتْها.   

نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الحالية، تميّزت بأمرين على مستوى التعليم العالي في تونس: بداية أزمة بطالة أصحاب الشهائد الجامعية -المستمرة إلى اليوم- وتضاعف أعداد الطلبة في إطار “دَمقرَطة” الوصول إلى الجامعة.  وطيلة فترة حكم الرئيس بن علي كانت الجامعة إحدى أهم الملاعب التي نزل إليها النظام بثقله وسَعى إلى تطويعِها، بالقمع والمراقبة والاختراقات، وأيضا بالبرامج والإصلاحات و”الرؤى” العشوائية. وعلى المستوى الكمّي، حقّقَ النظام عدة إنجازات سواء تعلق الأمر بعدد الطلبة أو عدد المؤسسات ومسالك التكوين.  

في سنة 1956 كانت نسبة التونسيين المسجلين في الجامعة تُقدّر بــ 0.06 في المائة من إجمالي عدد السكان، ثم أصبحت 0.13 سنة 1966 (2.5 في المئة من فئة 19- 24 سنة) ولم تتجاوز 0.55 سنة 1984 (5 في المئة من فئة 19-24 سنة). بداية من أواسط التسعينيات بدأت النسبة تتطور بشكل ملحوظ، فبلغت 1.49 في المائة سنة 1997 (14 في المئة من فئة 19-24 سنة)، ثم قفزَت إلى 3.45 سنة 2009 (45 في المئة من فئة 19-24 سنة). كما أن أكثر من ثلثي المؤسسات الجامعية الموجودة حاليا في تونس أحدِثَت في عهد بن علي، الذي تميزت العشرية الأخيرة من حكمه بإحداث عشرات المؤسسات في الولايات الداخلية وأغلبها “معاهد عليا” (ينطبق الأمر أيضا على بقية الولايات).  

طبعا كان الجانب الدعائي حاضرا بقوة في إطار تلميع صورة الرئيس الحريص على التعليم ووصول أكبر عدد ممكن من التونسيين إلى الجامعة، والساعي إلى تقليص التفاوتات الاقتصادية بين مختلف جهات البلاد. أيضا شكّلَت مسائل البطالة والتشغيل هاجسا كبيرا للنظام. فمن جهة، تسمح سياسة “دمقرَطة” الوصول إلى الجامعة -وفيما بعد الانخراط في مسار البحث العلمي- تأجيل قدوم مئات آلاف الشباب إلى سوق الشغل، لكنّها من جهة أخرى تُنتج سنويا عشرات آلاف الخريجين الجامعيين الذين سيبحثون عن وظائف تُناسب تكوينهم من حيث الاختصاص والأجور. ومن هنا سيُولد هوس ربط التعليم العالي بالسوق وتوجهاته واحتياجاته. وعليه، تمّ اعتماد نظام “إجازة -ماجستير- دكتوراه” LMD في سنة 2005 -انسجاما مع “مسار بولونيا” الأوروبي- وصار النظام يُشجّع بشكل واضح الطلبة على التسجيل في المعاهد العليا واختيار مسالك التكوين قصيرة الأمد (سنتين أو ثلاثة) بدعوى أنها الأكثر انسجاما مع متطلبات السوق -خدمة للمستثمرين المحليين والأجانب الذين سيجدون وفرة في التقنيين والكوادر المتكونين جامعيا مقابل أجور متدنية- ممّا يسهّل العثور على عمل بشكل سريع وتجنّب سنوات البطالة الطويلة. 

 وعلى عجل، بُنِيَت عشرات المعاهد في مختلف الاختصاصات -خاصة التقنية- في أغلب ولايات البلاد مما خلَقَ وهما بأن هناك تغييرا حقيقيا في خارطة التعليم العاليّ. والنتيجة كانت مباني صغيرة الحجم بتجهيزات وأقسام واختصاصات محدودة يُشرف عليها أساتذة أغلبهم متعاقدون (باحثون في مرحلة الدكتوراه) أو ينتمون إلى أسلاك المساعدين والأساتذة المساعدين والمدرسين التكنولوجيين. وكل سنة يكتفي “السوق” ببضع خريجي هذا المسلك أو ذاك، فيصبح مصنعا لتخريج طلبة بنصف تكوين وشهادة متدنية القيمة، فيما يلتحق معظمهم باحتياطي البلاد المتضخم من المعطلين عن العمل.  

عمليا، صار الحصول على شهادة جامعية يعني التعرض أكثر لاحتمال البطالة المطولة: 23،7 % عند حاملي الشهادات الجامعية مقابل 16،2 % عند عموم السكان، وترتفع النسبة عند المتخرجات لتبلغ 31 % وفق تقديرات المعهد الوطني للإحصاء (أرقام الفصل الثاني من سنة 2023).  

لكن على الرغم من كل هذه السلبيات وهذا التفاوت الصارخ من حيث عدد مؤسسات التعليم العالي وعدد الاختصاصات والمقاعد وجودة التكوين وقيمة الشهائد في سوق الشغل، فإن إحداث مؤسسات جامعية في كل ولايات البلاد خطوة إيجابية، فهي قد تصبح نواة لأقطاب جامعية صغيرة ومتوسطة، وتُساهم في فك العزلة عن دواخل البلاد وتنميتها اقتصاديا، وتَمنح مئات وربما آلاف من أبنائها إمكانية الدراسة على بعد كيلومترات قليلة من بيوت عائلاتهم عوض التنقل مئات الكيلومترات للدراسة في إحدى المدن الكبرى وتخصيص نفقات لا يَقدِر جزء كبير من العائلات التونسية على تحمّلها.  

من الطبيعي أن تُراجِعَ الدولة كل بضع سنوات خارطة التعليم العالي وقائمة الاختصاصات والشهائد المعروضة على الطلبة، وقد يكون الإقبال ضعيفا جدا على بعض المسارات التكوينية أو أن الزمن تجاوزها بشكل كبير. لكن يجب في مثل هذه الحالات أن يتمّ تعويض المسارات الملغاة وألا تُعاقب جامعات وولايات تعاني أصلا حرمانا جهويا. حتى وإن كانت العديد من المؤسسات قد أنشئت لاعتبارات دعائية فلن يكون تصحيرها تدريجيا -قبل غلقها ربما- هو الحل، بل كان من الأجدى السعي إلى الارتقاء بجودة التكوين فيها وتنويع الاختصاصات وخلق حياة جامعية حقيقية. ومن الأفضل أن يُؤخذ قرار إلغاء اختصاص أو مسلك -وحتى الإضافة- بعين الاعتبار مختلف آراء المعنيين بالتعليم العالي من رؤساء جامعات وعمداء ومديرين وأكاديميين ونقابات الأساتذة وممثلي الطلبة. وإذا ما كان قانون السوق ومعادلة العرض والطلب يبرران -حسب المنطق النيوليبرالي المهيمن- إلغاء عشرات المسارات التكوينية ذات العلاقة بالآداب واللغات والثقافة والفنون، فماذا عن المسالك العلمية والهندسية المحذوفة؟ كما أن “الضغط على التكلفة” لا يجب أن يكون معيارا أساسيا عندما يتعلق الأمر بالتعليم، خاصة في المناطق التي عانَت لعقود طويلة من التهميش الممنهج.  

بعد الإعلان عن نتائج “دورة المتميزين” في 09 جويلية القادم، التي يختار خلالها المتحصلون على أعلى المعدّلات في البكالوريا الشُّعَب والاختصاصات “الأرفع شأنا” ويتنافسون على المنح المخصصة للمبتعثين إلى الخارج، ستُصدر وزارة التعليم العالي -يوم 19 جويلية 2024- النّسخة النهائية من دليل التوجيه الجامعي لتنطلق أربع دورات توجيهية مخصّصة لبقية الناجحين: الدورة الرئيسية (23– 27 جويلية) ثم الدورة الثانية (2-4 أوت) وبعدها دورة الاختصاصات التي تقوم على اختبارات قبول (5-9 أوت)، وأخيرا دورة إعادة التوجيه لمن لم يجدُوا ضالّتهم في بقية الدورات. ومع نهاية فصل الصيف، سيجد عشرات آلاف الشباب من أبناء الأرياف والمدن المهمّشة أنفسهم تائهين في زحمة المدن الكبرى، تُرهقهم إجراءات التسجيل الجامعي والبحث عن السكن ونقل الأمتعة. ومن المرجّح أن ينضم إليهم مئات أو آلاف الطلبة الجدد الذين كان بإمكانهم أن يدرسوا في ولاياتهم لو لم تتّخذ وزارة التعليم العالي قرارا أحاديا بإلغاء عشرات الشعب بجرة قلم. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات إدارية ، الحق في التعليم ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني