أحد أبرز التعديلات الدستورية الحاصلة تبعا لحراك 2011 في الأردن، هو تعديل المادة 100 من الدستور لاعتماد مبدأ التقاضي على درجتين في القضاء الإداري، أي القضاء الناظر في المنازعات مع الادارات العامة. وقد انتظر المشرع قرابة ثلاث سنوات قبل إقرار تعديلات على قانون القضاء الإداري لتكريس هذا المبدأ. وقد خص د. حمدي القبيلات المفكرة بقراءته لهذا القانون بايجابياته ونواقصه، فضلا عن أبعاده (المحرر).
تسعى الدول الحديثة الى بناء دولة القانون والمؤسسات القائمة على سيادة القانون، تعبيرا عن ديمقراطية الدولة، واحترامها لحقوق وحريات الأفراد. ولا يكون ذلك إلا بخضوع كافة الأشخاص حكاما ومحكومين لسيادة القانون، في ظل مبدأ المشروعية. ولم تعد المسألة حبيسة حدود الدولة الداخلية، بل أصبحت بعض المنظمات والهيئات الدولية تصدر تقارير سنوية تصنف فيها الدول بحسب احترامها للحقوق والحريات العامة. ولذلك، بدأنا نلمس توجها عاما في مختلف الدول نحو ضمان حقوق وحريات الأفراد في مواجهة السلطات العامة، وعلى رأسها السلطة التنفيذية، التي تمارس نشاطا أكثر التصاقا بالأفراد وأكثر خطرا على حقوقهم وحرياتهم. وإذا كانت سيادة القانون هي المقدمة الأولى للديمقراطية، فإن وجود القضاء الإداري هو الضمانة الأخيرة لها، فلا قيمة للحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان دون وجود ضمانات تكفل ممارسة الأفراد لحقوقهم وتمنع السلطات الادارية من مضايقة الأفراد في هذه الممارسة، وعلى رأس ضمانات مبدأ المشروعية وسيادة القانون الرقابة القضائية على التصرفات الادارية، من قبل جهة قضائية متخصصة الا وهي القضاء الإداري. فقد كان القضاء الإداري منذ نشأته في فرنسا حاميا ومدافعا عن حقوق وحريات الأفراد ورقيبا على أعمال الإدارة.
ونظرا للأهمية البارزة لوجود القضاء الإداري، اعتمدت دول عربية كثيرة الازدواج القضائي، أي تنظيم قضائها بشكل يسمح بوجود محاكم إدارية متخصصة بالفصل في المنازعات الادارية، الى جانب المحاكم العادية المتخصصة بنظر منازعات الأفراد. الا ان مواقف الدول من تنظيم القضاء الإداري تتفاوت وتختلف، فمنها من قطع شوطا بعيدا في هذا المجال ، مثل فرنسا على الصعيد الدولي ومصر على الصعيد العربي، ومنها من لا يزال في بداية الطريق ، مثل الأردن وكثير من الدول العربية.
وتعود بداية ظهور القضاء الاداري في الاردن الى خمسينات القرن الماضي ، حيث امر الدستور الاردني الصادر عام 1952 بانشاء محكمة عدل عليا. فقد نصت المادة (100) منه قبل التعديل عام 2011 على ما يلي " تعين أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامها واختصاصاتها وكيفية إدارتها بقانون خاص ، على أن ينص هذا القانون على إنشاء محكمة عدل عليا". وبمقتضى قانون تشكيل المحاكم النظامية لعام 1952، أضيفت لمحكمة التمييز الصفة الإدارية، فأصبحت هي محكمة القضاء الإداري في الأردن، وحددت اختصاصاتها في هذا المجال على سبيل الحصر في القانون رقم (26) لسنة 1952. ولعل هذا ما أدى إلى احتدام الجدل والخلاف حول وجود أو عدم وجود قضاء إداري في الأردن في هذه المرحلة[1]. واستمر هذا الحال حتى عام 1989 حيث انشئت لاول مرة محكمة قضاء اداري مستقلة عن القضاء النظامي باسم محكمة العدل العليا بموجب القانون المؤقت رقم ( 11 ) لسنة 1989، والذي اقره مجلس الامة بموجب القانون رقم ( 12 ) لسنة 1992. وكانت محكمة العدل العليا محكمة من درجة واحدة في ظل هذين القانونين باعتبارها محكمة القضاء الاداري الوحيدة واحكامها غير قابلة للطعن امام اي جهة اخرى.
مع بداية الحراك الشعبي في الشارع الاردني مع بزوغ فجر الربيع العربي وفي محاولة للاستجابة لمطالب الشارع ، تم فتح الباب امام تعديل جذري للدستور اسفر عن تعديل المادة (100) منه، بحيث اصبحت كما يلي "تعيَن أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامها وإختصاصاتها وكيفية إدارتها بقانون خاص على أن ينص هذا القانون على إنشاء قضاء إداري على درجتين". وسندا لهذا التعديل الدستوري، صدر قانون القضاء الاداري لسنة 2014 والذي اقره مجلس الامة وصادق عليه الملك في تموز 2014 اي قبل انتهاء المهلة الدستورية المحددة لانجاز التشريعات المرتبطة بالتعديلات الدستورية وفقا لما نصت عليه المادة (128) من الدستور بصيغته المعدلةوالتي تنتهي في تشرين اول 2014.
ومن خلال تحليل نصوص هذا القانون يتبين أنه قد تضمن العديد من الجوانب الايجابية بالمقارنة مع قوانين محكمة العدل العليا السابقة، إلا أنه لم يصل إلى ما هو مأمول ومنتظر لتطوير القضاء الإداري باعتبار هذا القضاء هو الحامي لحقوق وحريات الأفراد. ويمكن لنا أن نبدي الملاحظات التالية على مشروع القانون:
أولا: لقد أخذ القانون بالتقاضي على درجتين انسجاما مع التعديل الذي طرأ على المادة (100) من الدستور، حيث نصت المادة (3) من القانون على انشاء محكمتين للقضاء الاداري (المحكمة الادارية والمحكمة الادارية العليا). كما نصت المادة (25) من القانون على أنه "تختص المحكمة الادارية العليا بالنظر في الطعون التي ترفع اليها في جميع الاحكام النهائية الصادرة عن المحكمة الإدارية، وتنظر في الطعون من الناحيتين الموضوعية والقانونية". وهذا التعديل يشكل بلا شك أمرا محمودا بالمقارنة مع القانون السابق، حيث كانت محكمة العدل العليا هي محكمة أول وآخر درجة. إلا أن القانون اختزل الدرجة الأولى للتقاضي الإداري في صورة محكمة إدارية واحدة في عمان – ربما يكون موقعها في نفس المكان الذي توجد فيه المحكمة الإدارية العليا – وكان من الاجدر استثمار التعديل الدستوري بطريقة أفضل بحيث يتم إنشاء محاكم إدارية في الأقاليم الثلاثة على الأقل (الوسط والجنوب والشمال) كما كان مقترحا عند مباشرة العمل على اعداد مشروع قانون القضاء الإداري. فالحق الدستوري في اللجوء إلى القضاء المنصوص عليه في المادة (101) من الدستور بصورة حقيقية يتضمن ليس فقط حق المتقاضي في نظر شكواه على أكثر من درجة، ولكن أيضا حقه في أن يكون القاضي قريبا منه. ثم أن وجود محاكم إدارية في الأقاليم يجعل من الممكن الحديث عن اختصاص القضاء الإداري بالنظر في الطعون المتعلقة بنتائج الانتخابات البلدية وهو الاختصاص الذي لم يتضمنه مشروع القانون وأبقاه للمحاكم العادية تسهيلا على المواطنين بخلاف ما استقر عليه الأمر في العديد من دول العالم[2] .
ثانيا: اما بشأن الاختصاص فقد أعطى القانون– في المادة 5 منه – المحكمة الادارية صلاحية النظر في الطعون المتعلقة بجميع القرارات الادارية النهائية مع الإشارة إلى مجموعة منها على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، فجاء في مطلع المادة " تختص المحكمة الادارية دون غيرها بالنظر في جميع الطعون المتعلقة بالقرارات الادارية النهائية بما في ذلك : … ". وهذا التوسع في اختصاص القضاء الإداري أمر محمود أيضا، ولكنه لم يصل إلى مستوى الطموح من منح القضاء الإداري في الأردن الولاية العامة للنظر في جميع المنازعات الإدارية، كما هو الحال في مصر وفرنسا وغيرها من الدول. فما زالت إلى الآن منازعات العقود الإدارية وجزء كبير من المنازعات المتعلقة بالمسؤولية الإدارية (مسؤولية الدولة بالتعويض) خارج نطاق اختصاص القضاء الإداري.
ثالثا: لم يتطرق القانون إلى مسألة غاية في الأهمية وهي ضرورة وجود آلية معينة لاختيار وتأهيل قضاة متخصصين للنظر في المنازعات الإدارية، وخلال إطار زمني واضح يحدده القانون وتلتزم به الحكومة. وانما احال ذلك الى قانون استقلال القضاء، على الرغم من أن هذه المسألة تمثل حجر الاساس في تطوير القضاء الإداري، ويتوجب النص عليها في التشريع ذاته لضمان تنفيذها والالتزام بها. فلا أهمية لوجود قضاء إداري على درجتين، ولا أهمية لتوسيع إختصاص القضاء الإداري أو حتى الحديث عن ولاية عامة للقضاء الإداري ما لم يكن هناك – ولو بعد فترة من الزمن- قضاة مشبعون بروح القانون العام ومدركون لخصوصية وطبيعة المنازعات الإدارية، كما هو الحال في فرنسا ومصر والعديد من دول العالم. فإذا كان القاضي المدني يوصف عادة بأنه أسير الدعوى (أسير للنصوص القانونية ولبينات الخصوم)، فإن القاضي الإداري له دوما طبيعة مختلفة وتأهيل مختلف، إلى حد يوصف معه بأنه أمير الدعوى (قادر على تطبيق وأحيانا ابتداع المبادئ القانونية العامة التي تأخذ بعين الإعتبار المنطق والعدالة وتراعي في الوقت ذاته الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد). فقضاة محاكم القضاء الاداري في الاردن غير متخصصين في القانون الإداري، وغير مستقرين في عملهم كقضاة محاكم ادارية، وهم مشبعون بروح القانون الخاص، لأنهم امضوا جل خدمتهم القضائية يطبقون القانون الخاص على المنازعات التي ينظرون فيها، وهم ينظرون إلى الإفراد والإدارة نظرة متساوية ، خلافا للقاضي الإداري المتخصص الذي يرى بحكم تكوينه وفلسفته، إن الإدارة والتي تمثل الصالح العام، لا تتساوى واقعيا في خصومتها مع الأفراد. لان طرفي النزاع غير متكافئين، ونظرية الإثبات في القانون الإداري تختلف عنها في القانون المدني، لذا كان من الانسب ان يسن قانون خاص ينظم كافة المسائل المتعلقة بقضاة هذه المحكمة، من تعيينهم وترقيتهم ودرجاتهم. ولا بد من النص كذلك على عدم قابليتهم للنقل أو للعزل، لان مهمة القاضي الإداري أشبه ما تكون إبحارا في عين العاصفة واحتكاكه واختلافه مع السلطة التنفيذية هو أمر محتم ولا مفر منه[3].
رابعا: أبقى القانون على مسمى "النيابة العامة الإدارية"، ولم يستبدله بالمسمى المستخدم في الأنظمة القانونية الأخرى وهو (هيئة مفوضي الدولة أو هيئة القضايا)، بالرغم من الانتقادات الكثيرة لمنح النيابة العامة الإدارية صفة المدافع عن أشخاص القانون العام فالنيابة العامة الإدارية حاليا تقوم فقط بالدفاع عن أشخاص القانون العام، ولا تمارس أهم واجب من واجبات النيابة العامة الإدارية والمتمثل بالتحقيق الإداري مثلا.
خامسا: إن حصر القضاء الاداري بمحكمتين فقط درجة اولى ودرجة ثانية، وربما ستكونان في مبنى واحد، وبالضرورة سيتم التنسيق بين قضاة المحكمتين في بعض الامور والتي قد تصل الى حد الاتفاق مقدما على تصور قانوني لبعض الدعاوى لا سيما ذات الطابع العام والتى تحظى بمتابعة اعلامية وشعبية، مما سيفقد التقاضي على درجتين اهميته ويجعل من الطعن بقرار محكمة الدرجة الاولى اجراء شكليا. وهذا سيعيد للاذهان تجربة محكمة العدل العليا عندما كانت اول واخر درجة، فقد كان يتندر المحامون خاصة والأردنيون عامة بشأن محكمة العدل العليا،
نظرا لكثرة ردها للطعون، حتى أصبحوا يطلقون عليها محكمة الرد العليا, وكان رئيس المحكمة نفسه قد أفصح في وقت سابق بأن نسبة الرد لدى المحكمة تصل إلى 80% من الدعاوى المرفوعة أمامها، وذلك على الرغم من أن القضاء الإداري يوصف بأنه حامي حقوق وحريات الأفراد ، فإذا به يقف سدا منيعا أمام ممارسة هذه الحقوق والحريات من خلال إضفاء المشروعية على قرارات إدارية أثارت الكثير من علامات الاستفهام.
سادسا: حافظ المشرع في هذا القانون على تحصين أعمال السيادة[4] من الطعن بالالغاء او التعويض، مع أن هذه الأعمال رغم تبرير وجودها التاريخي، لا تزال تشكل وصمة عار في جبين مبدأ الشرعية.وقد دفع هذا الأمر مجلس الدولة الفرنسي الذي نشأت على يده هذه النظرية الى إعادة النظر بها والتخفيف من حدتها، وهو ما نأمله من قضائنا الاداري بحلته الجديدة.
سابعا: يسجل لهذا القانون أنه الغى الارتباط بين القضاة الاداريين ووزير العدل، والذي كان يفرضه القانون السابق لمحكمة العدل العليا. وكان بمقتضاه يملك وزير العدل انتداب اي قاض للعمل في محكمة التمييز او الاستئناف لمدة لا تزيد على ثلاثة شهور ويجوز تمديد هذه المدة بموافقة المجلس القضائي[5]، وهذا ما كان يشكل انتقاصا من استقلال القضاة وتبعيتهم بشكل او بآخر للوزير.
واخيرا يبقى التطبيق العملي هو المعيار الوحيد للحكم على جدوى تعدد درجات التقاضي الاداري من عدمه في كفالة حقوق وحريات الافراد في الأردن. وسيبدأ العمل بقانون القضاء الاداري بعد ستين يوما من نشره في الجريدة الرسمية وفقا للمادة الاولى من هذا القانون. ولعل ذلك من أجل اعطاء الوقت الكافي لتعيين القضاة وتشكيل هيئات المحاكم المنشأة بموجب هذا القانون.
[1]– د.حمدي القبيلات ، الوجيز في القضاء الاداري ، الطبعة الاولى ، عمان ، دار وائل للنشر ، 2011 ، ص 113 .
[2]د.محمد الخلايلة ، ملاحظات على مشروع قانون القضاء الاداري ، تاريخ 14 / 5 / 2014 ،
http://mobile.ammonnews.net/article.aspx?articleno=189503
[4]– للمزيد حول أعمال السيادة انظر د. حمدي القبيلات ، الوجيز في القضاء الإداري , الأولى , دار وائل للنشر , عمان، 2011 ، ص 69 .
[5]– المادة ( 7 / أ ) من قانون محكمة العدل العليا رقم 12 لسنة 1992 .