مع اقتراب الموعد القانوني لإجراء الانتخابات البلدية وقبل إقرار قانون التمديد للمجالس البلدية في 18 نيسان الماضي، شهد مجلس النوّاب طفرة في اقتراحات قوانين تقدّم بها نوّاب ينتمُون إلى كتلٍ تستمدّ صفتها التمثيليّة من ناخبين هم في غالبيتهم مسيحيّون. وقد توخّت هذه الاقتراحات ضمان المناصفة عبر اتّباع وسائل مختلفة من دون أن تعلن عن ذلك صراحة، أي أنّها لم تقترح تكريس التمثيل الطائفي في بلدية بيروت علنًا بل حاولت تقسيمها إلى دوائر انتخابية تكون الغلبة العددية في نصفها لأصوات الناخبين المسيحيين.
وقد يظنّ البعض أنّ مسألة التمثيل الطائفي في بلدية بيروت أو في البلديات عمومًا هي مسألة جديدة. لكن الحقيقة التاريخية تخالف هذا الافتراض إذ يتبيّن أنّ التمثيل الطائفي كان مكرّسًا في القانون خلال الانتداب الفرنسي وأُلغيَ عمدًا بُعيد نيل لبنان استقلاله.
عرف لبنان نظام التمثيل البلدي في ظلّ السلطنة العثمانية التي أصدرت مجموعة من التشريعات تتعلق بالانتخابات البلدية. لكن جميع هذه التشريعات خلتْ من أي نص يكرّس التمثيل الطائفي في البلديات، وإن اشترطت في من ينتخب أن يكون من أصحاب الأملاك. وهذا ما يظهر في التوزيع الطائفيّ للمقاعد البلديّة في الانتخابات التي حصلتْ سنة 1878 مثلًا عندما فاز عشرة أعضاء مسيحيين بينما لم يفُز سوى عضويْن من المسلمين من دون أن يؤدي ذلك إلى أيّ أعتراض أو تشكيك في شرعيّة المجلس البلدي[1].
لكنّ هذا الواقع سيتغيّر خلال الانتداب الفرنسي، إذ جرى حينها تكريس التمثيل الطائفي في البلديات عامّة وفي بلدية بيروت تحديدًا بموجب قرارات خاصة. فقد أصدر حاكم دولة لبنان الكبير القرار رقم 1208 في تاريخ 12 آذار 1922 الذي يعتبر أوّل تشريع لبناني متكامل حول المجالس البلدية. جاء في المادة 19 منه أنّ “عدد ممثلي كلّ طائفة في المجلس البلدي يكون على نسبة العدد المتّخذ معدلًا للتمثيل الانتخابي (…) أما معرفة العدد المتّخذ معدلًا للتمثيل الانتخابي فتحصل بقسمة مجموع عدد الناخبين في البلدية على عدد الأعضاء البلديين الذين يراد انتخابهم”. وهكذا يكون هذا النص قد أقرّ مبدأ التمثيل النسبيّ للطوائف في المجالس البلدية وهو أضاف أنّ الناخبين “بلا فرق بين طوائفهم يصوّتون جميعًا لانتخاب العضو أو الأعضاء البلديين الذين يراد انتخابهم”.
ونظرًا لما تمثله بيروت من أهمية سياسية واقتصادية، فقد خضعتْ بلديتها لأحكام خاصّة صدرت بموجب قرار حاكم دولة لبنان الكبير رقم 2671 تاريخ 30 تموز 1924 الذي نصّ في مادته الثالثة ليس فقط على تمثيل الطوائف بل أيضًا الأجانب في المجلس البلدي وفقًا للتالي: “تمثل الطوائف والجنسيات المختلفة في مجلس بيروت البلدي على النسبة الآتية: 5 من المسلمين السنيين، 1 من الشيعيين أو الدروز، 2 من الموارنة، 2 من الروم الارثوذكس، 1 من الروم الكاثوليك، 1 من طوائف الأقليات، 1 من الفرنساويين، 2 من تابعي الولايات المتحدة الأميركية[2] والدول الداخلة في سلك جمعية الأمم. ولا يقبل إلّا عضو واحد من جنسية أجنبية واحدة في المجلس المشار إليه”. وتضيف المادة السابعة من القرار أنّ “جميع سكان بيروت الذكور من أية جنسية أو طائفة كانوا يحق لهم أن يشتركوا في انتخاب أعضاء البلدية (…) وجميع الناخبين في مدينة بيروت بلا تمييز بين جنسياتهم وطوائفهم، يحقّ لهم أن يصوّتوا للمرشّح أو المرشّحين للانتخاب”. وقد عدّل هذا النص لاحقًا بموجب القرار رقم 3627 تاريخ 21 نيسان 1926 بحيث تمّ الاحتفاظ بالمقاعد المخصّصة للطوائف وفقًا للأعداد السابقة لكن مع رفع تمثيل الأجانب إلى أربعة أعضاء وفصل انتخابهم بحيث بات الأجانب ينتخبون ممثليهم على حدة.
استمرّ العمل بهذه الأحكام التي تكرّس التمثيل الطائفي في البلديات حتى تشكيل حكومة رياض الصلح الجديدة بعد الانتخابات النيابيّة التي جرت سنة 1947. فقد أعلنت حكومة الصلح في بيانها الوزاري أمام مجلس النواب في تاريخ 17 حزيران 1947 نيّتها تحرير لبنان من “القيود الطائفيّة الرجعيّة” وأنّها تمهيدًا لذلك ستعمد إلى الاتصال “بمختلف الجهات والمراجع رغبة (منها) في أن يتمّ إلغاء الطائفية من دون أن يقوم في نفس أي كان شيء من الشك والقلق”. وبالفعل، سترسل الحكومة مشروع قانون جديد حول البلديات لا يتضمّن أيّ ذكر للتّمثيل الطائفي. وقد صدر هذا القانون في 27 تشرين الثاني 1947 بعدما أقرّه مجلس النواب بغالبية أعضائه. وعليه، اعتبر النائب فيليب تقلا في جلسة 30 أيلول 1947 أنّ هذا القانون يشكّل “فتحًا جديدًا بقضية إلغاء الطائفية وأعتبر أنّ في تصويتنا على هذا القانون خطوة أولى في سبيل الإصلاح الذي لن يتمّ ما لم يتوارَ شبح الطائفية الذي لن يتوارى من النفوس ما لم يتوارَ من النصوص”.
ولم يقتصرْ الأمر على إلغاء الطائفية في الانتخابات البلدية بل انسحب الأمر أيضًا على الانتخابات الاختيارية التي كانت بموجب القانون الصادر في 13 كانون الثاني 1928 تقرّ توزيع أعضاء المجالس الاختيارية نسبيًا على الطوائف علمًا أنّه بموجب المادة العاشرة من القانون المذكور كان مركز المختار يُعطى للطائفة الأكثر عددًا. وقد تمّ إلغاء هذا المبدأ في ظلّ حكومة رياض الصلح نفسها بموجب قانون المختارين الجديد الصادر أيضا في 27 تشرين الثاني 1947. وقد أعلن النائب جوزف سكاف في ختام جلسة مجلس النواب التي أقرّت هذا القانون في تاريخ 10 تشرين الثاني 1947 التالي: “بما أنّه لأوّل مرة في تاريخ هذه البلاد يقرر إلغاء الطائفية في انتخابات البلديات والمختارين لا يسعني إلّا أن أشكر الحكومة والمجلس على هذه الخطوة المباركة الجريئة راجيًا أن لا يبعد أجل ذلك اليوم الذي نتمكن فيه من التحرّر من قيود الطائفية بوجه عام عندئذ نستطيع أن نطمئن إلى مستقبل هذا الوطن العزيز”.
وعلى الرغم من الإلغاء القانوني للتمثيل الطائفي، ظلّت الانتخابات تحترم في البلديات المختلطة تأمين مشاركة جميع الطوائف وفقًا لتوافقات تتمّ بين الأهالي أو الأحزاب السياسية. فكما شكل الميثاق الوطني مجموعة من التوافقات من أجل تأمين مشاركة جميع الطوائف في السلطات الدستورية، كذلك تعكس تلك التوافقات البلدية شكلًا من “الميثاق الوطني المحلي” الذي يعبّر عن رغبة المجتمع في تدارك الواقع الطائفي عبر إدارة ذاته بطريقة تضمن مشاركة الجميع في الشأن البلدي.
لكن تلك التوافقات المحليّة سواء في بيروت أو غيرها من البلديات لا تشكّل عُرفًا من الناحية القانونية إذ أنّ القوانين الصادرة سنة 1947 بإلغائها الأحكام التشريعية السابقة التي كانت تكرّس التمثيل الطائفي، تكون قد منعت بشكل صريح اعتبار التوافقات الطائفية المحلية بمثابة أعراف ملزمة لمجلس النواب. فالمشرّع بإلغائه النصوص المتعلّقة بالتمثيل الطائفي يكون قد ترك للمجتمع المحليّ في كلّ بلدية أن يتكيّف مع هذا الواقع الجديد وفقًا لمصالحه.
[1] Malek Sharif, Imperial norms and local realities, the Ottoman municipal laws and the municipality of Beirut (1860-1908), Orient-Institut Beirut, 2014, p. 126.
[2] كون الولايات المتحدة لم تكن عضوا في عصبة الأمم.