التنمّر على قاضية حين يُحاكَم


2025-06-01    |   

التنمّر على قاضية حين يُحاكَم

أصدرت القاضية المنفردة الجزائية فاطمة جوني في تاريخ 29 أيار 2025 حكمًا هامًا في حقّ الوزير السّابق وئام وهاب، على خلفيّة تنمّره على القاضية غادة أبو كرّوم. وقد بدأت فصول هذه القضية في أيار 2017 حين قدّمت أبو كروم شكوى مباشرة ضد وهّاب على خلفية تهجّمه على شخصها على هامش انتقاد القرار الصادر عنها في احتجاز امرأة مسنّة في قضية “مخالفة بناء”. ومن أبرز ما استندت إليه الشكوى ما كتبه وهّاب على صفحات “إكس” و”فيسبوك” ومنها “من العار على لبنان أن تبقى القاضية التي أوقفت المرأة العجوز والمريضة في السلك القضائي” و”أنصح مجلس القضاء الأعلى بعدم إعطاء مراكز حساسة وعلى تماس مع الناس لعانسات لأنّ الأمر يتحوّل عندهنّ إلى انتقام من كل شيء، هكذا يقول علم النفس”. 

ولدى استجواب وهّاب من قبل المحكمة، أدلى أنه يكنّ للقاضية أبو كروم “كلّ الاحترام والتقدير” وأنّها “قاضية مستقيمة” و”من أفضل القضاة في لبنان” وأنّه “لا يعتبر كلمة عانس تختزن إساءة لشخصها لأنّها تعبّر عن حالة اجتماعية” وأنه صرّح بذلك من منطلق تعاطفه مع المرأة المسنّة التي جرى توقيفها ومن منطلق دوره في الإضاءة على إخلالات القضاء. إلّا أنّ القاضية دحضت في حكمها أقوال وهاب مشدّدة على أنّه “لم يكتفِ بمناشدة السلطة القضائية بالتدخّل لمعالجة الأمر، بل وصل الأمر إلى اعتبار بقاء المدعية في القضاء عارًا وإلى وصفها بالعانس التي يتعيّن حرمانها من تولّي أيّ مركز حساس في القضاء…” وأنّ استخدامه كلمة عانس إنما جاء بهدف “النيل من المدعية” وصولًا إلى المطالبة بحرمانها كما جميع العانسات من إشغال أيّة مناصب حساسة. وقد رأى الحكم “أنّه من المعروف في مجتمعاتنا الشرقية أنّ المرأة غالبًا ما تتعرّض للإساءة من خلال استغلال وضعها الاجتماعي. فمن تبقى عزباء ينادونها بالعانسة ومن تنفصل عن زوجها يعيّرونها بكونها مطلّقة وكأنّما ذلك الوضع الاجتماعي هو عار يلاحقها أو نقيصة تحطّ من قدرها وشأنها أو وصمة تنال من أهليّتها لتولّي هذه المهامّ”. وأضاف الحكم: “من هنا باتت كلمة ‘عانس’ من النعوت التي تختزن حتما نوعًا من الإهانة لكلّ امرأة استنكفت عن الزواج متى تضمّنت دلالاتٍ سلبية ومتى نعتت بها المرأة في سبيل النيل من قيمتها ودورها في المجتمع”. وتبعًا لذلك، اعتبرت القاضية جوني أنّ أقوال وهّاب تشكّل جرم ذمّ وقدح بحقّ القاضية أبو كروم لتنتهي إلى الحكم عليه بعقوبة قوامها حبس شهرين وتسديد تعويض عن الضرر الذي تكبّدته أبو كروم حددته بمليار ليرة لبنانية. 

وتكمن أهمية هذا الحكم، ليس فقط في أنّه يشكّل أحد الأحكام النادرة في ردع ظاهرة التنمّر ضدّ القضاة والتي بلغت مستويات غير مسبوقة في السنوات السابقة من دون أن تلقى أيّ مواجهة جدّية من قبل أي من المؤسسات أو الهيئات العامّة المعنية، بل أنّه يشكل علاوة على ذلك أحد الأحكام النادرة في ردع التنمّر ضدّ النساء. يبقى أنّ الحكم أتى متأخّرًا جدًّا، حيث استمرّ النظر في الشكوى رغم أهميّتها ثماني سنوات، ولمّا زلنا في المرحلة الابتدائية من المحاكمة.  

هذا ما سنحاول تفصيله أدناه.  

حكمٌ يواجه التنمّر ضدّ القاضيات وعموم القضاة 

أوّل ما نلحظه هو أنّ هذه القضية نشأت بفعل دعوى مباشرة أقامتها القاضية أبو كرّوم أمام المحكمة المختصّة. فعلى الرغم من الطابع الجرمي للتصريحات المشكو منها وارتباطها مباشرة بعمل القاضية بصفتها النائبة العامة في منطقة النبطية، لم تتّخذ النيابة العامة أيّ مبادرة للدفاع عنها وعن القضاء وبشكل أعمّ عن العمل القضائيّ. كما لم تتدخّل هيئة القضايا بصفتها ممثلة الدولة في الدعوى للمطالبة بتعويض عن الضرر الذي لحق القضاء برمته. بمعنى أنّ القاضية أبو كروم تُركت تكافح وحدها دفاعًا عن نفسها وعن القضاء، وكأنها مسألة شخصيّة بحتة. 

وفي الواقع، تفاقم هذا التخلّي لاحقًا وبخاصة بعد أزمة 2019، حيث انخرطت عدد من القنوات التلفزيونية المرخّصة في أساليب التنمّر، من دون أن تلقى أيّ تنبيه من المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع أو وزارة الإعلام أو أن تواجه أيّ ادعاء من النيابات العامة. وقد ارتبط التنمّر المعتمد غالبًا في نشرات الأخبار أو في البرامج السياسية الأكثر حضورًا بالدفاع عن مصالح قوى نافذة، بما يعزز فرضيّة أن يكون بمثابة مادة إعلانية مقنّعة، مادة يتم تسويقها زورًا تحت غطاء الإعلام. وهذا ما شهدناه بشكل واسع من خلال حملات التعرّض ضد مجموعة من القاضيات العاملات في مجال الفساد المصرفي أو الإداري، أبرزهن النائبة العامة في جبل لبنان السابقة غادة عون ورئيسة هيئة القضايا السابقة هيلانة اسكندر. وقد بلغ التنمّر أوجّه في قضية تفجير المرفأ، بعدما استهدف شخص المحقّق العدليّ طارق بيطار طوال أشهر وبصورة شبه يوميّة. وقد هدف التنمّر في أغلب هذه الحالات إلى قلب وجهة الاتّهام رأسًا على عقب، وتحويلها من اتّهام قضائيّ يوجّه ضدّ أشخاص بُشتبه في تورّطهم بجرائم خطيرة إلى اتّهام إعلاميّ ضدّ القاضية أو القاضي الذي يتولّى التّحقيق أو الملاحقة معهم بالتسُّيس وعدم الحياديّة. وقد ترافق ذلك مع كمّ غير مسبوق من دعاوى الردّ والنقل والمخاصمة، وكلها دعاوى هدفتْ إلى شلّ الملاحقات والتّحقيقات بما يحصن نظام الإفلات من العقاب.       

حكم يواجه ذكوريّة “الطبقة السياسيّة” 

ثاني ما نلحظه هو انخراط الحكم في تفنيد التّعابير المُستخدمة من المحكوم عليه وئام وهاب وأبعادها، وذلك بعدما ادّعى أن تعبير “عانسة” إنما رمى إلى توصيف وضع اجتماعي من دون أيّ نية في الإساءة. وعليه، شدّد الحكم على أنّ هذا التعبير إنّما استخدم في معرض النيل من القاضية أبو كرّوم والتشكيك في قدرتها على النّظر في أيّ ملف حسّاس بصورة عادلة ومحايدة وتاليًا في امتلاكها المواصفات الأساسية لممارسة العمل القضائي، وصولا إلى المطالبة بعزلها عن القضاء. ويقتضي التنبيه هنا أنّ مواجهة التنمّر الذكوري تزداد أهمية مع ازدياد عدد النساء في القضاء وتحولّهن من أقلية إلى أكثرية معزّزة. ومن المتوقع تبعًا لذلك أن يتفاقم استخدام الخطاب الذكوري في معرض التشكيك في العمل القضائي ككلّ. 

حكم يظهر عمق الخلل في المرفق القضائي 

أخيرًا، يلحظ أنّ النظر في الدعوى رغم أهميّتها استغرق ثماني سنوات، علمًا أنه لا يزال بإمكان المحكوم عليه الطعن به استئنافًا، مما سيستغرق أشهرًا وربما سنوات إضافية. ويظهر طول أمد هذه الدعوى التي تعني “قاضية” (كانت سابقًا تشغل المركز نفسه وأصدرت فيه أحكامًا رائدة مثل حكمها بإسقاط الملاحقة ضدّ مارسيل خليفة على خلفية إنشاد قصيدة محمود درويش “أنا يوسف يا أبي”) عمق الخلل في المرفق القضائي، وبخاصّة تبعًا للتأثيرات السلبية للأزمة. وهذا إشكال آخر حان أن تعطيه الأجهزة المخوّلة تنظيم القضاء، ما يستحقّ من اهتمام.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني