التضييق على الفضاءات الثقافية: “أغورا” البلاد تحت التضييقات الأمنيّة


2025-05-27    |   

التضييق على الفضاءات الثقافية: “أغورا” البلاد تحت التضييقات الأمنيّة

نشرت صفحة مقهى بيبليوتي biblio’thé مقطعًا على انستغرام، يظهر فيه خليل الحبيبي، صاحب المقهى وهو يتحدّث عن التضييقات التي تعرّض له هذا الفضاء، إذ رفضت الجهات الأمنية تمكينه من تنظيم نشاط ثقافي، رغم حصوله على موافقة الكتابة العامّة لبلديّة تونس. تحدّث خليل في هذا المقطع عن سبب إحداث هذا الفضاء، الذي يهدف إلى “إدماج الشباب في الحياة الثقافية في ظلّ الغياب الملحوظ لمؤسّسات الدّولة”. استطاع هذا الفضاء احتضان عدد من الأنشطة والتظاهرات، والتعريف بمنتوجات عدد من صغار الحرفيّين، وتوفير مواطن شغل مباشرة وغير مباشرة لعدد من الشّباب. 

يأتي هذا الإعلان بعد سلسلة أحداثٍ هدفتْ إلى التضييق على الفضاءات الثقافية، وبخاصّة على الفضاء الحرّ الذي غالبًا ما مثّلته قاعة “الريو” في العاصمة، مما يشكل مؤشّرا مقلقاً إضافياً على مستقبل الحريات في تونس. 

ففي 10 أفريل المنقضي، كان من المُقرَّر أن تنتظم مُحاكَمة صوريّة في قاعة “الرّيو” بالعاصمة، تُحاكي كيفيّة سير الجلسات داخل المحاكم، وتُوضّح أسس المحاكمة العادلة، وذلك قبل يوم من انعقاد الجلسة الثانية فيما يُعرف بملفّ التآمر على أمن الدّولة، قبل صدور الأحكام السّجنيّة يوم 19 أفريل فجْرًا، التي شابتها خروقات إجرائيّة في كيفيّة تسييرها، لعلّ أبرزَها عدمُ جلب المُعتقَلين إلى قاعة المحكمة وحرمانُهم من الحقّ في الدّفاع عن أنفُسهم. إلّا أنّ هذا النّشاط قد مُنِع بقرار أمني، دون تفسير. يقول بسام الطريفي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تعليقا على هذا القرار إنّ هذا النشاط لا يخضع إلى ترخيص مُسبق لأنّه كان سيُنظَّم في فضاء خاصّ، مُعتبرا أنّ هذا المنع هو “فاصل جديد يأتي في إطار التضييق على عمل المجتمع المدني وإسكات الأصوات المنادية بالحقوق والحريات والمحاكمة العادلة”.  

 تكرّر المنع ثانيةً بقرار أمني حين قرّرت عائلة الصحافي المعتقل مراد الزغيدي تنظيم تظاهرة تضامنيّة في قاعة الرّيو يوم 11 ماي الجاري. وعلّقت الشبكة التونسيّة للحقوق والحرّيات على هذا القرار في بيان لها بأنّه “خرق صارخ لحرية التعبير والتجمع”، مؤكّدة أنّ “محاولات إسكات الأصوات الحرة لن تثنيها عن مواصلة النضال من أجل الحق في التعبير”. 

المقاهي الثقافية: أفضية بديلة للنقاش العام

تُشكّل هذه القاعات مُتنفَّسًا وفضاءات آمنة للحوار في ظلّ التضييق على حريّة التعبير وتسليط المرسوم 54 ومجلّة الاتصالات وغيرها من القوانين الزّجرية السالبة للحريّة. لكنّها أصبحت الآن تُجابَه بتدابير إدارية وأمنيّة تُضيّق على نشاطها، مثلما حصل مع مقهى “بيبليوتي “Biblio’Thé” الّذي لم يتحصّل على موافقة أمنية من أجل تنظيم نشاط موسيقي بالمقهى أيّام 15-16-22-23 ماي الجاري من الساعة الثامنة إلى الحادية عشرة ليلا. “وافقت البلدية مرجع النّظر على مطلبنا الّذي توجّهنا به إلى مركز الشرطة، ودفعنا المعاليم المُستوجَبة، وهي 400 دينار، بحساب 100 دينار عن كلّ يوم نشاط. دعانا رئيس مركز شرطة نهج كولونيا من الغد للحضور، فامتثلنا على اعتبار أنّ ذلك يُعدّ إجراءً عاديًّا”، يقول خليل الحَبيبي صاحب مقهى بيبليوتي للمفكّرة القانونية، مُضيفًا أنّ الاستدعاء أصبح يُشبه التحقيق إلى حدّ ما، وأَذِن رئيس المركز بوضع عبارة “مع عدم الموافقة الأمنيّة” على الرخصة التي قدّمتها البلديّة للقائمين على المقهى، وحين سأله خليل عن سبب ذلك لم يُقدّم له إجابة، لكنّه تحدّث معه عن احتضان المقهى لبعض الأنشطة والتظاهرات الدّاعمة للقضيّة الفلسطينيّة، وعن ارتياد عدد من المشاركين في المظاهرات للمقهى ذاته. “تمّ تهديدُنا بطريقة غير مباشرة أنّه في صورة تنظيم هذا النشاط فإنّ مركز الشرطة سيحجز معدّاتنا”، يتحدّث خليل للمفكّرة. وتعليقًا على هذا المنع، أصدرت جمعيّة تقاطع للحقوق والحرّيات بيانًا في 19 ماي عبّرت فيه عن “دعمها الكامل وتضامنها المبدئي وغير المشروط مع مقهى “Biblio’Thé”، مُدينةً ما يتعرّض له من “مضايقات أمنيّة متكرّرة”. وحذّرت الجمعيّة من خطورة هذه الممارسات التي تمسّ جوهر الحقوق والحريات الفردية والجماعية المكفولة بالدستور والمعاهدات الدّولية. 

تأسّس فضاء بيبليوتي منذ ثلاث سنوات، كمقهى من الصنف الأوّل وفق كراس الشروط الّذي يشمل المقاهي وقاعات الشاي والمَشَارب، ليُوفّر مكانًا ملائمًا للمراجعة والمطالعة، إلى جانب توفير مادّة القهوة كنشاط أساسي في عمله. يعمل خليل الحبيبي على تطوير هذا المشروع إلى مركز ثقافي تحت إشراف هياكل وزارة الثقافة، يخضع إلى كرّاس الشروط المتعلّق بإحداث واستغلال مركز ثقافي خاصّ الّذي يشترط في فصله 11 أن “تكون للمسؤول عن المركز خبرة لا تقل عن خمس سنوات في المجال الثقافي يتم إثباتها عبر ملف مدعم بكل الوثائق والمؤيدات الضرورية”، وهو ما يسعى إليه خليل عبر تنظيم أكثر من مائتَيْ تظاهرة فنيّة ومسرحيّة، إلى جانب توفير مساحة لعرض منتجات بعض صغار الحرفيّين، وتخصيص أنشطة وندوات تقوم بها الجمعيات، مثل منظّمة “ألرت” التي تشتغل على مسألة الاقتصاد الرَّيعي، والمفكرة القانونية الّتي عقدت فيها سلسلة من النّدوات بعنوان كيف ننتصر لفلسطين. يعتبر خليل الحبيبي أنّ البلديّة هي الهيكل الوحيد المُخوَّل له إسناد رخصة تنظيم أنشطة من عدمه، وأنّه لا دخل للشرطة في ذلك.

يتحدّث خليل  للمفكّرة عن امتثاله للإجراءات الإداريّة بصفته مسؤولًا عن المقهى، حيث يُبادر بتقديم مطلب للبلديّة للحصول على ترخيص في القيام بنشاط ثقافي ويدفع المعلوم المستوجَب. لكن في بعض الأحيان تُجيب البلديّة عن المطالب بعد التاريخ المُقرَّر لتنظيم التظاهرة، وأحيانًا أخرى تُجيب قبل يوم فقط من موعد العرض، ممّا يحول دون الترويج للنشاط ونشره على نطاق واسع لضمان حضور الجمهور. وفي السنة الماضية، انتظمت تظاهرة فنيّة تضامنية مع الشاب رشاد طمبورة الّذي يقبع في السّجن، أمّنها الفنّان الراحل ياسر الجرادي في مقهى بيبليوتي. “بعد هذه التظاهرة قدِم رئيس فرقة الإرشاد إلى المقهى وطلب منّي الحضور إلى مركز شرطة نهج كولونيا وسألني عن مواقفي وانتماءاتي وشرَحتُ له وجهة نظري فيما يخصّ تنظيم التظاهرات. فقال لي إنّ تونس تمرّ بفترة حرجة، واقترح عدم تنظيم تظاهرات سياسية والاكتفاء بالإعلام فقط فيما يخصّ الأنشطة الأخرى، فاستجبنا لذلك ولكن فوجئنا بعودة العمل بنظام الرُّخَص في تنظيم التظاهرات”، يقول خليل الحبيبي للمفكرة القانونية.

فضاء الريو: إيمان بالثقافة في معناها المُوسّع

“نحن فضاءات ثقافية مفتوحة لعموم الشعب، ولا أحد بإمكانه أن يُعطّل حريّتنا. الثقافة في معناها الواسع تشمل الجانب السياسي والنقابي والاقتصادي والاجتماعي، ولو كان هناك ترخيص للقيام بنشاط سياسي لطلبنا ذلك من الجهات المختصّة”، يقول الحبيب بالهادي صاحب فضاء الريو، للمفكرة القانونية، ويُضيف: “نحن مواطنون نمارس حقّنا ويجب أن نكون حاضرين في الأوقات العصيبة، لندافع عن الجميع ونمنح مساحة حرّة لكلّ من يُريد الخير لهذه البلاد. نحن موجودون بالأساس للتّجميع وخلق فضاءات للحديث عن كلّ المواضيع: الفن والسياسة والترفيه وغير ذلك. نحن أغورا هذه البلاد”.

لا يتمّ منع تنظيم التظاهرات عادةً بوثيقة مكتوبة أو بمراسلة رسميّة، بل بطلب مباشر من الجهات الأمنيّة. لا يُنكر الحبيب بالهادي أنّ أعوان مركز الأمن بمنطقة باب بحر الّذي تدخل قاعة الرّيو ضمن اختصاصه الترابي والإداري يتعاملون باحترام مع القائمين على قاعة العروض، وفي بعض المرات يتدخّل رئيس المركز شخصيًّا للتفاوض بشأن منع انعقاد بعض التظاهرات، غير أنّ الكفّة مُرجَّحة أكثر بطبيعة الحال لمن يملك سُلطة القرار. “ندرك جيّدًا أنّ ميزان القوى ليس في صالحنا والكفّة مُرجَّحة أكثر للجهة الأمنية، وندرك أيضًا أنّ هذا المنع ليس قانونيًّا ولا دستوريًّا، وهو ما أقوله أمام الأعوان ولكن ما عسانَا أن نفعل؟”. ورغم ذلك، تواصل قاعة الرّيو احتضان التظاهرات والفعاليات الثقافية النضالية، مثل مهرجان 27-20 لجمعيّة لينا بن مهنّي، وأنشطة المنظّمات المناهضة لتجريم العمل المدني، وندوات المنظّمات المعنيّة بالشأن البيئي والمناخي، بالإضافة إلى احتضان عدد من ندوات  المفكرة القانونية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني