تتمثّل أهمّ المهامّ التي يتعيّن على ديوان المحاسبة القيام بها في تنظيم تقرير سنوي عن نتائج رقابته، إضافةً إلى ملاحظاته وإلى الإصلاحات التي يقترح إدخالها على مختلف القوانين والأنظمة التي يؤدّي تطبيقها إلى نتائجَ مالية، مقرونًا بتعليقات الجهات الخاضعة لرقابته عليه. ويكتسب التقرير السنوي أهمِّيته من شموليته وصدوره عن الجهاز الأعلى للرقابة، على نَحوٍ يفترض أن يُخوِّل المُواطن أداء دوره في مُساءَلة المسؤولين عن الموارد العامة، وهذا ما شدّد عليه إعلان مكسيكو بشأن الاستقلالية (INTOSAI P10) حيث جاء في مبدئه 12 أنّ الإعلان عن نتائج الرقابة (إعداد التقرير ونشره) مرحلة جوهرية في مسار المُساءَلة، وهو شرط للارتقاء بكفاءة الإدارة الحكومية ومُساءَلتها وفعاليتها وشفافيتها، عملًا بقرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة رقم 209A/66/.
وبالرغم من أهمِّية مهمّة الديوان هذه ومحوريّتها، يبقى قانون تنظيمه مُقِلًّا بشأن كيفيّة إعداده وإقراره. وهذا ما انعكس سلبًا على انتظام عمله في هذا الخصوص، على نحوٍ يكاد يُجرّد هذه التقارير من دورها المَرجُوّ في تفعيل الرقابة المُؤسَّساتية والاجتماعية؛ وهذا ما سنحاول تفصيله في هذا المقال.
التقارير سنوية أم مُناسَباتية؟
نشر ديوان المحاسبة تقريره الأوّل في مُلحَق العدد 18 من الجريدة الرسمية الصادرة في تاريخ 1952/4/30، وقد تضمّن دراسة للتشريع الخاص به الصادر في تاريخ 1951/1/16، مع مقارنته بالتشريعات المُماثِلة المُطبَّقة لدى الدول التي تملك دواوين محاسبة، مُقترِحًا إجراء تعديلات عليه. وعليه، كان التقرير المذكور عبارةً عن مجموعة اقتراحات أكثر منه تقريرًا سنويًّا. وفي 1965/11/27، رفع ديوان المحاسبة تقريره السنوي الأوّل الفعلي إلى رئيس الجمهورية، ليواصل من ثمّ إصدار تقاريره إلى حين اندلاع حرب 1975-1990. ولئن انقطع الديوان خلال الحرب عن إصدار تقاريره، فإنّ تقريره الأوّل من بعدها (1992) جاء بمثابة استعراض للصعوبات التي يواجهها الديوان نتيجة النزيف الحاصل في موارده البشرية بشكل خاص. وكان علينا أن ننتظر سنوات بعدئذٍ ليعاود إصدار تقاريره السنوية بصورة شبه مُنتظِمة، ولو مع شيء من التأخير ابتداءً من العام 1996 (حين أصدر تقريره السنوي عن العام 1995). وفيما بلغ الانتظام درجة عالية في الفترة المُمتدَّة بين العامَين 2001 و2005، فإنّه عاد ليتراجع إلى حدٍّ كبير بعد العام 2005، على إثر اندلاع الأزمة السياسية تبعًا لمقتل رئيس الحكومة رفيق الحريري، ليتعطّل تمامًا بعد العام 2016. وبالتدقيق في السنوات التي شملتها التقارير وتواريخ إصدارها، أمكن استخراج الخلاصات الآتية:
يتبيّن أنّ الديوان، بعد انتهاء الحرب في العام 1990، قد نشر 13 تقريرًا شملت 21 سنة من أصل 33 سنة، بمعنى أنه غطّى في تقاريره ثلثَي هذه الفترة فقط. ونلحظ توقُّف التقارير في 3 حقبات: الأولى في المُنتصف الأوّل من التسعينيات، حيث كان الديوان في طَور إعادة بناء قدراته وموارده؛ والثانية تمتدّ من العام 2016 حتّى 2019 (رئاسة أحمد حمدان)؛ والثالثة من العام 2020 حتّى الآن (رئاسة محمّد بدران)، وهي الحقبة التي بدأت بعد اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية. وكان عدد السنوات التي لم تُوضَع بشأنها أيّ تقارير ليكون أعلى لو لم يلجأ ديوان المحاسبة، مرّات عديدة، إلى استدراك التقاعس من خلال إصدار تقارير شملت خلاصة أعماله عن سنوات عدّة: وعليه، من أصل الـ 13 تقريرًا، 8 فقط شملت سنة واحدة، فيما أنّ اثنَين منها شملا سنتَين، و3 منها شملَت 3 سنوات. وقد عُيِّنَ أعضاء لجنة لصياغة تقرير سنوي في مُنتصف العام 2024 لاستدراك التأخير الحاصل في تنظيم التقارير السنوية، لكنّ اللجنة لم تباشر عملها، ويُخشى أن لا يحصل ذلك بفعل العدوان الإسرائيلي الذي ابتدأ منذ أواخر أيلول 2024.
نلحظ أيضًا، بالإضافة إلى عدم إصدار أيّ تقرير بشأن سنوات معيّنة، تفاوتًا كبيرًا في مواعيد إصدار التقارير. فمن مجموع 21 سنة شملتها تقارير الديوان، صدرت 3 منها فقط في غضون ستّة أشهر من انتهاء السنة المعنيّة، وصدرت 11 منها في غضون سنة من انتهاء السنة المعنيّة. في المقابل، صدر التقرير بشأن العام 2013 بعد أكثر من 4 سنوات من انتهائها (فقد صدر التقرير في العام 2018، وقد شمل الأعوام 2013 و2014 و2015). وارتفع متوسّط المدّة الفاصلة بين انتهاء السنة المعنيّة وإصدار تقرير بشأنها، وذلك من خلال رواج ممارسة إصدار تقارير لا تقتصر على السنة الواحدة، إنّما تشمل سنتَين أو ثلاثًا، كما سبق بيانه.
وإذ بلغتِ المدّة المتوسّطة الفاصلة بين انتهاء السنة المعنيّة وصدور التقرير بشأنها 19 شهرًا، يلحظ فارق كبير بين متوسّط مدّة إصدار التقارير بالنسبة إلى السنوات 1995-2005 والذي بلغ ما يقارب 10 أشهر، ومتوسّط مدّة إصدار التقارير بالنسبة إلى السنوات 2006-2015 والذي بلغ ما يقارب 30 شهرًا، أي 3 أضعاف. يشكّل هذا الرقم مُؤشِّرا بليغًا على التردّي الحاصل في أداء ديوان المحاسبة بعد العام 2005، أي في أعقاب نشوء الأزمة السياسية تبعًا لاغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. وقد سجّلنا خلال هذه الفترة شغور رئاسة الديوان بين عامَي 2006 و2010، وشغور رئاسات غرف الديوان بين عامَي 2006 و2019.
وفيما يلزم القانون الصمت بشأن تاريخ إصدار التقارير السنوية، وإن فرضَ حصولها سنويًّا، أفادنا قضاة استماعنا إليهم أنّه ليس لديوان المحاسبة نظام داخلي يُلزمه بأيّ مهلة في هذا الخصوص. وإذ أشارت بعض التقارير السنوية إلى حصول تأخير في إقرارها، فإنّها سجّلَت تبريرات مختلفة. فعلى سبيل المثال، عزا التقريران الصادران بشأن سنتَي 2003 و2004 التأخير إلى كمِّية ونوعية المهامّ التي يضطلع بها الديوان والتي تفوق جهازه البشري، بالإضافة إلى الإجراءات المُتعدّدة التي تسبق إقراره، علمًا أنّ هذَين التقريرَين صدرا في غضون 9 و11 شهرًا بعد انتهاء السنة المعنيّة، أي بما يصل إلى نصف المُتوسِّط العام لإصدار التقارير بالنسبة إلى فترة ما بعد الحرب. أمّا تقارير أخرى، كتقرير الأعوام 2006-2007-2008، فقد عزت التأخير إلى الشغور الحاصل في سدّة رئاسة الديوان ورئاسات الغرف، والذي حال دون اجتماع الهيئة العامة (وهي الجهاز المُخوَّل إقرار التقرير). إلّا أن هذه الحجّة غير مُقنِعة تمامًا، إذ إنّه يكون لرئيس الديوان بالإنابة، في حال شغور سدّة رئاسة الديوان، دعوة الهيئة العامة: وهذا ما حصل فعلًا في عامَي 2004 و2007 بهدف إقرار تقريرَي العامَين 2003 و2005. في المقابل، خَلَت تقارير أخرى من أيّة إشارة إلى حصول تأخير، وتاليًا من أيّ تبرير له، ومن بينها تقارير صدرت بعد أكثر من 4 سنوات بعد انتهاء السنة التي تشملها، كالتقرير الصادر في العام 2018 والذي شمل عام 2013 بالإضافة إلى عامَي 2014 و2015.
ويُخشى أن يؤدّي هذا التأخير إلى فقدان التقارير الوظيفة المَرجُوَّة منها، بحيث تصبح ملاحظات الديوان واقتراحاته للإدارات والمُؤسَّسات بشأن بعض المشاريع والمعاملات خارجةً عن سياقها، وبخاصّة في حال حصول تغييرات كبيرة في المُعطَيات القانونية والإدارية والمالية.
وما يُفاقم من خطورة التأخير تأخُّرُ الإدارات أصلًا في تزويد الديوان بالحسابات التي يجدر به ممارسة رقابته القضائية عليها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما ورد في التقرير الخاص في الأعوام 2013-2014-2015، حيث جاء أنّ الديوان أصدر قرارات قضائية ضمن رقابته على الحسابات لحسابات عائدة إلى بلديتَي الشيّاح والدكوانة، ومجلس الإنماء والإعمار، ومعهد باسل فليحان المالي، وهيئة أوجيرو، ووزارة الزراعة وغيرها، وهي حسابات تعود تباعًا إلى الأعوام 1991 و1992 و1993 و1995 و2003. وبفعل ذلك، لا نعود فقط أمام تقرير يصدر متأخّرًا بالنسبة إلى السنة التي يشملها، هذا إن صدر، إنّما نجد بين أيدينا تقريرًا يتضمّن ملاحظات على أداء الإدارة، لا في السنة التي يشملها، بل قبل سنوات من السنة المذكورة.
رئيس الديوان (في تاريخ إصدار التقرير)
تاريخ الصدور
السنة/ السنوات التي شملها التقرير
حسين حمدان
19/3/1993
1992
4/4/1996
1995
عفيف المقدّم
22/7/1998
1996-1997
7/6/1999
1998
رشيد حطيط
23/10/2001
1999- 2000
14/8/2002
2001
19/8/2003
2002
جوزيت طبراوي (بالإنابة)
28/9/2004
2003
رشيد حطيط
15/11/2005
2004
هدى عبد الله الحايك (بالإنابة)
24/1/2007
2005
عوني رمضان
3/8/2010
2006-2007-2008
11/11/2013
2010-2011-2012
أحمد حمدان
12/2/2018
2013-2014-2015
إعداد التقارير وإقرارها
لا يضع قانون تنظيم ديوان المحاسبة أيّة آليّة تحدّد كيفيّة إعداد التقارير السنوية، إذ إنّ جلّ ما ورد في القانون في هذا الشأن، كما سبق بيانه، أنّه يُنظَّم سنويًّا وتقرّه الهيئة العامة بعد الاستماع إلى المُدّعي العام.
وقد درجت العادة أن يتمّ إعداد التقارير من قبل لجنة مُكوَّنة من قضاة عدّة برئاسة رئيس الديوان. وفيما يَلزم القانون الصمت بشأن الجهة التي تتولّى تشكيل اللجنة، وتحديدًا إذا كانت مجلس الديوان أم رئيسه، فإنّ رئيس الديوان الحالي محمّد بدران عَيَّنَ، في مُنتصف هذه السنة، لجنة صياغة للتقرير السنوي من دون الرجوع إلى المجلس.
وبأيّة حال، يبقى دور رئيس الديوان محوريًّا في ظلّ غياب نظام داخلي يحدّد توزيع المهامّ داخل الديوان في هذا الشأن: إذ إنّه يتولّى مُراسَلة الجهات الخاضعة للرقابة للحصول على ملاحظاتها، ويدعو الهيئة العامة للديوان لإقرار التقرير. ومن شأن هذا الدور المحوري لرئيس الديوان أن يؤثّر حُكمًا على مدى انتظام التقارير وتواريخ إصدارها وفق ما تأكَّدَ أعلاه. ففيما انتظم إصدار التقارير في حقبتَي رئاسة عفيف المقدّم ورشيد حطيط، نلحظ، في المقابل، تراجُعًا كبيرًا في هذا الشأن في حقبة رؤساء الديوان في الفترة اللاحقة للعام 2005، وبخاصَّة بعدما درجت ممارسة إنجاز تقارير تشمل 3 سنوات. إلّا أنّ الديوان، وبالرغم من محورية هذا الدور، يبقى مُلزَمًا بإصدار تقرير سنوي، حتّى في حال شغور مركز رئاسته. وهذا ما قاد عمليًّا إلى إصدار التقريرَين الخاصَّين بعامَي 2003 و2005، كما سبق بيانه، وإن تخلَّفَ الديوان عن ذلك في سنوات شغور الرئاسة لاحقًا.
ومن اللافت أيضًا في هذا الصدد أنّ التقارير تخلو من أيّة معلومات حول اللجنة التي تولَّت صياغته، أو المنهجية التي اعتمدتها. كما أنّها لا تتضمّن أيّة إشارة إلى المُداولات الحاصلة ضمن الهيئات العامة للديوان، أو إلى أيّ آراء مُخالِفة، باستثناء ما ورد ذكره في التقرير الخاص بعام 1992 لجهة تدوين القاضي ديب راشد مخالفة من دون أن يُنشَر فحواها أو نصُّها.
فضلًا عن ذلك، وفيما لحظت التقارير التزام الديوان بإبلاغ الإدارات والهيئات المعنيّة ومنحها مهلة شهر لإبداء ملاحظاتها، وصولًا إلى نشرها مُرفَقة بالتقرير في حال ورودها، فإنّ التدقيق فيها يُظهِر أنّ هذه الإدارات والهيئات قلَّما تتفاعل إيجابًا أو سلبًا مع ملاحظات الديوان. فعلى سبيل المثال، يتبيّن من تقارير الأعوام 2002 و2003 و2004 أنّ رئاسة مجلس الوزراء (التي يتبع لها الديوان إداريًّا) لم تُرسِل أيّ جواب على ملاحظات الديوان بالنسبة إلى أيّ منها، وأنّ وزارة المالية لم تُرسِل أيّ جواب على هذه الملاحظات في عامَي 2002 و2004.
والأمر نفسه نجده في تقرير العام 2002، بحيث أُرسل التقرير إلى 13 هيئة وإدارة عامة ووزارة، ولم يصل ردٌّ إلّا من المعهد العالي للموسيقى حينها. ولذلك مُؤشِّرات سلبية عديدة، أوّلها أنّ رئاسة مجلس الوزراء لا تعير ملاحظات الديوان اهتمامًا، والثانية أنّ وزارة المالية المعنيّة بشكل رئيسي برقابة ديوان المحاسبة، لا تتفاعل معه، علمًا أنّه لم يَرِد في التقرير أيّ تبرير لعدم ورود هذه الردود.
في مضمون التقرير
التزمت مُجمَل التقارير عمومًا بما نصّت عليه المادّة 47 من تنظيم ديوان المحاسبة لجهة شموله نتائج رقابته كمِّيًا ونوعيًّا، والإصلاحات التي يقترح إدخالها على مختلف القوانين والأنظمة التي يؤدّي تطبيقها إلى نتائج مالية، ولو اختلف تبويبها والتوسُّع فيها بين تقريرٍ وآخر.
إلّا أنّ عددًا ليس بقليل من التقارير تعدّى التصوُّر المُحدَّد قانونًا، ليتناول الإشكاليّات الخاصة بالديوان وموارده. هذا ما نقرأه بشكل خاص في التقرير بشأن العام 1992، الذي جاء بمثابة توصيف لواقع الديوان ما بعد الحرب، والسبل الكفيلة لإعادة سَير عجلة العمل فيه. ومن أهمّ ما جاء في هذا الخصوص، الآتي: “أجل، ها هو (أي الديوان) يطلّ مُتخطِّيًا كلّ العقبات والصعاب، الخارجية منها والداخلية على حدّ سواء. فإلى جانب رواسب الظروف الاستثنائية في فترة ما بعد الحرب التي كان لها التأثير السلبي الواضح على الأداء الإداري والمالي لأسباب عدّة، هناك أيضًا إلى جانب ذلك – النقص الهائل في إمكانات الديوان البشرية. فملاك الديوان الذي كان معمولًا به منذ عام 1959 كان يلحظ 12 قاضيًا و35 مراقبًا و24 مُوظَّفًا إداريًّا بات يقتصر فعليًّا على عدد ضئيل في كلّ الملاكات المذكورة، بفعل استقالة البعض وإحالة البعض الآخر على التقاعد”.
وقد نَحَت التقارير الخاصة بالأعوام 1995-1998 المنحى نفسه، بحيث تناولت كلها مسألة الشغور الحاصل في ملاك الديوان، وضرورة سدّ الفراغات فيه حتّى يتمكّن من تأدية واجباته بشكل تام. وقد اقترن التنبيه لخطورة الشغور مع إجراءات عمليّة لملء المراكز الشاغرة، بدليل تنظيم مباريات عدّة في هذه الفترة، لهذه الغاية. في المقابل، تراجع هذا التوجُّه في ما بعد، وتحديدًا في التقارير الثلاثية الثلاثة (المُتَّصلة بالأعوام 2006-2015)، بالرغم من تحوُّل مشكلة الشغور إلى مشكلة برلمانية ابتداءً من العام 2012، فضلًا عن حصول شغور في رئاسة الديوان ورئاسات غرفه، بحيث يخال القارئ عند تصفُّح هذه التقارير أنّ الديوان لا يواجه أيّ إشكال في تنظيمه أو في موارده.
على صعيد آخر، يلحظ أنّ الديوان لا يكتفي بإبداء ملاحظات تقنية، إنّما يعمد إلى مناقشة الوزارات، وبخاصّة وزارة المالية، في السياسات العامة المالية والضريبية التي تعتمدها. وقد برز في تقرير الأعوام 2006-2007-2008، على سبيل المثال، نقاشٌ بين الديوان ووزارة المالية حول تركُّز الكتلة الضريبية ضمن الضرائب غير المباشرة، ومدى إخلال هذا التركُّز في العدالة الضريبية. كما حذَّرَ الديوان في التقرير نفسه حيال غلبة الإنفاق الجاري (90%) على الموازنة مقابل نسبة 10% فقط مُخصَّصة للإنفاق الاستثماري.
إلا أنّه يبقى لافتًا أنّ الديوان لم يحذِّر في أيٍّ من تقاريره الصادرة بعد العام 2005 من استمرار المُخالفات الدستورية المُتمثِّلة في تخلُّف السلطة السياسية عن إقرار موازنات عامة عن أيّ من الأعوام 2006-2016، وفي تأبيد العمل في القاعدة الاثنتَي عشرية. لا بل إنّ الديوان أبدى تطبيعًا مع هذه المخالفات، حين أكَّدَ في تقريره الثلاثي عن الأعوام 2006-2008 أنّ ملاحظاته على تنفيذ الموازنة لن تختلف عن الملاحظات التي دونها في تقريره السنوي بشأن العام 2004، طالما أنّه لم يتمّ إقرار موازنات عامة بشأن هذه السنوات، وأنّه يستمرّ العمل بالقاعدة الاثنتَي عشرية. كما لم تتضمّن أيّ من هذه التقارير اعتراضًا على تأخُّر وزارة المالية أو سواها من الإدارات عن إرسال أوامر المهمّة.
تقديم التقارير ونشرها
بعد إقرار التقرير السنوي في الهيئة العامة، يفرض قانون تنظيم ديوان المحاسبة تقديمه من قبل رئيس الديوان إلى سلطات سياسية، وتحديدًا رئيس الجمهورية ومجلس النوّاب، ليُوزَّع على أعضائه. ويلزم القانون، تبعًا لذلك، لجنةَ المال والموازنة البرلمانية، وسائر اللجان المُختَصَّة، تخصيص جلسات للاستماع إلى رئيس الديوان أو مَن ينتدبه، وعند الاقتضاء إلى مُمثِّلي الإدارات العامة والهيئات المُختَصَّة عند درس التقرير لإبداء الإيضاحات اللازمة.
وفي الاتِّجاه نفسه، يفرض القانون تقديم التقرير إلى هيئات رقابية أخرى (مجلس الخدمة المدنية وإدارة التفتيش المركزي)، وهو الأمر الذي يُفهَم منه أنّه دعوة إلى هذَين الجهازَين للتفاعل مع توصيات ديوان المُحاسبة وملاحظاته، واتِّخاذ التدابير اللازمة بما يتّصل بالإدارات التي يشتركان مع ديوان المحاسبة في مراقبتها.
والجدير ذكره هنا أنّ إلزام ديوان المحاسبة تقديمَ تقريره إلى هذه المرجعيات والأجهزة ليس إجراءً شكليًّا، إنّما يُستشَفّ منه إرادة تشريعية في ضمان مُتابعة توصيات الديوان، والأهمّ تحقيق تكامُلٍ في أعمال الرقابة بين ديوان المحاسبة ومجلس النوّاب من جهة (وتحديدًا لجنة المال والموازنة)، وبين الديوان وأجهزة الرقابة الأخرى. ومن هذه الزاوية، لا يُسأل القيِّمون على الديوان وحدهم عن التقاعس في تنظيم التقارير وعدم انتظامها، إنّما تلك المراجع أيضًا (وبخاصّة لجنة المال والموازنة) التي لم تُسجِّل أيّ مسعًى لحثّ الديوان على القيام بمهامّه في هذا الخصوص.
ولا يكتفي قانون تنظيم الديوان بالتأكيد على وجوب تقديم التقرير إلى المراجع والأجهزة المذكورة، بل يؤكِّد حقّ العامة بالاطِّلاع عليه، وذلك من خلال فرض نشر التقارير في الجريدة الرسمية. ويُفهَم من ذلك أن المُشرِّع أراد أن يشكّل تقرير الديوان، في الوقت عينه، أداةَ عملٍ للمراجع السياسية وأجهزة الرقابة، وكذلك للرقابة المواطنية على أداء مُؤسَّسات الدولة كافّة، وذلك في انسجام مع المبدأ 12 من إعلان مكسيكو، والذي ينصّ على أنّه “ما إن يتمّ الإعلان عن نتائج الرقابة التي يقوم بها الجهاز الأعلى للرقابة، حتّى يكون المواطن مُخوَّلًا بمساءَلة المسؤولين عن الموارد العامة”، وهو الأمر الذي يجعل من ديوان المحاسبة أحد المُكوِّنات الضرورية في أيّ نظام ديمقراطي، حيث تُشكِّل المُساءَلة والشفافية والنزاهة أجزاء لا غنًى عنها في أيّة ديمقراطية مُستقِرّة. لكن هنا أيضًا، وعدا عمّا يسبّبه التأخُّر في إعداد التقارير وعدم انتظامها من إخلال بحقوق المواطنين في الاطّلاع عليها، يتفاقم هذا الإخلال بفعل التأخُّر في النشر في الجريدة الرسمية، أو حتّى الامتناع عن ذلك. وهذا ما نسجّله مثلًا بشأن تقرير عامَي 1996 و1997 الذي لم يُنشَر في الجريدة الرسمية إلّا في تاريخ 1999/1/29، بالرغم من إقراره من قبل الهيئة العامة للديوان في تاريخ 1998/7/22. كذلك نسجّل أنّ بعض التقارير لم تُنشَر قطّ في الجريدة الرسمية، وهي حال التقريرَين الثلاثيَّين عن الأعوام 2010-2012 و2013-2015.
هذا ما أمكن قوله بشأن التقارير السنوية.
نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.