
سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس جوي هود أثناء حفل استلام خافرتي السواحل "تازركة" ومنزل بورقيبة" في القاعدة العسكرية بحلق الوادي.
يوم السابع عشر من أفريل المُنقضي، رست سفينة “يو إس إس ماونت ويتني” الأمريكية من فئة “بلو ريدج”، في المياه التونسية، وسط استقبال رسمي على أعلى المستويات. وقد صاحب هذه السفينة التي تُعد سفينة القيادة بالأسطول الأمريكي السادس المُتمركز في قاعدة جيتا البحرية الإيطالية، زورقان مُخصصان لخفر السّواحل من فئة آيلاند بطول 34 مترا تسلّمتهما البحرية التونسية “لدعم قدرات تونس في تأمين حدودها البحرية وتعزيز الأمن الإقليمي” حسب ما أشارت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في تونس عند نقلها للخبر على موقعها الرسمي، مؤكدة أيضا “التزام حكومة الولايات المتحدة بالاستقرار الإقليمي وبشراكتها الاستراتيجية الراسخة مع تونس، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو”، حسب نص البيان.
عملية تسليم الزورقين وزيارة سفينة القيادة في الأسطول الأمريكي السادس إلى تونس قبيل أيام من بداية مناورات “الأسد الإفريقي”، لم تكن لتخلو من دلالات تاريخية رمزية، حرص بيان السفارة الأمريكية على إبرازها بطريقته و”حبكته الروائية” الخاصة التي تخدم خطاب الهيمنة. فقد تزامن الحدث مع الذكرى السنوية ال220 لمعركة درنة التي وقعت بين 27 أفريل و13 ماي 1805، وهي أول معركة تنتصر فيها الولايات المتحدة فوق أرض أجنبية، حيث لعب فيها الدبلوماسي الأمريكي “ويليام إيتون”، الذي سبق له أن شغل منصب قنصل بلاده بتونس، دورا محوريا في دعم الانقسامات داخل الأسرة القرمانلية الحاكمة بليبيا. وهي كذلك معركة مهمة من الناحية الوجدانية في نشأة جيش مشاة البحرية الأمريكي “المارينز” ضمن ما عُرف في التاريخ الأمريكي بحروب “ساحل البربر”، التي خاضتها الولايات المتحدة بُعيد نشأتها، ضد إيالات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب لمكافحة ما تعتبره عمليات قرصنة بحرية. ولا يزال نشيد The Halls of Montezuma ، أحد الأناشيد الرسمية للمارينز، يحمل ذكرى هذه الحرب ويتغنى بها كمثال عمّا يُمكن أن تمتدّ إليه عصا الأمريكيين العسكرية الغليظة. ولم تُخف لغة بيان السفارة تشبيه عمليات البحرية الأمريكية في تلك الحرب ضدّ سفن القرصنة البحرية بنموذجها الحالي للحرب عن الإرهاب، مُعتبرة ما حصل حينذاك “إرهابا بحريا”، تغلب عليه الجيش الأمريكي، “بفضل دعم تونس وتعاونها”، مع إشارات أخرى إلى تزامن زيارة سفينة القيادة الأمريكية مع الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الأسطول الأمريكي السادس، المتمركز في البحر الأبيض المتوسط بقاعدة في مدينة نابولي غير بعيد عن المياه التونسية، والذكرى 250 لتأسيس البحرية الأمريكية. وأبعد من تذكر التاريخ، يلوح الرهان الاستراتيجي من خلال هذه الزيارة في سياق توترات متزايدة تعانيها منطقة الساحل والصحراء والنطاق المغاربي، ومع استمرار حرب الإبادة على غزة التي تلعب فيها الولايات المتحدة دورا غير مسبوق. كما تتزامن الزيارة مع بداية مناورات عمليات الأسد الإفريقي في مرحلتها المُقامة في تونس. مما يفتح أوجه النقاش حول التناقضات بين الخطاب الرسمي التونسي المفرط في التحدي الظاهري للتدخل الخارجي، والجهود الحثيثة من جهة أخرى في تدعيم التعاون العسكري بين الولايات المتحدة والجيش التونسي، من خلال عدد كبير من الصفقات وأوجه الدعم العسكري واللوجستي. وهو تعاون يبدو أنّ السلطة لا تلمح فيه تدخّلا أجنبيا مباشرا، حيث يقتصر الخطاب المعتاد للارتهان إلى الخارج والأطروحة السيادوية على استهداف المجتمع المدني والأحزاب السياسية خصوصا، في حين يُشرّع المجال أمام خطاب المصالح المشتركة والتعاون الدولي البنّاء حين يتعلق الأمر بما تُريده السلطة.
مناورات الأسد الإفريقي وغيرها: موعد متجدد للهيمنة
انطلقت يوم 22 أفريل مناورات الأسد الإفريقي 2025 في قسمها المُنعقد بالأراضي التونسية، بمشاركة 1700 عنصر عسكري من قوات الأفريكوم الأمريكية ومن قوات سبع من الدول الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي، مع مشاركة واسعة من قوات بعض الدول الإفريقية، وهي غانا وكينيا ونيجيريا والسنغال، إضافة إلى عدد آخر من المُشاركين من غير العسكريين. فقد بلغ العدد الإجمالي للمُشاركين أكثر من 2000 شخص بالنسبة للجزء الذي أٌقيم في تونس، في حين سيبلغ عدد المشاركين 10 آلاف في مختلف مراحل المناورات، التي ستشمل كذلك كلا من المغرب وغانا والسنغال. وقد تمحورت المناورات التي تنظمها تونس للمرة الثامنة على التوالي حول سلسلة من الأنشطة العملياتية التي تشمل تمارين ميكانيكية وتكتيكية برية وبحرية وجوية، مع تمارين للقوات الخاصة وعمليات إنزال جوي. يُضاف إلى هذه الأنشطة تمرين مُشترك لتخطيط العمليات لفائدة ضباط هيئة الأركان في إطار “فريق العمل” Task Force. بالتزامن مع هذه المناورات، يتوارى الخطاب السياسي الأمريكي المُنتقد لوضع الحقوق والحريات في تونس ويحلّ محلّه خطاب المصالح الاستراتيجية والتعاون الثنائي. ظهر هذا الخطاب بوجه خاص في كلمتين وجّهتهما نائبة رئيس البعثة بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية في تونس “إميلي كاتكار”، الأولى في القاعدة الجوية بالعوينة في 22 أفريل حين اعتبرت تونس “دولة رائدة إقليميا” في” تعزيز الاستقرار ومعالجة المشاغل الأمنية المشتركة”، والثانية من قاعدة بن غيلوف بولاية قابس، حيث شكرت بوجه خاص وزارة الدفاع التونسية. ونفس الخطاب كرره السفير الأمريكي الحالي بتونس “جوي هود” عقب نهاية مرحلة تمرينات الأسد الإفريقي بتونس في 30 أفريل الماضي حينما اعتبر تنظيم تونس لهذه المناورات من بين الأسباب العديدة التي جعلت تونس “شريكا إقليميا مميزا في مجال الأمن”. هذه اللغة الدبلوماسية الأمريكية تأتي في سياق صدور الأحكام في ما يُعرف ب”قضية التآمر على أمن الدولة” التي ضربت بمبادئ المحاكمة العادلة، حيث لم تجد بالمناسبة إدانة رسمية واضحة من قبل الولايات المتحدة التي آثرت في ما يبدو تغليب تعاونها على مستوى الأجهزة الصلبة للدولة، في حين توارت لغة البيانات الدبلوماسية السابقة لسنتي 2021 و2022 خصوصا، التي كانت تنادي باستعادة المسار الديمقراطي والحاجة إلى عملية إصلاح تشمل الأطياف السياسية والمجتمع المدني.
تراجع الجانب الحقوقي ضمن الخطاب الدبلوماسي الأمريكي حلّ مكانه التركيزعلى الأبعاد الأمنية والاستراتيجية التي تعززت منذ تمكن تونس من الحصول على مرتبة الحليف الرئيسي من خارج حلف الناتو في سنة 2015. فإلى جانب مناورات الأسد الإفريقي، تحتضن تونس مناورات بحرية عسكرية متعددة الأطراف بقيادة أمريكية، وهي مناورات “فونيكس إكسبراس”. حيث استضافتها القاعدة البحرية بحلق الوادي لأول مرة في شهر ماي 2021، واستمرّ تنظيمها لأربع سنوات متتالية كانت آخرها في نوفمبر 2024 بمشاركة نحو 1100 عسكري وملاحظ من 12 دولة، هي تونس والولايات المتحدة والجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا والسنغال وتركيا وإيطاليا وجورجيا ومالطا وبلجيكا. وتبدو أنشطة هذه العملية البحرية متسقة تماما مع أهداف مذكرة التفاهم التي وقعتها تونس مع الاتحاد الأوروبي على مستوى مكافحة الهجرة غير النظامية بشكل أخص، والتي غالبا ما كان الخطاب الرسمي يميل إلى نفي دور تونس ك “حارس لحدود الآخرين” منها، في حين أن المناورات البحرية تأتي خير دليل على عكس ذلك. إذ تشمل التدريبات “تدعيم التناسق والتنسيق بين الطواقم البحرية وتدريب الأفراد وتعزيز قدراتهم على حسن استعمال المنظومات والمعدات والوسائل البحرية وتطوير مهاراتهم في التصدي للأعمال غير المشروعة بالبحر ولكلّ أشكال التهديدات والجرائم المنظمة كالتّهريب والإتجار بالبشر، حفاظا على أمن المتوسط واستقراره” كما ورد في بيان وزارة الدفاع التونسية حول التدريبات. وبالإضافة إلى الجانب العملياتي، يتمّ تنظيم “دروس نظرية وورشات عمل تطبيقية في عدد من المجالات البحرية، مثل زيارة وتفتيش السفن وتقنيات الغوص والاستعلامات البحرية ومقاومة الأسلحة البيولوجية والكيميائية والإسناد الصحي”، مما يوحي بشكل كبير بطبيعة الأهداف التي تندرج ضمنها هذه العملية.
صفقات الأسلحة والتدريب: بوابة رئيسية للارتباط العسكري
تُعتبر اتفاقية التعاون العسكري الأمريكي مع تونس، المُوقعة في سبتمبر 2020، والتي تمتدّ لعشر سنوات، أحد أهمّ الأطر الإستراتيجية المُنظمة للصفقات والمساعدات العسكرية الأمريكية لتونس. ولئن كانت العديد من بنود الاتفاقية سرية، إلا أنها قد وضعت خارطة طريق في التخطيط والتمويل لصفقات الأسلحة التي ستقوم بها تونس خلال الفترة من 2020 و2030، كما سبق وأن رجحت مصادر صحفية مقربة من وزير الدفاع الأمريكي الأسبق “مارك إسبر” الذي وقع على الاتفاقية حينذاك أن جزءا من الوثيقة يتعلق بتزويد الجيش التونسي ببعض الأسلحة الدقيقة وطرق التدريب عليها.
وقد أثبتت الوقائع في ما بعد صحة هذا التوقع، حيث تلقت تونس بداية من سنة 2021 ثلاث طائرات من طراز C-130 من احتياطي الجيش الأمريكي، آخرها تم تسلمها خلال شهر نوفمبر الماضي في حفل أقيم بقاعدة سيدي أحمد الجوية ببنزرت. كما سبق أن تسلمت تونس في 9 سبتمبر 2024 أربع طائرات استطلاع C208 بالقاعدة الجوية بالعوينة، وذلك في إطار هبة من الجيش الأمريكي ضمن فائض العتاد العسكري المعروف ب Excess Defense Articles وهي طائرات مخصصة لدعم القدرات العملياتية لجيش الطيران في مجال الاستعلامات والمراقبة وتتميز بسرعة في تمرير المعطيات والبيانات، وتُستعمل خصوصا في مجال الحرب على الإرهاب ومكافحة الجريمة العابرة للحدود. أما أهم الصفقات التي يُمكن الحديث عنها في هذا المجال، فهو قرار وزارة الخارجية الأمريكية الموافقة على صفقة عسكرية محتملة لتونس، تتضمن بيع 184 صاروخ جافلين للجيش التونسي مُقابل 107.7 مليون دولار، وتتضمن الصفقة كذلك ثلاثين وحدة إطلاق خفيفة الوزن من نوع جافلين وقطع غيار وتكاليف فريق التدريب المرافق للأجهزة، مما يجعل تونس البلد الإفريقي الثاني الذي يُمكن له الحصول على هذا النوع من الصواريخ بعد المغرب . أما في ما يتعلق بالبحرية، فقد تحصلت تونس خلال سنة 2024 أيضا على قوارب من طراز “سيف أرشنجل” ومعدات مرتبطة بها بقيمة 110 مليون دولار. ومن الملاحظ هنا أن صفقات الأسلحة الأمريكية للجيش التونسي قد تزايدت بشكل ملحوظ خلال سنة 2024، بالتزامن مع حرب الإبادة على غزة، في مفارقة مع الخطاب الرسمي التونسي الذي كان دائما ما يُندد بالدور الأجنبي في الإبادة.
إلى جانب الصفقات العسكرية والهبات، تحظى مشاريع التدريب العسكري الأمريكي بأهمية خاصة ضمن برامج التعاون العسكري التونسي المُشترك، حيث تعززت برامج التدريب بشكل لافت بعد الانقلاب. ومن أهمها برامج التعاون بين الحرس الوطني بولاية “وايومنغ” الأمريكية والجيش التونسي، عبر إرسال عدد من المهندسين الأمريكيين لتدريب عناصر من الجيش التونسي للتعامل مع المتفجرات، وتقديم الدعم والتدريب الأساسي للفيلق 61 هندسة بالجيش التونسي، وفيلق القوات الخاصة للجيش التونسي خلال مناورة تدريبية مشتركة في ولاية بنزرت. كما تضمنت مشاريع تدريب أخرى ضمن برامج تكوينية أمريكية عسكريين تونسيين قاموا بدورهم بتكوين عدد من القيادات العسكرية ببعض الدول الإفريقية. وقد توسّعت برامج التدريب نحو نية وزارة الدفاع الأمريكية لإنشاء مركز إقليمي للتدريب في بنزرت. ويُشير الباحث الأمريكي Grewal إلى التأثير العميق للمعايير العسكرية الأمريكية على هيكلة الجيش وتكوين القيادات العسكرية التونسية من خلال برامج التدريب الأمريكية مقارنة بالنموذج الفرنسي المُتّبع سابقا في التكوين العسكري.
ختامًا، يبدو التعاون العسكري التونسي الأمريكي على عكس الخطاب السائد، ضمن أعلى درجاته تبلورا، رغم تراجع المساعدات الأمريكية عموما إلى تونس خلال السنتين الأخيرتين. وهو خيار من شأنه أن يعزز دور المؤسسة العسكرية التونسية في الحياة السياسية وفي عملية صنع القرار بشكل عام. في حين تتراجع جرعات الأطروحة السيادية في الخطاب الرسمي التونسي حينما يتعلّق الأمر بالتعاون والتنسيق العسكري مع الولايات المتحدة، وفي مقابل ذلك تصمت مراكز القرار الأمريكية عن انتقاد المسار السياسي في تونس ومطباته، حفاظا على مصالحها الإستراتيجية في المنطقة.
متوفر من خلال: