“للديوان، كلّما رأى لزومًا، أن يرفع إلى رئيس الجمهورية أو إلى رئيس مجلس الوزراء أو إلى الإدارات العامة والهيئات المعنيّة تقارير خاصة بمواضيع معيّنة واقتراحات ملائمة لها” (المادّة 52 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة). وقد صنّف قانون تنظيم ديوان المحاسبة هذه الرقابة ضمن آليّات الرقابة الإدارية اللاحقة. وفيما خلَت التقارير السنوية الصادرة خلال العقود الأخيرة من أيّ إشارة إلى تنظيم الديوان تقاريرَ خاصة، من اللافت أنّه أنجز، في السنوات الأخيرة، عددًا مهمًّا منها، كان لها وقعٌ في الرأي العام[1]. وقد بدا واضحًا أنّ تطوُّر هذه الممارسة تمّ بدفعٍ من رئيس الديوان محمّد بدران الذي أكّد سعيه إلى تعزيز الرقابة اللاحقة للديوان، في موازاة العمل على التخفيف من عبء الرقابة المُسبَقة التي تثقل كاهله. وقد هدفت بعض هذه التقارير إلى الإضاءة على الإشكاليات الأساسية التي يعاني منها مرفق أو قطاع كامل (خير مثال على ذلك: تقرير حول قطاع الاتّصالات رقم 2/2022).
إلّا أنّ قانون تنظيم الديوان، وعلى الرغم من الأهمِّية الفائقة لهذه الرقابة، أغفل عن تنظيم كيفيّة المبادرة إلى تفعيلها، أو كيفيّة إعداد التقارير أو إقرارها أو متابعة تنفيذ توصياتها. وإذ أدّى عدم تنظيمها إلى استنسابيةٍ وارتجالٍ في ممارستها، فإنّه انعكس على مضمون التقارير أيضًا، وبخاصة لجهة التداخُل بين الرقابة الإدارية والرقابة القضائية، وفق ما نبيّنه أدناه.
التقارير الخاصة: الرقابة غير المُنظَّمة
كما سبق بيانه، فإنّ أوّل ما نلحظه هو خُلوّ قانون تنظيم ديوان المحاسبة من أيّ تنظيم لكيفيّة تفعيل هذه الرقابة، بحيث ترك للديوان ممارستها كلّما رأى ذلك مناسبًا، لكن من دون تحديد الجهة المُخوَّلة المبادرة لتفعيل هذه الآليّة، أو المعايير المُعتمَدة في اختيار القطاعات أو الإدارات أو الأعمال الإدارية التي سيشملها التقرير الخاص، أو حتّى الهيئة التي تتولّى إعداد التقرير أو إقراره داخل الديوان، أو تتولّى متابعة توصياته؛ ذلك أنّ القانون اكتفى بتخويل الديوان رفع التقرير إلى رئيس الجمهورية، أو الحكومة، أو الإدارة المعنيّة مُرفَقًا بما خَلُصَ إليه فيه من توصيات.
وبالتدقيق في كيفيّة ممارسة هذه الرقابة، أمكن القول إنّه سادها كثير من الاستنسابية والارتجال وفق ما نبيّنه أدناه:
أوّلًا، تمّ اللجوء إليها بمبادرات من رئيس الديوان أو من رئيس إحدى غرفه، من دون أن تترافق مع أيّة خطّة أو أن تسبقها بَرمَجَة مُتَّفَق عليها على صعيد الهيئة العامة للديوان أو مجلسه. بمعنى أنّ التبرير الوحيد لتنظيم تقارير خاصة لا نجده في أيّ وثيقة تُرتِّب أولويّات العمل على صعيد الديوان، إنّما نجده فقط، وفي أحسن الأحوال، في مقدّمة هذه التقارير وفي معرض توضيح المُحفِّزات والمُبرِّرات لوضعها. فمثًلا، نقرأ في مقدّمة التقرير الخاص بشأن قطاع الاتّصالات رقم 2/2022 أنّه “نظرًا لأهمِّية قطاع الاتّصالات كمصدر تمويل للخزينة ولخفض الدَين العام وكونه من أهمّ بنود أجندة الإصلاح، رأى ديوان المحاسبة تنظيم تقرير خاص يتناول هذا الموضوع”. وكذلك نقرأ في مقدّمة التقرير الخاص بشأن فحوص PCR رقم 1/2022 أنّ “ديوان المحاسبة، وبعد ما أُثير حول مصير الأموال الناتجة عن إجراء فحوصات الـ PCR في مطار بيروت وعلى المعابر الحدودية البرِّية، رأى ضرورة معالجة هذا الموضوع من خلال إصدار تقرير خاص يسلّط الضوء على مكامن الخلل في الاتّفاقيات المُبرَمة”.
ولئن تبيّن هذه التقارير المُبرِّرات الداعية إلى تنظيم كلّ منها، فإنّها، في المقابل، لا تفسّر قطّ المعايير المُعتمَدة في تحديد الأولويّات الرقابية للديوان، وتاليًا في تبدية الرقابة على هذا القطاع على الرقابة على قطاعٍ آخر. ولئن يُسجّل إيجابًا وضع الديوان يده على مسائل أو مواضيع أثارت جدلًا واسعًا في الرأي العام (مثل الاتّصالات أو فحوص PCR)، فإنّ ابتعاده، في المقابل، عن المسائل والمواضيع التي أزهقت أموالًا طائلة وسط علامات استفهام كبرى (كما في سياسات الدعم في الأعوام 2019-2021) يبقى لافتًا. وعليه، وبفعل غياب أيّ معايير موضوعية أو آليّة واضحة لتحديد الأولويّات التي تستوجب وضع تقارير خاصة، تبقى تقارير الديوان عرضةً لأسئلة بشأن نوايا استهداف أو حسابات سياسية أو استنسابية وانتقائية.
في السياق نفسه، يُسجَّل أنّ الديوان بادر في بعض الحالات إلى وضع تقارير خاصة استجابةً لطلبات وردَته من نائب أو أكثر، مثال على ذلك التقرير الخاص رقم 1/2024 الذي نظّمه حول صفقة الـ A2P، بناءً على الإخبار الذي قدّمه النائبان ياسين ياسين وابراهيم الموسوي.
ثانيًا، لئن يلزم القانون الصمت بشأن الجهة التي تتولّى إعداد التقارير الخاصة، فإنّه يتبيّن أنّ مُجمَل التقارير الخاصة التي وُضِعَت في السنوات الأخيرة قد تولّت إعدادها إحدى غرف الديوان. الأمر نفسه بشأن إقرار هذه التقارير، حيث تولّت الغرف التي أعدّتها مهمّة إقرارها، من دون أن يكون للهيئة العامة أو لمجلس الديوان أيّ دور في هذا الخصوص. وفيما أُعِدَّت التقارير عمومًا عن الغرفة المُختَصَّة وفق قرار توزيع الأعمال، رصدنا استثناءً عن ذلك يتّصل بإصدار التقرير الخاص رقم 2/2022 حول قطاع الاتّصالات، بحيث صدر التقرير عن الغرفة الرابعة من دون أن يدخل قطاع الاتّصالات ضمن اختصاص أيٍّ من قضاتها.
لا بل أكثر من ذلك، ومن الناحية العملية، يصدر التقرير بعد إنجازه من إحدى غرف الديوان، بموافقة من رئيس الديوان الذي يتولّى إبلاغه للجهات المعنيّة. ومن شأن هذا الأمر أن يُولي رئيس الديوان سلطةً إضافية في إصدار التقارير الخاصة أو عدم إصدارها، على نحوٍ يعزّز من مخاطر الشخصنة والاستنسابية. ويتعارض هذا الأمر عمومًا مع الممارسات الدولية الفُضلى، والتي تتمثّل في إقرار هذه التقارير من قبل الهيئات العامة لأجهزة الرقابة العليا.
ثالثًا، على صعيد مآلات وضع التقارير الخاصة، تُركَ للديوان، بناءً على قانون تنظيمه، رفعه إلى أيٍّ من الجهات التي اختارها، علمًا أنّه نَصَّ صراحةً على بعضها، وهي تحديدًا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أو أيّ من الإدارات العامة أو الإدارات المعنيّة بالتقرير.
ولئن لزم القانون الصمت بشأن كيفيّة متابعة توصيات هذه التقارير ومُقترَحاتها، رُصِدَ عقد عدد من الجلسات لدى لجنة المال والموازنة لمناقشة تقارير خاصة بحضور الوزراء المعنيّين، نخصّ بالذكر منها تقرير أزمة فقدان الطوابع، والذي ناقشته اللجنة في تاريخ 2024/5/23.
وبما لا يقلّ أهمِّية عن ذلك، رصدت المفكّرة القانونية مُؤخَّرًا قيام الديوان باستيضاح إحدى الشركات التي تملكها الدولة (تاتش) عن الإجراءات التي اتَّخَذَتها في معرض تنفيذ توصياته الواردة في أحد تقاريره الخاصة. وقد أشارت المفكّرة، في تعليقها على ذلك، إلى أنّ هذه المراسلة تشكّل خطوةً مهمّة على طريق انتقال الديوان من التوصيات والقرارات والتقارير إلى متابعة مدى تقيُّد الجهات المعنيّة بتنفيذ توصياته، بحيث يُسهِم عمل الديوان في وقف الصفقات المخالفة للقانون، كما في الحثّ على إنجاز الصفقات المفيدة للدولة وفق القانون.
وبالرغم من انعدام أيّ تنظيم لآليّة الرقابة هذه على النحو الذي تقدَّم، اكتفى مشروع القانون الذي أحالَته الحكومة إلى المجلس النيابي في العام 2012، ووافقت عليه لجنة الإدارة والعدل في العام 2021، وما يزال عالقا في أدراج لجنة المال والموازنة، بأن مَنَحَ المجلس النيابي أو رئيسه أو إحدى لجانه، أو مجلس الوزراء أو رئيسه، إمكانيّة مُطالَبة الديوان بوضع تقارير خاصة من دون أن يكون مُلزَمًا بذلك. في المقابل، لم يضِف مشروع القانون المذكور أيَّ جديد بخصوص وجوب بَرمَجَة إصدار هذه التقارير، أو تحديد الهيئات التي تُشرِف على إعدادها أو إقرارها، أو تحديد كيفيّة تفعيل مُقترَحاتها ومتابعتها.
وقد ذهب في الاتِّجاه نفسه اقتراح قانون قدَّمه نوّاب عدّة في تاريخ 2023/9/18، وانتهى إلى منح النوّاب الحقّ في الطلب من ديوان المحاسبة النظر في مخالفة معيّنة تقع ضمن اختصاصه، إضافةً إلى صلاحية الديوان بالنظر في المخالفة عفوًا أو بناءً على طلب النائب العام لديه.
وفي الواقع، تبقى هذه المُقترَحات منقوصةً طالما أنّها تفتح بابًا واسعًا أمام مراجع سياسية عدّة للمُطالبة بوضع تقارير خاصة، من دون وضع أيّ معايير للنظر في مدى ملاءمة الاستجابة لهذه الطلبات، والأهمّ من دون وضع أيّة معايير موضوعية لهذه الغاية أو لضمان اندراج هذه التقارير ضمن خطّة رقابية هادفة ومتكاملة. فعدا عن أنّ من شأن فرض البَرمَجَة وتحديد الأولويّات أن يحصَّن الديوان إزاء الانتقادات الرائجة بالتسييس والاستهداف، فإنّ من شأنه أيضًا أن يضمن للديوان إمكانيّة الإضاءة على الوجهة التي يتعيّن على الإدارات السير فيها لإصلاح شؤونها، من دون الاكتفاء بردود الأفعال على ما قد يُثار من أسئلة بشأن هذه الصفقة أو تلك.
مضمون التقارير الخاصة: إشكالات حسن إدارة أم مسؤوليّات فردية؟
لا مُتَّسَع في عملنا هذا للخوض في مضامين التقارير الخاصة، لذا سنكتفي بلفت النظر إلى مسألتَين:
الأولى تكمن في اعتبار الديوان أنّ من شأن إعمال هذه الرقابة أن يعوّضه عن محدودية رقابته المُسبَقة، والتي تبقى رقابة على قانونية المعاملات، من دون إمكانيّة النظر في مدى ملاءمتها. وعليه، تمّ رصد تقرير خاص خَلُصَ فيه الديوان إلى خَلَل إداري جسيم في تعاقد إحدى شركتَي الخليوي (تاتش) مع شركة مُورِّدة، بعدما كان قد منح المُوافَقة المُسبَقة لهذه الشركة من قبل. وقد خَلُص إلى هذه النتيجة بعدما قارن العقد المُبرَم من هذه الشركة بالعقد المُبرَم مع شركة خليوي مُماثِلة “ألفا”. يبقى أنّ هذه الرقابة التقنية أو العملية على الجودة والأداء تتطلّب التحاق اختصاصيّين فنِّيين لدى الديوان، كمهندسين وأطبّاء واختصاصيين في مختلف المجالات. وهذا ما سعى مشروع القانون الذي أحاَلته الحكومة في العام 2012 إلى تصحيحه. فعدا عن أنّه وسّع من نطاق الرقابة الإدارية اللاحقة (مادّة 49) بحيث تشمل: “تقييم أداء البرامج بهدف التحقُّق من جدوى الإنفاق واستخدام الموارد المالية المُتوفّرة لبلوغ الأهداف والنتائج المطلوبة وفق معايير الاقتصاد والكفاءة والفعالية”، فإنّه عمد أيضًا إلى توسيع ملاك الديوان ليشمل فنِّيين.
أمّا المسألة الثانية التي يجدر التوقُّف عندها، فتتمثّل في تخصيص بعض التقارير للبحث في مسؤوليّات فردية، إلى جانب بحثها في حسن إدارة الشؤون العامة، على نَحوٍ يكاد يحوّلها إلى ما يشبه مَضبطة اتّهام جاهزة بحقّ أشخاص بعينهم. وعليه، تبدو هذه التقارير أقرب إلى تحقيقات قضائية منه إلى إعمال رقابة إدارية. وخير دليل على ذلك هو أنّ بعض غرف ديوان المحاسبة استخدمت تقارير صادرة عنها لتتَّخذ على أساسها قرارات مُؤقَّتة بحقّ مُوظَّفين، وذلك في سياق ممارسة رقابتها القضائية، مُعتبِرةً التقارير الخاصة، بكامل محتواها، جزءًا لا يتجزّأ من هذه القرارات. المثال الأبرز على ذلك هو الاستخدام الحاصل للتقارير الخاصة بشأن مباني تاتش في القرارات المُؤقَّتة الصادرة في تاريخ 2023/5/4 بحقّ وزراء الاتّصالات المُتعاقِبين. تستدعي هذه المسألة، في الواقع، مزيدًا من التدقيق لجهة مدى مُلاءَمة تطبيق الإجراءات المُعتمَدة في الرقابة الإدارية في إنجاز تقارير تترتّب عليها مسؤوليّات فريدة، والأهمّ مدى انسجامها مع شروط المحاكمة العادلة؛ وهذا ما سوف ندرسه في إطار مبادئ المحاكمات العادلة.
في المقابل، يُسجَّل أنّ ديوان المحاسبة آثر، بالرغم من الإخبار الذي وَرَدَه باحتمال استيلاء على مبالغ مالية مُستحَقَّة للجامعة اللبنانية بشأن فحوص الـ PCR، تنظيمَ تقرير خاص من دون اتِّخاذ أيّ إجراء قضائي، بالرغم من التثبُّت من أرجحيّة الاستيلاء؛ فكأنّ تنظيم التقرير الخاص جاء بمثابة نوعٍ من التسوية تُسلِّح الجامعة لاسترداد حقوقها من دون إنزال عقوبات بحقّ الجهات المُتورِّطة في الاستيلاء على أموالها.
هذا ما أمكن قوله بشأن التقارير الخاصة.
نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”
لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF
[1]
- التقرير رقم 1/2020 حول تنفيذ خطّة النقل الحضري في بيروت الكبرى.
- التقرير رقم 1/2022 الصادر في تاريخ 2022/3/3 حول مصير أموال فحوصات الـ PCR في المعابر الحدودية البرِّية والجوِّية.
- التقرير رقم 2/2022 الصادر في تاريخ 2022/4/5 حول قطاع الاتّصالات والهدر الحاصل فيه، وقد استتبعه بتقرير خاص حول صفقة استئجار وشراء مبنى MIC 2 “تاتش” في وسط بيروت.
- التقرير رقم 1/2024 الصادر في تاريخ 2024/1/16 حول تلزيم وزارة الاتّصالات وشركة MIC2 لخدمة الرسائل النصِّية A2P.
- التقرير الصادر في تاريخ 2024/5/15 حول أزمة فقدان الطوابع المالية.