أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية في 30/9/2024، قرارا برفض الطلب المقدّم من مركز “عدالة” الحقوقي للإفراج عن جثمان الأسير وليد الدقة عملا بحق ذويه برثائه ودفنه. وكان الدقة قد حكم بالسجن المؤبد لاشتراكه في عملية خطف وقتل جندي إسرائيلي نفذتها “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في سنة 1984، وتوفي في السجن في 7 نيسان الماضي تبعا لصراع طويل مع المرض وبعدما قضى 38 سنة في السجون الإسرائيلية. وقد أمرت النيابة العامة باحتجاز جثمانه تنفيذاً لقرار مجلس الوزارء الإسرائيلي باحتجاز جثامين 7 فلسطينيين، بعضهم حائز على الجنسية الإسرائيلية من فلسطينيي الداخل، كما هي حالة الدقة. فضلا عن ذلك، امتنعت مصلحة السجون عن تسليم العائلة شهادة وفاة، واعتدت القوى الأمنية على خيمة عزاء الشهيد، مفرقة الحضور ومعتقلة بعضهم.[1]
وقد بررت المحكمة العليا قرارها بأن “تحرير جثمان وليد دقة، ودفنه في بلدة باقة الغربية (بلدته)، سيكون احتفالا بالنسبة للمواطنين العرب داخل إسرائيل وخارجها، وسيشجّع على الأعمال العدائية والإرهابية”. كما تذرّعت بأن “قرار وزير أمن الاحتلال “متوازن” و”معقول” ولا يمكن للمحكمة التدخّل فيه”، وذلك على ضوء قانون أساس القومية الذي ينصّ على “واجب الدولة بالحفاظ على حياة اليهود”. وقد أضافت المحكمة حجّة ثانية تماشيا مع روحيّة القانون نفسه قوامها أن من شأن “احتجاز جثمان دقة” أن يمهّد بالنظر إلى رمزيته لدى الفلسطينيين ل “مبادلته بجثث إسرائيليين”.
وقبل المضي في إبداء الملاحظات على هذا القرار، تجدر الإشارة إلى أننا نستند في هذا المقال إلى المعطيات المتاحة لنا من خلال المواقع الفلسطينية المتحدّثة بالعربية، تحديداً موقعي “عدالة” و”عرب 48″، حيث تعذر الحصول على ترجمة لقرار المحكمة المنشور باللغة العبرية.
التطبيق الأول لقانون يهودية الدولة
أول ما نلحظه أنّ المحكمة العليا استندت في سياق البت في هذه القضية للمرة الأولى على قانون أساس القومية، والذي كان أقره الكنيست في 19 تموز 2018. ومؤدى ذلك هو إدخال تمييز في الحقوق بين العرب الحائزين على الجنسية الإسرائيلية (وهي حال الدقة وذويه) واليهود الحائزين عليها، بعدما اعتبر أن هذا القانون يفرض على الدولة حماية حياة اليهود، مما يبرر منع تأبين جثة الدقة لما قد يشجعه من أعمال عدائية ضد الإسرائيليين ويبرر رهن جثة الدقة بغية استبدالها بجثث إسرائيليين. وهذا ما شدّد عليه الحقوقي حسن جبارّين، مدير مركز “عدالة” في مقابلة مع موقع “عرب 48″، مشيرا إلى المحكمة العليا وبعض أعضائها مثل القاضي يتسحاك عميت كانوا اتخذوا من قبل مواقف واضحة قوامها أن “قانون أساس القومية لا يغيّر القوانين الأخرى طالما أنه هو قانون تصريحي فقط”.
ومن هذه الزاوية، يؤكد القرار على المخاوف من تحول هذا القانون إلى أداة لتعميم التمييز العنصري ضد المواطنين العرب في إسرائيل في مجمل المجالات، وحتى ولو لم يكن هنالك قانون ناظم لها.[2] وهذه هي تماما حالة الاحتفاظ بجثامين الأسرى أو الشهداء الفلسطينيين والذي قررته الحكومة الإسرائيلية على أساس روحية هذا القانون بغياب أي قانون آخر يسمح لها بذلك.[3]
التحوّل الحاصل في عقيدة المحكمة العليا بعد 7 أكتوبر
فضلا عما تقدم، يعكس هذا القرار انعطافة هامة على عقيدة المحكمة العليا بعد 7 أكتوبر 2023. وهذا ما أشار إليه الحقوقي حسن جبارين في مقابلته مع موقع 48، مؤكدا أن المحكمة العليا كانت ذهبت في اتجاه معاكس تماما في 2017 حين قضت بوجوب تسليم جثامين لثلاثة أسرى فلسطينيين. ويؤكّد جبّارين أنّ ما دفع المحكمة إلى تغيير اجتهادها ليس القانون والقضاء، إنّما تماهيها المستجدّ مع طلبات النيابة العامة، والتي باتت تتماهى بدورها مع القرارات العنصرية الصادرة عن مجلس الوزراء. وهو يستشف موقف المحكمة المذكور من كونها كانت تعتبر أن قانون أساس القومية تصريحي ليس من شأنه إنشاء أي أوضاع قانونية جديدة، وفق ما سبق بيانه، وأنها لم تغير موقفها إلا بموجب هذا القرار.
التمييز العرقي
أخيرا، يرشح القرار بشكل واضح عن اجتهادات تكرس التمييز العرقي. وهذا ما نستشفه من الحيثيّتين اللتين استند عليهما.
وبالفعل، أن تجد المحكمة أن الاحتفاظ بالجثة يجد تبريرا متناسبا ومعقولا بإمكانية استبدالها بجثث جنود إسرائيليين (نفهم يهود إسرائيليين) يعني أن المحكمة لا تمنح ذوي الدقة نفس الحقوق التي تمنحها لذوي الجنود الإسرائيليين رغم كونهم كلهم يحملون الجنسية الإسرائيلية، بل لا ترى أي حرج في تحويل حقوق ذوي الدقة إلى مادة للمساومة من أجل تأمين حقوق الجنود الإسرائيليين التي هي تبقى حقوقا مكتسبة يقتضي على الدولة بذل كل ما أمكنها لضمانها فعليا.
الأمر نفسه بشأن اعتبار الاحتفاظ بالجثة مبررا بصورة معقولة ومتناسبة بالمخاطر التي قد تتولد عن تشييعه أو تأبينه على حياة اليهود، طالما أن هذه المخاطر تبقى افتراضية وغير مباشرة وأنه يبقى بالإمكان الحدّ من هذه المخاطر (على فرض ثبوتها) من خلال اتخاذ تدابير أقل كلفة وتعدّيا على حقوق ذوي الدقة. إلا أن المحكمة قررت أن تتجاهل كل ذلك وأن تتماهى مع النيابة العامة والحكومة.
وقد بدت المحكمة من خلال قرارها وكأنها ترسي المعادلة الآتية: لا حقّ لأيّ عربي حائز على الجنسية الإسرائيلية إذا كان من شأن التمتع بهذا الحقّ فعليا أن يؤثر ولو بصورة افتراضية على حقوق اليهود الإسرائيليين أو إذا كان هذا الحق قابلا للمساومة من أجل تحسين حقوق هؤلاء. من هذه الزاوية، يشكل القرار دليلا على عنصرية إسرائيل تُضاف إلى كل ما كانت محكمة العدل الدوليّة وثقتْه في رأيها الاستشاري بشأن الاحتلال الإسرائيلي.
[1] العليا الإسرائيلية ترد على الالتماس المطالب بتحرير جثمان الأسير وليد الدقة، موقع “عرب 48″، 30/9/2024
[2] قانون أساس – القومية، موقع “عدالة”، 2/8/2018
[3] العليا الإسرائيلية ترد على الالتماس المطالب بتحرير جثمان الأسير وليد الدقة، موقع “عرب 48″، 30/9/2024