التهرم والأمية في إحصاء 2024: مؤشرات تُنذر بالخطر


2025-05-27    |   

التهرم والأمية في إحصاء 2024: مؤشرات تُنذر بالخطر

في ندوة صحفية نُظمت يوم السبت 17 ماي، أعلن المعهد الوطني للإحصاء عن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والسكنى الذي نُظم بين شهري نوفمبر وديسمبر من سنة 2024. هذا التعداد الذي يُعتبر الأضخم في تاريخ البلاد، والذي شهد كذلك تطويرًا في آليات العمل من خلال توظيف الرقمنة، قد مرّ في مسار تنفيذه بعديد الصعوبات التي أشارت إليها المفكرة في مقال سابق بشكل أكثر تفصيلا، ومن أهمها المشاكل المتعلقة بتطوير الكادر البشري داخل المعهد وتحسين ظروف العمل داخله.

وبانتظار النتائج التفصيلية للإحصاء حسب المعتمديات، التي ستُمكن من فهم أكثر عُمقا للعديد من الظواهر التي بيّنتها الأرقام الأولية، أثارت بعض النسب ومنها تنامي نسبة التهرم السكاني جدلا حول مستقبل التجدد الجيلي في تونس، ومدى استعداد المنظومة الصحية ومنظومة الضمان الإجتماعي على استيعاب هذه التحولات الديمغرافية الواسعة، في ظل عدم الانكباب على صياغة مشروع سياسة سكانية شاملة تدمج القضايا السكانية في الخطط التنموية وآلياتها بشكل أكثر فعالية.

المؤشرات الديمغرافية: نحو تهرّم سريع للسكان؟

بمجرد مُشاهدة البيانات السكانية التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء، يتضح التراجع الحادّ في نسبة الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن أربع سنوات من مجموع السكان بين 18,53% سنة 1966 إلى 5,86% لسنة 2024. وفي مقابل ذلك ارتفعت الشريحة العمرية من 60 سنة فما فوق في المنحى المعاكس من 5,58% سنة 1966 إلى 16,88% سنة 2024. كما تطوّر مؤشّر الشيخوخة، وهو مؤشّر يحسب عدد الأشخاص البالغين 60 سنة فأكثر على عدد الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة من 12,0% سنة 1966 ليبلغ 73,9% سنة 2024، ويرتفع تبعا لذلك مؤشر الإعالة الديمغرافية لكبار السنّ، وهو مؤشر يعتمد على قسمة عدد الأشخاص البالغين من العمر 60 سنة فما فوق على عدد الأشخاص في سن العمل (59-15 سنة) من 11,6% سنة 1975 إلى 28,0% في 2024. بعد أن كان 18,1% قبل عشر سنوات خلال تعداد سنة 2014. بالمقابل، بلغ متوسّط العمر على المستوى الوطني 35،5 سنة خلال الإحصاء الحالي، مع عدم وجود تفاوتات كبيرة بين الأقاليم على مستوى هذا المؤشّر.

هذا التغير السريع في الهيكلة العمرية للسكان، جعل تونس تبلغ المرحلة الأخيرة من التحوّل الديمغرافي، وبنسقٍ أكثر سرعة من عديد الدول في الفضاء المغاربي والعربي. يعود هذا التحوّل إلى جملة من الأسباب، لعلّ من أهمها انخفاض نسبة الوفيّات والتراجع الكبير على مستوى وفيّات الرضع، وهو ما انعكس في ارتفاع معدّل الحياة عند الولادة. غير أنّ هذه المؤشرات تدل في المجمل على توجه نحو التهرّم السكانيّ، بسبب انخفاض نسبة الخصوبة، والتناقص الملحوظ في عدد عقود الزواج الذي تراجع بقرابة 25% في الفترة الممتدة بين 2016 و2020، حيث بلغ عدد الزيجات سنة 2021، 71000 زيجة جديدة مقارنة ب 95 ألفا سنة 2017 على سبيل المثال.

جميع هذه المؤشّرات تدعم التخوّف من تدنّي نسبة الخصوبة إلى أقل من المستوى اللازم لتجدد الأجيال، بسبب تأخّر سنّ الزواج وارتفاع نسبة العزوبية لدى النساء اللواتي ينتمين إلى الفئات العمرية عالية الخصوبة، بين سن العشرين و35 سنة، وهو عامل مؤثّر كذلك في نسبة النمو الديمغرافي التي تراجعت لأول مرة عن نسبة 1%، لتبلغ سنة 2024 نسبة 0،87 % بعد أن كانت هذه النسبة تبلغ قبل ثلاثين سنة 2،35% سنة 1994. كما يُساهم المستوى التعليمي وتقدمه في التأثير على الصحة الإنجابيّة، حيث من الملاحظ انخفاض عدد الأطفال لكل امرأة كلما ارتفع المستوى التعليمي، وهو ما يؤكّده المسح متعدد المؤشرات 2011-2012 الذي أشار إلى أن نسبة الخصوبة بين الأمّهات ذات مستوى التعليم العالي تبلغ طفلين لكل امرأة من هذه الفئة وهي نسبة أقل بكثير من مثيلتها المسجلة لدى الأمهات الأمّيات، والتي بلغت قرابة الأربعة أطفال حينذاك.

ومن الواضح أن ظاهرة التهرم السكاني المتسارعة، قد تجاوزت بكثير النسبة التي وضعها المعهد الوطني للإحصاء ضمن دراسته للتوقعات السكانية  2014-2044، حيث توقع المعهد وصول نسبة السكان ما فوق ال60 سنة إلى 14،1% سنة 2024، لتبلغ اليوم 16،88%، أي نسبة قريبة من توقعات المعهد للنسبة المُقررة لسنة 2031، والتي تُناهز 18،2%. ويعكس تطور هذه النسبة جملة من التحديات، في ظل غياب استراتيجية واضحة لفهم التحولات الديمغرافية والتعامل مع آثارها. وأول هذه الآثار اضطرار الفئة السكانية النشيطة في سوق العمل إلى إعالة عدد أكبر من غير الناشطين وتأثير تزايد نسبة التهرم على العبء المسجل في الصناديق الإجتماعية والإنفاق لمدى أطول في مجال التقاعد. وتعكس نسبة التغطية الاجتماعية المًسجلة في السنة الفارطة عُمق هذه الأزمة إذ بلغت نسبة 42،1% فقط كمُعدل وطني، في حين بلغت أدنى مستوياتها في “الإقليم الخامس” (ولايات الجنوب) لتصل إلى 33،7%. وبالتوازي مع ذلك، تتكشف الأزمة المُستقبلية في توفير التغطية الصحية لفئة المسنين، خصوصا وأن عددا من أهم الولايات التي تحمل نسبة شيخوخة تفوق المعدل الوطني وكثافة كبيرة للسكان، تُعد من بين الأدنى في توفير التغطية الصحية، ومن بينها خصوصا ولايات تونس الكبرى (ولاية تونس 69% وولاية أريانة 71%)، وهي نسب تظل دون المعدل الوطني الذي بلغ 76%.

نسبة الأمية: الرقم الصادم

أحد أهم الأرقام التي تمّ تداولها إعلاميّا ضمن مُخرجات التعداد العام، النسبة المُرتفعة للأمية التي تجاوزت 17%. هذا الرقم الذي يظل نقطة سوداء، مع مراهنة الدولة منذُ فترة الاستقلال على التعليم والإدماج في التمدرس، يشهد هو الآخر تفاوتا على المستوى الجهوي، إذ ترتفع نسبة الأميّة في الإقليم الأول الذي يشمل بشكل أساسي ولايات الشمال الغربي إلى نسبة 22%، وخصوصًا لدى الإناث حيث ترتفع النسبة إلى 28،4%. ويشهد الإقليمان الثالث والرابع (اللذان يضمان عددا من الولايات الداخلية في الوسط) نسبا مُشابهة، إذ تبلغ نسبة أميّة الإناث 25,4% و24,1% بالمائة على التوالي، في حين تنخفض نسبة الأمية في المناطق التي تشهد تمركزا حضريا مرتفعا مثل الإقليم الثاني الذي يشمل ولايات تونس الكبرى والشمال الشرقي، حيث تبلغ النسبة الإجمالية للأمية 14% فقط، وهي قريبة أيضا من النسبة المسجلة في ولايات الجنوب التي بلغ معدلها 15,3% مع ارتفاع نسبة أمية الإناث إلى ما يقارب العشرين بالمائة.

وتُعتبر ولاية جندوبة أكثر الولايات ارتفاعا في نسبة الأمية بواقع 28،5% أي ما يُقارب ثلاثة أضعاف نسبة الأمية في ولاية بن عروس مثلا، التي تبلغ 10,1%، كما تعتبر ولاية جندوبة الولاية التي تحتوي على أكثر نسبة أمية للإناث على المستوى الوطني بواقع 36,5%. يُعتبر هذا المؤشر بالخصوص مثالا ساطعا عن أكثر جوانب التفاوت الجهوي والنوعي أثرا وأهمية. فلا يخفى تأثير هذه النسبة على مدى كفاءة اليد العاملة، وعلى القدرة إلى النفاذ للمناصب والخطط العليا. وفي هذا النطاق، يُشير الباحث في علم الإجتماع والمختص في التحليل الإحصائي “محمد علي بن زينة” من خلال دراسة له حول إنتاج الهامشية والانقطاع المدرسي لدى الشباب في معتمدية غار الدماء بولاية جندوبة، إلى أثر المشاكل المادية في الانقطاع المبكر عن الدراسة، حيث صرح 43.5%ضمن عينة تم استجوابها من بين المنقطعين دراسيا في “غار دماء” أن هذه المشاكل هي السبب الرئيسي لعدم مواصلتهم تعليمهم. وقد أفرزت نسبة التمدرس الضعيفة وارتفاع نسبة الأميّة تناميا لعدد من الظواهر الناتجة عنها، مثل الهشاشة الاجتماعية والحياتية وارتفاع نسب البطالة وتنامي عدد المنخرطين في الاقتصاد غير الرسمي ومسالك التهريب.

في المجمل، يضع التعداد العام للسكان والسكنى عددًا من المؤشّرات التي تهدف إلى دمج السياسة السكانية داخل منظومة للاستراتيجية التنموية على المديين المتوسط والبعيد، حيث ينبني هذا الأمر خصوصا على تصوّر وتخطيط واضحين، لجهة جمع المعلومات الضرورية وتقنيات الإدارة والتقييم. ومع توفير عمليّة الإحصاء لعدد هامّ من المعطيات المُحيّنة، يتعين تحديد “رؤية وطنية سكانية” توضح العلاقة بين القضايا الديمغرافية والتنمية المستدامة. ويُمكن صياغة هذه الرؤية ضمن وثيقة تكون بمثابة المرجع في إطار صناعة السياسات العمومية. كما يطرح الإحصاء جملة من المعطيات المفيدة في توظيف رأس المال البشري ومعالجة الظواهر الاجتماعية الضارة وكذلك استباق عدد من المشاكل مثل ظاهرة التهرّم، عبر إرساء آليات مفيدة وعاجلة للحماية الإجتماعية. غير أن هذه الرؤية “العقلانية” لاستغلال مخرجات الإحصاء العام تبدو بعيدة عن الهيكليّة صنع القرار السياسي اليوم، بحيث لا تظهر حتى الآن أيّ مؤشرات على وجود تصوّر ناضج لرصد تطور هذه المؤشرات والبناء عليها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني