“التعهد” أو حين يساوم الأمن المواطنين على حرياتهم: ملاحظات بشأن وقف أعمال مؤتمر حقوقي في لبنان


2018-10-06    |   

“التعهد” أو حين يساوم الأمن المواطنين على حرياتهم: ملاحظات بشأن وقف أعمال مؤتمر حقوقي في لبنان

لعبة حمل المواطنين على التعهد بالتنازل عن حرية عامة تستمرّ فصولا. آخرها زيارة عاجلة قام بها عناصر من الأمن العام لمطالبة المنظمة العربية للحرية والمساواة بوقف المؤتمر الإقليمي حول المثلية في لبنان؛ وقد حصلت الزيارة استجابة لطلب عاجل من هيئة العلماء المسلمين، في مساء السبت الواقع في 29 أيلول 2018. ورغم سهولة إقناع الفندق بوقف أعمال المؤتمر من خلال إغلاق الصالة، فإن عناصر الأمن ضغطوا على المدير التنفيذي للمنظمة جورج قزي لإلزامه بتوقيع تعهد بالامتناع عن عقد المؤتمر مستقبلا. وفيما أعلن قزي عن ذلك في مؤتمر صحافي عقده بعد أيام من الحادثة في أحد الفنادق (الخميس 4 تشرين الأول)، أفادت محامية المنظمة ليال صقر “للمفكرة” بأن عناصر الأمن أبدوا تبعا للتفاوض مع قزي، مرونة معينة بخصوص صيغة التعهد ومضمونه. فانتهى قزي بأن تعهد بالامتناع عن مواصلة المؤتمر في الفندق الذي بدأ فيه، محتفظا ضمنا بامكانية عقده في فندق آخر. هذه التصرفات تستدعي الملاحظات الآتية:

أولا، أن الأمن العام تجاوز صلاحياته بشكل لافت حين اتخذ قرارا بوقف أعمال المؤتمر. فهذه الصلاحيات تنحصر في “استقصاء المعلومات عن نشاط الهيئات والجمعيات … والنقابات … ومراقبة الاجتماعات والحفلات، سواء كان مرخصا بها أو غير مرخص” وفق ما جاء في مرسوم تنظيم المديرية العامة للأمن العام، من دون أن يكون له في حال من الأحوال حق وقف أي من هذه النشاطات أو الاجتماعات. فمهمته تقتصر على التقصي وجمع المعلومات ومن ثم مخابرة الأجهزة الإدارية (المحافظة) أو القضائية (النيابات العامة) عند الاقتضاء، أي في حال تبين له أي خلل في النظام العام.

ثانيا، عدا عن أن الأمن العام غير صالح لاتخاذ قرارات مماثلة، يبقى أن عقد مؤتمر لمناقشة قضايا المثلية وتطور القوانين المتصلة بها في الدول العربية لا يشكل بحال من الأحوال جرما جزائيا أو إخلالا بالنظام العام. فحتى لو سلمنا جدلا أن العلاقات المثلية يعاقب عليها القانون (وهو أمر يعارضه اجتهاد العديد من المحاكم اللبنانية)، فإن التداول والنقاش بشأن هذه العلاقات وكيفية تحسين الأوضاع القانونية للمثليين لا يكون كذلك. فمن أصول الديمقراطيات (لبنان يعلن نفسه في دستوره جمهورية ديمقراطية) أن تبقى مجمل قوانينها قابلة للنقاش والتعديل وأن يكون لأي من مواطنيها الحق في الدعوة لإعادة النظر فيها، لكونها غير دستورية أو غير ملائمة تشريعيا. فحق الدولة وواجبها بفرض احترام قوانينها لا يُسوّغ لها بحال من الأحوال منع أي من مواطنيها من ممارسة حرياته المضمونة دستوريا في التشكيك بمشروعيتها أو المطالبة بإلغائها أو حتى العمل على ذلك، شرط أن يتم ذلك بالطرق المشروعة ومن دون تجاوز.

ثالثا، أن الأمن العام منح هيئة العلماء المسلمين من خلال الاستجابة الفورية لطلبها والعمل على تنفيذه، امتيازا خارقا للعادة. فأن تطلب الهيئة من أجهزة الأمن ذلك، إنما يشكل تعبيرا عن رأي محافظ لديها، ويتعين على السلطة المعنية إذ ذاك التدقيق في مدى مشروعية الطلب، على ضوء الدستور والقوانين اللبنانية وما تحتويه من ضمانات للحريات العامة. أما أن يتم الإذعان لمطالب الهيئة من دون تدقيق، فإن ذلك يشكل مجاملة مبالغا بها لها على حساب سائر المنظمات والمواطنين، والأهم على حساب المبادئ الدستورية للدولة. ومن شأن هذه الممارسات للأسف أن تعطي بعض المواطنين شعورا غير مشروع بأن بمقدورهم فرض قيمهم على الدولة حتى ولو أدت إلى تهميش وتهجير عدد آخر من المواطنين، بما يتعارض تماما مع قيم الديمقراطية التي يفترض أن يشترك الجميع في تحديدها على قدم المساواة.

رابعا، أن الأمن العام سعى على غرار العديد من الأجهزة الأمنية والقضائية (النيابة العامة) إلى تجاوز الموانع القانونية أمام تنفيذ مطلب هيئة العلماء المسلمين وعمليا إلى توسيع هامش تدخله من خلال لعبة التعهدات. فإذا كان القانون يجرده من صلاحية إنهاء مؤتمر، يصبح تعهد الجهة الناظمة له بإنهائه الوسيلة الأسلم والأفضل لذلك. وعليه، لا تهدف الزيارة إلى إبلاغ قرار إنهاء المؤتمر كما يفترض بأجهزة الدولة أن تفعل، إنما قبل كل شيء إلى انتزاع تعهد بوقفه، بحيث يتم إنهاء المؤتمر ليس بقرار أمني (غير قانوني) إنما بإرادة منظميه. وبالنظر إلى أهمية هذه الغاية، لا بأس طبعا للوصول إليها من ممارسة مجموعة من الضغوط (وهذا ما حصل فعلا من خلال تذكير عناصر الأمن العام بصلاحياته بما يتصل بإقامة الأجانب في لبنان والتلويح بإمكانية اتخاذ تدابير بحقهم). وعليه، وبمعزل عن قيمة التعهد بالامتناع عن ممارسة حرية عامة على وضعية صاحبه (وهو غير ملزم بداهة)، فإنه يبقى مهما جدا بالنسبة للأجهزة الأمنية وللنظام السياسي ككل: فعدا عن أنه يؤدي إلى تغطية قرارات الأجهزة الأمنية أو القضائية في فرض تدابير تخرج بداهة عن صلاحياتهم، و/أو عن التطبيق السليم للقانون، فإنه يؤدي إلى الإيحاء بأن الحرية في لبنان لا تقيّد بقرار أمني أو قضائي إنما بإرادة المواطنين أنفسهم. ويمكن طبعا الإضافة أنها تقيد بإرادة هؤلاء ومن موقع شعورهم بالمسؤولية!

تبعا للملاحظات أعلاه، بإمكاننا أن نسجل من دون أي مبالغة أن إعادة انتظام عمل مؤسسات الدولة (تقيدها بصلاحياتها وبالقوانين) يستوجب أمس قبل اليوم واليوم قبل غدا وقف لعبة التعهدات المقززة هذه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني