لا يجوز التعليق علىأحكام القضاء، عبارة يستحضرها الإعلام المصري على فترات مختلفة وكلما دعت الحاجة إلىإغلاق باب النقاش الجماعي حول المسؤلية السياسية أو الجنائية لأعضاء الحكومة أو رئيس الجمهورية أو أي من المسؤلين. وقد برزت هذه المقولة بمناسبة قضايا شغلت الرأي العام المصري خلال العقود الثلاثة الماضية بداية من قضية الرشوة الكبرى عام 1986[1]، ومروراً بحادث قطار كفر الدوار عام 1998[2]، وحريق مسرح بني سويف 2005[3]، ثم غرق العبارة السلام 2006[4]، وأخيراً وليس آخراً حكم براءة الرئيس الأسبق حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي والمعاونين له في قضايا قتل المتظاهرين. كل هذه القضايا وأكثر أغلقت ملفاتها تماماً ولم تعد مطروحة للنقاش المجتمعي من خلال وسائل الإعلام المقروءة أو المرئية. والإدلاء بهذه القاعدة يستند إلى حجة أساسية مفادها أن الحكم عنوان الحقيقة. فكأن حكم القضاء عمل شخصي يتصل بشكل وثيق بشخص مصدره، فيما أن الاحكام بمجرد صدورها تنسلخ انسلاخاً كاملا عمن أصدرها. ومن المفترض قانونا أن الاحكام لا تعبر عن رأي المحكمة ووجهة نظرها، ولكن تعبر عن الأدلة التي قدمت لها والتي أدت إلى إصدار الحكم وهو ما يتنافى مع القول بقبول النقد من عدمه. فأحكام القضاء على اختلاف أنواعها ودرجاتها تصدر باسم الشعب (صاحب السلطة ومصدرها) وفق المادة 100 من الدستور المصري، ولا تصدر باسم العدالة ولا باسم المحكمة. وكما أن الشعب صاحب السلطة ومصدرها، فهو صاحب الحق في فرض الرقابة على أعمال أي سلطة تنشأ عنه. وفي الواقع، يتم إعمال الرقابة الشعبية المباشرة على السلطات الثلاث للدولة. فالسلطة التنفيذية يتم انتخاب رأسها انتخاباً مباشراً، والسلطة التشريعية (البرلمان) يتم انتخابها انتخاباً مباشراً، والسلطة الوحيدة المعينة من السلطات الثلاث هي السلطة القضائية ولا يجوز رقابتها من كلا السلطتين التنفيذية أو التشريعية. ولكن يبقى حق الرقابة مكفولا لصاحب السلطة وهو الشعب.
توقف الأمر لفترة حول إدعاء بعض الاعلاميين وكتاب الرأي الموالين للحكومات المتعاقبة، بأنه لا يجوز التعليق على أحكام القضاء، لإغلاق أي حديث مفتوح حول فساد بعض رجال السلطة. وبقي استخدام هذه المقولة إرثاً ثقيلاً في ظل الأوضاع التي شهدتها البلاد خاصة من بداية تسعينات القرن الماضي وسيطرة الحزب الوطني المنحل على الحياة السياسية. وحاول البعض مثل المجلس الأعلى للقضاء القول بأنه لا يجوز التعليق على الأحكام القضائية أو التعرض لها الا بإحدى وسيليتين: الأولى، الطعن على الحكم وتعييبه أمام محكمة الطعن، وفقا للطرق والضوابط المقررة قانونا، أما الثانية: فهي التعليق العلمي على الأحكام.
إلا أنه وفي عام 2007، حدث متغيّر هامّ حيث أصدر المجلس الأعلى للقضاء بيانا صحفيا حذر فيه من أن التعليق على الأحكام القضائية خارج الحالتين المشار إليهما أعلاه قد يتحول الى جريمة يعاقب مرتكبها.
ويعد صدور هذا البيان أمراً جوهرياً حيث وضع المجلس الأعلى للقضاء نفسه في مواجهة مع كل من يقوم بالتعليق على الأحكام القضائية. وما يزيد الأمر قابلية للإنتقاد هو أن البيان لوّح بتوقيع عقوبات على من يقوم بالتعليق على أحكام القضاء على الرغم من خلوّ مجمل القوانين العقابية المصرية من نص يجرم هذا الفعل، سواء بالذم أو المدح.وهذا الإعلان يتعارض تالياً مع القاعدة الدستورية التي تنص على أن "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون" (مادة 95 من الدستور المصري). وبذلك، ما حمله بيان المجلس الأعلى للقضاء من تهديد في هذا المجال هو محض مخالفة لنصوص الدستور ولا يتعدى كونه بياناً إعلامياً يخلو من أي سند قانوني. فقانون العقوبات لم يجرم إلا جرائم إهانة أو سب إحدى الهيئات القضائية أو أحد أعضائها، سواء بالإشارة أو القول أو التهديد، وهو أمر بعيد كل البعد عن التعليق على أحكام القضاء.فالتعليق في اللغة هو:
علَّقعلى كلام غيرِه :عقَّب عليه وتعقَّبه بذكر ما فيه من محاسن ومساوئ،
تعليقة: الجمع: تعليقات وتعاليقُ: التعْلِيقَة:ما يُذكَر في حاشية الكِتاب من شرح لبعض نَصِّهِ وما يجري هذا المجرى.
وطبقا للتعريفات السابقة، التعليق هو إبداء الرأي والملاحظات والاستفسارات، وهو أمر مكفول بموجب نصوص الدستور، لأنه يأتي في إطار حرية الرأي والتعبير، سواء بذكر المحاسن أو المساوئ
وعليه، يكون المجلس قد فسر القواعد القانونية بشكل يتعارض مع الغرض من هذه التشريعات، من أجل فرض حظر ما هو مباح. وهو بذلك فرض وصاية على حرية الرأي والتعبير ومنع مساءلة القضاء. وما يزيد الأمور سوءا هو صدور العديد من الأحكام المليئة بالعيوب الشكلية قبل الجوهرية والتي تلغي جميعها في درجات التقاضي، وتعكس مشاكل مرفق العدالة في مصر. ومن الأجدى طبعاً ترك هذه المعارك الإعلامية القمعية والتصدي للمعركة الأهم وهي البحث عن الطرق والأساليب التي ترفع من شأن أعضاء هذا المرفق.
[1]هي قضية اتهم فيها 27 من وكيل وزارة بوزارة الزراعة
[2]في أكتوبر 1998 وقعت حادث تصادم لقطار ركب اصطدم بالصدادات الخرسانية بمحطة كفر الدوار ادي الي وفاه 45 قتيلا و100 جريح
[3]في يوم الاثنين الموافق 5 سبتمبر 2005 وأثناء تقديم العرض المسرحي "من منا" عن قصة "حديقة الحيوان" لفرقة نادي مسرح طامية بالفيوم، وذلك في قاعة الفنون التشكيلية الملحقة بمبنى قصر ثقافة بني سويف، شب حريق كبير أتى على كل ما في تلك القاعة وأدى مصرع 32 شخص وأصابه العشرات، في عام 2006 صدر حكم محكمة جنح بندر بني سويف ضد المتهمين في حادث حريق قصر ثقافة، وعاقبت المحكمة “مصطفى علوي” المسئول عن قصور الثقافة حينها و7 آخرين بالحبس 10 سنوات مع الشغل وكفالة 10 آلاف جنيه لكل متهم عن أربعة اتهامات. وألزمت المحكمة وزير الثقافة “فاروق حسني ” بصفته مسؤولا عن الحقوق المدنية لأعمال تابعيه بتعويض أهالي الضحايا، وفي مارس 2007 برأت محكمة جنح مستأنف بني سويف أربعة من المتهمين في محرقة قصر ثقافة بني سويف عام ٢٠٠٥، من بينهم الدكتور مصطفي علوي رئيس هيئة قصور الثقافة آنذاك، فيما خففت الأحكام الصادرة من محكمة أول درجة ضد ٤ متهمين آخرين، إلى السجن ما بين عام وثلاثة أعوام.
[4]عبارة السلام 98 هي عبّارة بحرية مصرية ملك شركة السلام للنقل البحري، غرقت في 2 فبراير شباط 2006 في البحر الأحمر، ولقي أكثر من الف شخص مصرعه علي اثر غرقها ومعظمهم كان من المصريين العاملين في السعودية. وكان عدد ركاب العبارة نحو 1400، تم تداول القضية على مدى 21 جلسة طوال عامين استمعت خلالها المحكمة لمسئولين هندسيين وبرلمانيين وقيادات في هيئة موانئ البحر الأحمر وهيئة النقل البحري. وتم الحكم في قضية العبارة في يوم الأحد الموافق27 يوليو2008 ،, في جلسة استغرقت 15 دقيقة فقط تم تبرئة جميع المتهمين وعلى رأسهم ممدوح إسماعيل مالك العبارة ونجله عمرو الهاربان بلندن وثلاثة أخرون بالإضافة إلى أربعة أخرين انقضت الدعوى عنهم بوفاتهم، بينما عاقبت المحكمة ربان باخرة أخرى "سانت كاترين", وقضى الحكم بسجنه لمدة ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ ودفع غرامة بقيمة عشرة آلاف جنيه مصري (حوالي 1200 يورو) بتهمة عدم مساعدة "السلام 98"
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.