التعذيب من جديد: هل هي العودة لما وراء الوراء ؟


2024-07-17    |   

التعذيب من جديد: هل هي العودة لما وراء الوراء ؟
رسم عثمان سالمي

في خطاب ألقاه بتاريخ 08 جوان 1970، تحدث الرئيس المؤسس للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة عن رفاقه من أعضاء الحزب الدستوري الحرّ ممن عارضوا سيّاساته فجر الاستقلال فاعترف بكونه المسؤول الأول عما تعرضوا له وعوائلهم من تعذيب وتفقير وطلب منهم الصفح والعفو مؤكّدا مسؤوليته عن ذلك بحكم كونه على رأس الدولة وأنه تمّ عن حسن نيّة منه ونتيجة ظنه أنه كان في طريق الخير.

وكان في قوله أول اعتراف رسمي من الدولة الوطنية باعتمادها التعذيب وسيلة لانتزاع الاعترافات وترهيب من تتّهمهم بالتآمر على أمنها. كما كان أول اعتذار عن تلك التجاوزات. وهما أمران يفترض بعدهما أن تتغير الممارسات وتتطور في اتجاه يمنع تكرارها. لكن وخلافا لذلك، وثّقت روايات تعدّدت وتواترت تواصل التعذيب وسوء المعاملة بعد ذلك وطيلة مدة الجمهورية الأولى في مختلف المقرات الأمنية ومراكز الاحتجاز مع تميّز بعضها في ذلك.

التعذيب مدة الجمهورية الأولى: وسيلة عمل وسبيل لفرض الهيبة

راجت نكتة بتونس فترة الجمهورية الأولى تقول إن فرقا أمنيّة من دول مختلفة تبارتْ في الإمساك بأرنب. وقد أنجزت جميعا ما طلب منها إلا التونسية التي انقطعت أخبارها عن شركائها. فتنقّلوا إلى مقرّها للسؤال وهناك عاينوا أعوانها بصدد ضرب قطّ وتهديده بمواصلة تعذيبه إن لم يعترف بكونه أرنبا. عكست هذه الفكاهة التمثّل الشعبي لحضور التعذيب كوسيلة عمل أمني.

ففي هذا الحيّز من تاريخ تونس، كان العنف البوليسي في الشارع مما يعتمد لمنع الاحتجاجات بمختلف أنواعها وأيّا كان الدافع إليها. ويعوّل إذا عليه في صناعة هيبة الدولة التي كانت فعليا مرادفا لخوف الناس منها ومن بطشها. وكان التعذيب وسوء المعاملة من جريان العمل في مقرات الأمن ومراكز الاحتجاز[1].

تلك التجاوزات، باركها النظام وجازى من نسبت لهم بالترقية والمكافآت الخصوصية متى تسلطت على المتهمين في القضايا السياسية. وتكفل الطب الشرعي ومعه عدد من الأطبّاء المتعاونين مع الأمن بالتغطية الطبيّة عن آثارها سواء بعلاج ما ظهر منها أو بتدليس تقارير تردّ ما ينتج عنها من وفاة أو عجز بدني لأسباب غيرها.

من جهته استقرّ القضاء المنسجم مع سياسة الدولة على رفض معاينة آثار التّعذيب وسوء المعاملة. وكان يردّ الدفوع التي تقدّم له في الموضوع بقوله أن المحاضر التي يحررها الأمن حجة رسمية والحجة الرسمية[2] لا يمكن ردّها إلا بإثبات الزور وطبق إجراءاته. كما كان يرفض معاينة آثار التعذيب قولا بأنها وقائع تخرج عن التهمة التي يتعهد بنظرها[3]. وفي موازاة ذلك، كانت النيابات العامة بمختلف المحاكم تمتنع عن تضمين الشكايات التي تقدم في التعذيب أو تلك التي تتعلق بالعنف البوليسي وتكتفي كلما قدمت واحدة منها بتوجيه مراسلة سرية لوزارة العدل تعلمها فيها بمضمونها.

و قد أشر الاستهداف المتكرر لمقرات الأمن مدّة الحراك الثوري بما أدى لاحتراق أكثر من 250 منها[4] ورفض تواجده من قبل الأهالي في عدد من الجهات لمدد طويلة، على كون عنف البوليس وخروجه عن القانون لم يعد مما يقبل تونسيا بعد الثورة ومما يستدعي التدخل العاجل لمعالجته وهو ما توجّهت إليه الإرادة السياسية.

فجر الثورة: إصلاح الأمن ومنع تعسّفه أولويّة

يوم 23-01-2011، جاب مئات الأمنيين شارع بورقيبة في العاصمة وعدد من شوارع المدن الأخرى رافعين شعار أبرياء من دماء الشهداء ومُنادين بإنصاف الأمن الذي كان فيما قالوا ضحية للاستبداد الذي أجبر العاملين فيه على مخالفة القانون. وبتاريخ 07-03-2011، حلّت وزارة الداخلية التونسية جهاز أمن الدولة في خطوة كان المراد منها التخلص من إرثه الثقيل. كما فتح مسؤولون فيها بعد ذلك بأشهر[5] قليلة دهاليز وزارة الداخلية التي كانت تستغلّ كمُعتقلات سرية للأطفال ليرسموا على جدرانها شعارات قالوا أنها ستنزع الرهبة من تاريخها المرعب وتؤكّد القطع مع التعذيب الممنهج الذي كان يمارس فيها وأدّى في حالات كثيرة لهلاك ضحاياه[6]. كما غيّروا ألوان سيارات الأمن وأزياء أعوانه زيادة على إدخال تحسينات على المقرّات الأمنية تمثلت في توسعة قاعات الاستقبال المخصّصة للعموم وجعلها مفتوحة. وهي في عمومها التوصيات التي توصّلت بها الحكومة التونسية من الخبرة الأجنبية التي طلبتها في الموضوع[7] وكانت سندا لإعداد كتابها الأبيض لإصلاح الأمن الذي مثل خطة عمل طويلة الأمد في المجال.

المعالجة الشكلية العاجلة لصورة الأمن خلال المرحلة الانتقالية الأولى التي كانت تتولاها مؤسسات انتقالية غير منتخبة رافقتها إصلاحات مؤسساتية تمثلت في المصادقة على انضمام تونس إلى البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب[8] بما أوجد الإطار القانوني لحقّ زيارة المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية لمراكز الاحتجاز ومنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي افتتحت مكتبا لها بتونس[9]. كما تمّ تنقيح الفصلين 101 و103[10] من المجلة الجزائية المتعلقين بالتعذيب بغاية تحسين تعريف الجريمة وتحديد آجال مطوّلة لسقوطها[11].

بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، تدعّمت سياسة مكافحة التعذيب، ومنه أن وقعت الحكومة نهاية سنة 2012 اتفاقيات مع المنظمات الحقوقية تجيز لها زيارة مراكز الاحتجاز والسجون. وسنّ المجلس الوطني التأسيسي القانون عدد 43 لسنة 2013 المحدث للهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة والذي أرسى  في الفصل 24 منه لأول مرة مبدأ عدم قابلية جريمة التعذيب للتقادُم. وصادق ذات المجلس على القانون عدد 53 لسنة 2013 المتعلّق بالعدالة الانتقالية والذي حدّد هدفا له كشف انتهاكات الماضي ومنع تكرارها. وقد انتهى بموجب الفصل 23 من دستور 2014 لأن يفرض على الدولة حماية كرامة الناس وحرمتهم الجسديّة ويُدستر عدم سقوط جرائم التعذيب  بمرور الزمن [12].

تزامنت الإصلاحات المذكورة مع اثارة تتبّعات قضائيّة ضدّ أمنيين اتّهموا بالتعذيب وسوء استعمال السّلطة زيادة على القتل والعنف والاختفاء القسريّ تعهّد بها القضاء في المحاكم العسكرية والقضاء العدلي علاوة على هيئة الحقيقة والكرامة. ويمكن القول أن المناخ الثوري وما رافقه من تطور للخطاب الحقوقي حول الحقوق والحريات وقيم الأمن الجمهوري والقضاء الحامي للحقوق والحريات عوامل أدّت لغياب التعذيب الممنهج بعد أن افتضح أمره ولتراجع العنف البوليسي. ولم يشذّ عن ذلك إلا حالات معدودة تمّ تفسيرها بالانفلات الأمني. وهذا التطور الإيجابي على أهميته سريعا ما اهتزّ زخمه بفعل تغيرات المناخ السياسي والأمني وتطورات الحرب على الإرهاب.

فتوى الحرب على الإرهاب: التعذيب مصلحة وطنية

استغل الأمنيون مناخ الحريات وضعف السلطة السياسية ليفرضوا على الحكومة الاعتراف بحقهم في تكوين نقابات تدافع عن مصالحهم المهنية. فصدر تحت تأثير ضغطهم المرسوم عدد 42 لسنة 2011 الذي أجاز لهم ولأول مرة في تاريخ مؤسّستهم “تكوين  نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها.”[13] ومن تاريخه ووفقا له تأسست 12 نقابة أمنية تمثلهم حددت جميعها الدفاع عن الأمنين وقياداتهم الذين يلاحقون في قضايا شهداء وجرحى الثورة أو أولئك الذين ينسب لهم عنف مهني ضمن أولوياتها.

ومع تطوّر الظاهرة الإرهابية بتونس بداية سنة 2013، تدعم دور النقابيين الأمنيين في أطر كشفت نجاحهم في صناعة تحالفات لهم وسط المجتمع الحقوقي والسياسي كانت سببا في مراجعة الخطاب المهيمن حول التعذيب.

فقد كان هؤلاء يكتسحون المنابر الإعلامية كلّما جدّت عمليّة إرهابية ليؤكّدوا أن الأمن سبق له أن قبض على عدد ممّن ضلعوا فيها. لكن القضاء أفرج عنهم بدعوى أن اعترافاتهم انتزعتْ تحت التعذيب بما سمح لهم بمواصلة مشاريعهم. وكانوا يجدون دعما فيما يقولون من قبل سياسيين ونقابيين وحقوقيين تبنّوا فكرتهم القائلة بأن “الأمن يشدّ والقضاء يسيب” وأن القضاة والحقوقيين الذين يتمسكون بفكرة نزاهة الإثبات في المحاكمات الإرهابية لا يفهمون المصلحة الوطنية وأن الأمنيين الذين يتهمون بالتعذيب يحتاجون الدعم والتأييد. علاوة على كون إحالة 40 من القيادات الأمنية بداية الثورة على التقاعد الوجوبيّ وحلّ جهاز أمن الدولة “خطأ قاتل يجب الاعتذار من الأمنيين عنه” و”نوع من الخيانة استجابة لأطراف خارجيّة كان همّهم إضعاف الدّولة والسماح للإرهابيين بالتغوّل”[14].

في هذه السياقات، وجد النقابيون في أسلوب الضّغط المباشر على القضاة والذي اعتمده من قبلهم النقابيون والمحامون ومجموعات الضغط التي احتمت بالنزعات العروشية[15] السبيل لتنفيذ تعهداتهم ولكنهم زادوا على كلّ من سبقهم في مظاهر القوة التي اعتمدوها فحاصروا المحاكم  باستعمال وسائل العمل الأمني. وامتنعوا في حالات عن تأمين بعضها كما وصل بهم الأمر لرفض تنفيذ القرارات القضائية بالإيداع بالسجن متى تعلّق الأمر بزميل لهم أو بالإفراج متى كان المتهم فيما قرروا إرهابيا.

وقد كان طيف واسع من السياسيين والحقوقيين ظهيرا لهم في تحركاتهم لتقديره أنها تخدم معركته مع الإسلام السياسي أو لكونه وجد فيها ما يعجب الناخبين الذين كشفت نتائج انتخابات 2014 أن الأغلبية منهم باتت تحنّ لنجاعة دولة ما قبل الثورة[16]. وكان، من أثر النجاح الاتّصالي للنقابات الأمنية وقوة حاضنتها وسط النخبة السياسية والإعلام أن توصّلت تحركاتها الاحتجاجية إلى حجب السؤال عن مكافحة التعذيب لفرض استحقاقين محله أولهما حماية من يتّهم به، ثانيهما تحصين الأمنيين بقانون يحميهم من التتبّعات التي قد تطالهم متى اجتهدوا في عملهم ويجزّي كل من ” يُحًّقِرهم” وهو المشروع الذي تعهد حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 بسنّه.

في ذلك الحيز الزمني، تعددت الحالات التي أفرج فيها القضاء مضطرا تحت تأثير ضغط النقابات والإعلام والسياسيين عن متهمين بخروقات من الأمنيين. وساد خطاب يصِم بالإرهاب من يدافع عن المتهمين به وحقهم في المحاكمة العادلة ويقدح في كفاءة القضاة الذين يفرجون عمّن يتهمهم الأمن بالإرهاب ويشيد بالأمن الذي يتهم بالتعذيب ويبرئه من تلك الشبهة.

ومثاله أنه في شهر أوت 2015، وإثر إفراج قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس عن سبعة متهمين بقضايا إرهابية، وفتح النيابة العمومية بحثا تحقيقيا  في شبهة تعرّضهم للتعذيب، منع الأمن تنفيذ قرار الإفراج، إذ تولّت الفرقة الأمنية إعادة ضبط المتّهمين ونقلهم إلى مقرّ الأمن. احتاج الأمنيون لخمس ساعات متواصلة من احتجاز المتهمين من دون مسوغ قانوني، لتتدخّل النيابة العمومية وتأذن لاحقا بالاحتفاظ بالمتهمين بعد أن تمّ إعلامها بوجود أبحاث جديدة في حقهم. وقد شكل البرلمان لجنة تحقيق برلمانية في الموضوع أكدت رئيستها على “أن المتهمين لم يتعرضوا للتعذيب وأن قاضي التحقيق لم يحسن استنطاقهم ولذلك أخطأ بإطلاق سراحهم.”[17] 

في مثالنا هذا أدى الضغط النقابي السياسي وقد التقى بامتناع عديد الجمعيات الحقوقية الوطنية عن الخوض في الموضوع رفعا للحرج عنها لتعطيل البحث في قضايا التعذيب [18]وفرض إيقافا تحت الضغط لمتهمين ولكنه لم يمنع في تاريخ لاحق القضاء من حفظ التهمة في حقّ جملة المتهمين والتي اصطلح عليها بمجموعة القيروان بعد أن ثبت أن اعترافاتهم سند اتهامهم انتزعت تحت التعذيب. وتنبهنا هذه النهاية التي لم تكن خاصة بهذا الملف لكون التراجع عن مكافحة التعذيب لم يكن كاملا[19] خلافا لما قد يعتقد.

رغم التراجعات مكتسبات تعزز مكافحة التعذيب

ساهمت قوة النقابات الأمنية وما توفّر من حاضنة إعلامية وسياسية لها في فرض حصانة للأمنيين ممن يتّهمون بالتعذيب [20] وفي تعطيل الأبحاث في قضايا التعذيب التي على أهمية عددها لم تصدر في أغلبها أحكام وبقيت تراوح مكانها في مكاتب التحقيق[21]. في المقابل، لا يجب أن تغيّب عنّا هذه الانتكاسة العدد الهامّ من القرارات القضائية التي صدرت في ذات الفترة والتي حفظت تهما في حق متهمين أو قضت بعدم سماع الدعوى في حقّ آخرين ومنهم متهمين بالإرهاب  لبطلان إجراءات التتبع التي تمثلت في أن الاعترافات التي سجّلت عنهم كانت تحت التعذيب.

وما يبدو هنا من انفصام بين تكريس القضاء لثقافة الإفلات من العقاب في جرائم التعذيب وحمايته لحقّ المتهم في محاكمة عادلة لا تنتزع فيها اعترافاته تحت التعذيب يمتدّ ليشمل السياسيين والمشرعين. فذات النواب الذين برروا التعذيب في الإرهاب كانوا قد صادقوا على القانون عدد 05 لسنة 2016 الذي ضمن حق حضور المحامي لدى باحث البداية وكان لتطبيقه أثر كبير في الحدّ من ظاهرة سوء المعاملة والتعذيب في مراكز البحث والاحتجاز.

كما أن ذات المجلس النيابي لم ينظر في قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين تحت ضغط شارع رفض ذلك لما فيه من فرض لقيم دولة البوليس فأثنى بإصراره  الأغلبية عن عزمها. وعليه، فإن عودة التعذيب في فترة الديمقراطية واستمرار العنف البوليسي لم يكونا مانعين من تحقيق مكتسبات في مكافحته والتوقّي منه وربما كانت أزمة المحاكمات السياسية التي أثيرت بعد 25 جويلية مما يقيم الدليل على كون المحصّلة النهائية للمرحلة الديمقراطية في المجال إيجابية.

ما بعد 25 جويلية نقاط إيجابية: وتلك من مكتسبات العشرية

لم تنجح العدالة الانتقالية التونسية في تحقيق ما رفعت من شعارات وأهداف، أمر لا يمنع من الاعتراف بكون جلسات الاستماع العلنية التي عقدت في إطارها كشفت لأول مرة سوء التعذيب للناس ونزعت عن مبرّريه حجج دفاعهم عنه. ولم يصل الإصلاح المؤسساتي لمنع التعذيب مطلقا ولا لفرض ثقافة المحاسبة فيما تعلق به ولكنه مع ذلك أرسى دعائم تضعف فرص ممارسته وتذكر من قد يفكر في التورط فيه في كون محاسبة قد تحصل في زمن قادم.

ونقدر أن الإصلاحات الثقافية والمؤسساتية وخصوصا منها حق حضور المحامي مرحلة البحث الابتدائي التي كثيرا ما نتحدث عن محدوديتها كانت هامة في أثرها. وقد شكلت إشادة الأغلبية ممّن تمّ إيقافهم على خلفية قضايا توصف بالسياسية بالمعاملة الأمنية وبحيادية العاملين بالمؤسسة السجنية خير دليل على ذلك. ولكنها مع ذلك وفي ظلّ تراجع قيم استقلالية القضاء وثقافة دولة المؤسسات، فإن هذه المكتسبات تبدو مهددة كما يؤكد ذلك التعاطي مع شبهة تعذيب كلّ من نور الدين البحيري (وزير العدل السابق والقيادي في حزب النهضة) والمحامي مهدي زقروبة.

من البحيري إلى زقروبة: هل هي شبهة التعذيب الممنهج؟

بتاريخ 13-02-2023، أحضر المحامي والوزير السابق والقيادي بحزب حركة النهضة نور الدين البحيري إلى قضاء التحقيق في إطار متابعة جزائية أثيرت ضده. وقد تمسّك ونائباه حينها بكونه تعرض للتعذيب وطلبوا من قاضي التحقيق معاينة ذلك. أمر لم يتولاه المحقق الذي أصدر في حقه بطاقة إيداع بالسجن.

في ملابسات مشابهة وبتاريخ 15-05-2024 أحضر المحامي مهدي زقروبة أمام قاضي التحقيق على خلفية اتهامه بالاعتداء على أمنيين في تحرك احتجاجي للمحامين. وقد تمسك ومحاميه بكونه كان ضحية تعذيب وطلبوا من المحقق معاينة آثار ذلك وعرضه على فحص الخبرة الطبية لإثباته. استجاب القاضي لطلب المعاينة لكنه رفض العرض على الطب الشرعي بدعوى أنها وقائع يجب أن تقدم فيها شكاية مستقلة.

في الحالتين، لم يثر تتبع في حقّ من اتهموا بالتعذيب رغم تقديم شكايات مستقلة في الموضوع أو في الأدنى لم تتقدم الإجراءات وفق السرعة الواجبة وبقي الملف على مستوى النيابة العامة. كما رُفض عرض زاعمي الضرر على الخبرة الطبية رغم أنه وفي الأولى حررت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب تقريرا يوثق الآثار[22] ويؤكد شبهة التعذيب رفعته للنيابة العمومية. وفي الثانية تقدم 1680 محاميا بشكاية في ذات الطلب. وبهذا تماثل التعاطي القضائي والأمني مع ما كان قبل الثورة إذ غابت كل مظاهر المحاسبة وحضرت شبهة التغطية على ما يكشف من تجاوزات. وهي أمور تنذر بعودة شبح التعذيب الممنهج من الماضي البعيد وتبرر التعبير عن خشية على مكتسبات تحققت لتونس ويبدو أنها تتآكل بفعل غياب المؤسسات التي تقدر على حمايتها وتطويرها. 

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد 30
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF


[1]  يراجع تقرير منظمة العفو الدولية  ”  تونس :  التعذيب والاعتقال غير القانوني و المحاكمات الجائرة”  23- 06-2008

[2]القرار التعقيبي الجزائي عدد 73898 مؤرخ في 03-03-1997

[3]  في قضية بو عبد الله اللطيف ضد الدولة التونسية أمام لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وفي رد الدولة التونسية عن العريضة تمسكت بكون القانون التونسي يوجب ان يقدم المتضرر شكاية في التعذيب مع مؤيداتها وفي قرارها عدد 189/2001 بتاريخ 17—2003 اعتبرت اللجنة ” ذلك الرد مخالفا للمادة 13 من الاتفاقية التي تفرض إجراء الفحوصات الطبية بصورة آلية في  صورة وجود ادعاءات تعذيب أو سوء معاملة.” فيما انتهت في قرارها عدد  60-1996   بتاريخ   10-11-1996  قضية خالد بن مبارك  في حق فيصل بركات ضد الدولة التونسية  الى أن الدولة التونسية انتهكت التزامها بموجب المادتين 12 و13 من الاتفاقية التي كانت توجب عليها  بأن تقوم بتحقيق محايد كلما وجدت أسباب معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن عمالً من أعامل التعذيب قد ارتكب.

[4]  اصلاح القطاع الأمني في تونس عام بعد ثورة الياسمين  – كوايراين هالون – معهد السلام الأمريكي

[5]  يوم 07-10-2011

[6] لا مجال مستقبلا للدموع والقهر وإهانة الذات البشرية زنزانات وزارة الداخلية -كمال بن يونس – صحيفة الصباح 08-10-2011

[7]  شهر ماي 2011 طلبت وزارة الداخلية التونسية من مركز جنيف للرقابة الديمقراطية مساعدتها من خلال انجاز دراسة تتضمن توصيات  حول تحسين   صورة الامن واتصال وزارة الداخلية بالشعب .

[8]   مرسوم عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 19 فيفري 2011 تم الموافقة على انضمام الدولة التونسية إلى البروتوكول الاختياري الاتفاقية مناهضة التعذيب المعتمد من قبل الجمعية العامة لأمم المتحدة في 18 ديسمبر 2002 صدر بالرائد الرسمي للبلاد التونسية بموجب الامر عدد 552 لسنة المؤرخ في 17-05-2011

[9]  بموجب اتفاقية مقر بين الحكومة التونسية و اللجنة مصادق عليها بالمرسوم عدد 94 لسنة 2011  المؤرخ في 29-11-2011

[10]  بموجب المرسوم عدد 106 لسنة 2011

[11]  لو يستجب التنقيح للمعايير الدولية في المجال لكنه مثل تطورا مهما مقارنة بما سبقه ..

[12]   تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم.”

[13]  الفصل 11 من المرسوم عدد 42 لسنة 2011 مؤرخ في 25 ماي 2011 يتعلق بتنقيح وإتمام القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أوت 1982 المتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي

[14]  بتاريخ 24-04-2015 وفي ندوة رسمية اعتبر كاتب الدولة للأمن الوطني حينها رفيق الشلي ” قرار حل جهاز ادارة امن الدولة الذى تم اتخاذه ابان ثورة 14 جانفي 2011  يعد قرارا اجراميا وارتجاليا .”

[15]  القبلية

[16] يراجع للكاتب  مقال ” الوظيفة القضائية في خضم الحرب على الإرهاب: “الأمن يشدّ، القضاء يسيب ” الذي نشر بالعدد الثالث لنشرية المفكرة القانونية وتعرض صلبه لأمثلة على مواقف لحقوقيين وسياسيين دعمت ضغط النقابات الأمنية على القضاء وروجت لتبرير التعذيب

[17]  ومنه أيضا انه إثر توجيه القضاء تهمة التعذيب على أمنيين استنطقوا أشخاصا اتهموا بالضلوع في الاعتداء الإرهابي على متحف باردوا سنة 2015، نظم برلمانيون زيارة لمقر الفرقة الأمنية لرد الاعتبار لعناصرها ولإطلاق تصريحات كانت منطلقا لحملة إعلامية “أدانت قضاة تنقصهم الكفاءة ويشكلون خطرا على أمن البلاد”.

[18]  مثال ذلك في قضية مقتل الفتاتين أحلام وانس دلهوم التي جدت بجهة القصرين بتاريخ  23 -08-2014 والتي تم إيقاف 3 أعوان امن فيها  نضمت النقابات الأمنية اعتصاما اماما المحكمة أدى للافراج سريعا عن متهمين اثنين واستجلاب القضية لمحكمة صفاقس اين افرج عن المتهم الثالث

[19]  في قضية اتهم فيها سنة 2014 شخص بالانتماء لتنظيم إرهابي تم الاحتفاظ بالمعني بمقر الامن اين تعرض حسب محاميته للتعذيب  و انتهت المحكمة بعد ثلاث سنوات لاصدار حكم يقضي بعدم سماع الدعوى في حقه لشبهة التعذيب التي علقت باعترافاته

[20]  احصت الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسين تعهد القضاء بعد الثورة ب 400 ملف تعذيب

[21]  يراجع في خصوص استعراض الحالات تقرير المجتمع المدني للجنة مكافحة التعذيب  الدورة 57 لسنة 2016

[22]  حسب تصريح اعلامي للمحامية سعيدة العكرمي  لموقع العربي 21  تقدمت الهيئة بتاريخ 15-09-2023 تقدمت هيئة الوقاية من التعذيب بتقرير للنيابة العمومية يطلب فتح بحث تحقيقي ضد من اتهموا بتعذيب البحيري


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني