مقالع كفرحزير التي غّيرت معالم البلدة - تصوير: نيولاين
أصدر مجلس الوزراء في تاريخ 29/5/2024 قرارًا مدّد بموجبه الترخيص “بشكل استثنائي” لخمس شركات ترابة لاستخراج المواد الأوّلية اللازمة لصناعة الترابة لمدة سنة كاملة، وذلك بحجّة تلبية حاجات السوق المحلّي. وفيما صدر القرار بناءً على اقتراح وزيريْ الصناعة والبيئة، فإنّه يأتي بمثابة تمرّد واضح على 4 قرارات أصدرها مجلس شورى الدولة في السنوات الأخيرة بإبطال قرارات حكومية بمنح مهل إدارية لاستثمار مقالع. كما يأتي بمثابة نقض للجهود الكبيرة التي بذلها الجيش اللبناني ووزارة البيئة نفسها من أجل تقدير الضرر الناجم عن المخالفات المرتكبة في معرض استثمار المقالع وبخاصّة من شركات الترابة وكلفة إعادة تأهيل هذه المقالع، وقد بلغ تقديرهما بأكثر من مليارين ونصف المليار دولار أميركي. وبذلك، بدت الحكومة وكأنّها تقفز فوق القوانين والقضاء وتضحّي بالبيئة من جبال ومياه وبحقوق الخزينة العامّة، كلّ ذلك من أجل ضمان مصالح شركات الترابة التي ما فتئت تُراكم ثروات طائلة ما كانت لتحقّقها لولا النفوذ الذي تتمتّع فيه داخل الحكومة والقوى السياسية الممثلة لها.
نظام “المهل الإدارية” بمخالفة القانون
أوّل ما نلحظه في هذا القرار استعادته نظام منح “المهل الإدارية” بمخالفة القوانين التنظيمية، بمعنى أنّ الحكومة تبيح لنفسها منح امتيازات خاصّة لجهات حدّدتها، بمخالفة القانون لمدّة معنيّة. وفيما تمّ إرساء هذا النظام بمنح مهل إداريّة في التسعينيات بحجّة ضرورات إعادة الإعمار بعد حرب 1975-1990 وغياب نصّ تنظيمي لقطاع المقالع، فإنّ اللافت أنّ الحكومات المتعاقبة استمرّت في منح هذه المهل الإدارية بعد وضع النصّ التنظيمي المتمثل في المرسوم 8803/2002، متذرّعة هذه المرّة بصعوبة تطبيقه أو الحاجة إلى تعديله. وهذا ما اعتبره مجلس شورى الدولة في بعض قراراته بمثابة تشجيع من قبل الحكومة على ارتكاب جرم استثمار مقالع من دون ترخيص وهو جرم يعاقب عليه حتى 3 سنوات وفق أحكام المرسوم 8803.
وهذا ما كشفت عنه بوضوح كلّي وزيرة الداخلية ريا الحسن في 2019 بقولها إنّها اكتشفت عند تولّيها الوزارة أنّ عشرات المقالع (150 على الأقل) كانت تدار من قبل سلفها نهاد المشنوق خارج أيّ صلاحية له. وهذا أيضًا ما عاد وأكده وزير البيئة آنذاك فادي جريصاتي بقوله إنّه لا يوجد إلّا موقع واحد مرخّص على أساس مرسوم 8803 لكن يوجد في المقابل أكثر من ألف موقع مخالف وناشط من دون أي ترخيص. آنذاك، سألت “المفكرة القانونية” ماذا ستفعل الحكومة بعدما أماطت اللثام عن إحدى أكبر جرائم الفساد؟ وقد أتى الجواب بعد 20 يومًا بعودة الحكومة لارتكاب الفساد نفسه الذي فضحته، بمنح مهل إدارية جديدة.
وفيما لم تشرح الحكومة أبدًا الأسباب التي تُعيق وضع المرسوم موضع التنفيذ أو الأسباب التي تستوجب تعديله أو التي تحول دون القيام بذلك، فإنّ التذرّع بصعوبة تطبيق المرسوم لا يولّد أيّ حق في مخالفته، طالما أنّه لا يزال نافذًا. كما أنّ التذرّع بحاجات العمران تدحضه أرقام رخص البناء وواقع ارتفاع عدد الشقق الشاغرة. ومن المهمّ بمكان في هذا الخصوص، التذكير بنتائج البحث الذي قام به مختبر المدنوالذي أثبت أنّ معدّلات الشغور مرتفعة جدًّا في بيروت (23%).[1]
وبتصرّفها على هذا النحو، تعود الحكومة لتؤكّد توجّهها في إبقاء قطاع استثمار الكسارات والمقالع قطاعًا خارجًا عن القانون يتعيّن على من يغامر فيه أن يُرضي القوى السياسية التي تمنحه امتياز مخالفة القانون وحق تجديده تحت طائلة فقدانه، مع ما يستتبع ذلك من احتكارات يتمّ التحاصص على منافعها بين هذه القوى.
التمرّد على قرارات قضائية مبرمة
ما يزيد من فداحة التطبيع مع المخالفة، أنّه يحصل رغم إصدار مجلس شورى الدولة 4 قرارات بإبطال قرارات حكوميّة في هذا الخصوص كما سبق بيانه. وقد صدرتْ هذه القرارات تباعًا في تواريخ 19/1/2022 و20/1/2022 و15/3/2022 و20/4/2023 وشارك فيها 6 قضاة وبالإجماع هم على التوالي: الرئيسة ميريه عفيف عماطوري والمستشارون جهاد صفا، ميراي داوود، ريان رمّاني، يوسف جميّل، وباتريسيا فارس.
وفيما كان واضحًا للحكومة أنّ قرارها يفتقد إلى أيّ سند قانوني، فإنّها عمدت إلى تظهيره على أنّه مجرّد تمديد اعتياديّ لقرار حكوميّ سابق، وهو القرار الذي كانت أصدرته الحكومة نفسها في تاريخ 15/2/2022. إلّا أنّ الحكومة نسيت من فرط حماستها أنّها بذلك تستند إلى قرار باطل غير موجود، سبق لمجلس شورى الدولة أن أبطله بقرار مبرم في تاريخ 20/4/2023.
وبذلك، يصل تمرّد الحكومة حدّ إعادة إحياء قرار باطل وبحكم غير الموجود، كل ذلك في انتهاك صريح لمبدأ فصل السلطات وإلزامية الأحكام القضائية (المادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة) التي تصدر “باسم الشعب اللبناني”، فضلًا عمّا يحمله قرارها من انتهاك جسيم لحقوق المجتمع ببيئة سليمة.
التحايل للتنصّل من استشارة شورى الدولة
لدى الاستفسار عن كيفية اتخاذ القرار الحكومي، علمت “المفكرة” من مصادر حكومية أنّ محاولة جرت في نيسان الماضي لتمرير قرار مشابه، اصطدمت برفض مجلس شورى الدولة له على خلفيّة تعارضه مع القرارات القضائية الصادرة عنه والمشار إليها أعلاه، فضلًا عن تعارضه مع الأحكام القانونية الملزمة. وقد جاء رفض مجلس شورى الدولة في إطار استشارته التي تكون وجوبية قبل التصديق على أيّ قرار تنظيمي من أيّ جهة رسمية. وعليه، ولتجاوز رفض مجلس شورى الدولة ووجوب استشارته، عمدت إلى تغيير صيغة القرار وماهيّته، بحيث حذفت منه كلّ الضوابط التنظيمية البيئية والمالية، محوّلة إياه إلى مجرّد قرار بمنح مهل إدارية للشركات من دون أيّة ضوابط (سوى الإشارة العامّة إلى وجوب التقيّد بتعاميم وزارة البيئة من دون أي تحديد). وعدا عن أنّ الحكومة بدت من خلال ذلك وكأنّها تتحايل للتنصّل من الرأي السلبي حتمًا للمرجع القضائي، فإنّها انتهت لهذه الغاية إلى التخلّي عنوة عن وضع أيّة ضوابط بيئية أو مالية، مكتفية بوجوب مراعاة التعاميم التي قد تصدرها وزارة البيئة من دون أية تفصيل.
التخلّي عن البيئة والخزينة معًا
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّ ما يميّز القرار الحكومي الحاضر عن الممارسات الحكومية السابقة، هو أنّه منح هذا الامتياز باستثمار مقالع خلافًا للقانون لجهات ثبت حكمًا أنّها مدينة للدولة بمبلغ يتجاوز وفق التقديرات الأخيرة لوزارة البيئة مليارين ونصف المليار دولار، وهي التقديرات التي انبنتْ على مسح الجيش للأضرار التي سبّبتها المقالع في الجبال والمياه وكلفة إعادة تأهيل مواقعها. وفيما أجرت وزارة البيئة فيما بعد استشارات واسعة حول آليات تحصيل حقوق الخزينة العامّة، يسجّل أنّها عادتْ وانخرطتْ في منح مهلة إداريّة جديدة (سنة كاملة) لشركات الترابة المدينة بالنسبة الأكبر من الدين المذكور من دون أن يثبت تحصيلها لأي فلس منها. بمعنى أنّ وزارة البيئة لم تتخلّ وحسب عن مسؤوليتها الأساسية التي هي الحفاظ على البيئة، إنّما أيضًا عن حقوق الخزينة العامّة التي كانت فاخرت سابقًا ببذل جهود كبيرة من أجل تحصيلها، كلّ ذلك في فترة الدولة فيها بأمسّ الحاجة إلى موارد ما برحت تستجديها هنا وهنالك.
هل يوقف شورى الدولة تنفيذ القرار بمنح امتيازات التدمير؟
قدّمت “المفكرة القانونية” بالتعاون مع جمعيات بيئية في تاريخ 7/6/2024 مراجعة أمام مجلس شورى الدولة سجّلت تحت الرقم 25722 لإبطال القرار الصادر عن الحكومة في تاريخ 28/5/2024 بناءً على اقتراح وزيريْ البيئة والصّناعة، الرامي إلى منح شركات الترابة مهلة إداريّة إضافيّة لاستكمال استخراج الموادّ الأولية من خلال استثمار المقالع والكسارات، لمدّة أقصاها سنة. وقد استندتْ مراجعة الإبطال على صدور القرار خلافًا لمبادئ قانونية ودستوريّة عدّة، أبرزها “مبدأ القضية المقضية” بفعل استناده إلى قرار حكومي سابق تمّ إبطاله صراحة من مجلس شورى الدولة، فضلًا عن تعارضه مع 3 قرارات مبرمة أخرى صدرت عن المجلس نفسه بإبطال قرارات إعطاء مهل استثنائيّة لاستثمار المقالع. كما أعابَت المراجعة على الحكومة الالتفاف على وجوب استشارة مجلس شورى الدولة من خلال التّلاعب في صياغة القرار وتحويله من قرار تنظيمي إلى قرار فرديّ. يضاف إلى ذلك كلّ ما كان شورى الدولة استند إليه من قبل، لإبطال القرارات الحكومية السابقة، وأهمّها مخالفة شروط الترخيص المنصوص عنها بالمرسوم 8803 الناظم للمقالع والكسّارات. وقد ترافقت الدعوى مع طلب وقف تنفيذ القرار، وذلك لما يتضمّنه من مخالفات فاضحة ولما لتنفيذه من ضرر مباشر على البيئة وصحة السكان والمياه الجوفية والجبال.
نشر هذا المقال في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.