كنتُ قد كتبتُ منذ سنوات بأنّني لا أحبّ الاحتفال باليوم العالميّ لحقوق النساء الذي ترعاه الأمم المتحدّة، الوجه الحديث والناعم للطغيان الاستعماريّ الغربيّ، ومازلتُ مُصرّة على موقفي. كَيف لمؤسّسة تحاول اقتلاع غضبنا الثوريّ واستبداله ببرامج تنمويّة إصلاحيّة تؤسّس لحالة تبعيّة أبديّة أن “تُشجّعنا” على مناهضة الأبويّة المُتحالفة مع الرأسماليّة؟ كيف لمؤسّسة تنتصر للنسويّة الليبيراليّة البيضاء وتدسّ السمّ في العسل أن تفهم المشاكل البنيويّة لنساء دول الجنوب؟ وكيف لنا أن نتماهى مع دعوات الاحتفال بتاريخ لم نُساهم في وضعه؟
عندما اقترحت النسويّات الأوروبيّات إقامة يوم سنويّ للاحتفال بإنجازاتهنّ كانت أغلب دول منطقتنا ترزح تحت احتلال أنظمتهنّ. في السنة نفسها تقريبا التي بدأ فيها الاحتفال بشكل رسمي بـ”يوم المرأة العالمي” (1911) قرّر الإيطاليّون غزو ليبيا، وقرّر الفرنسيّون احتلال المغرب، ووقعت انتفاضة الجلاّز الشهيرة في تونس ضدّ قوّات الاحتلال الفرنسيّ، وبدأت موجات الهجرة في الجزائر أو ما يُعرف بـ”الهجرة التلمسانيّة” كأحد تداعيات المشروع الاستيطانيّ. كنّا في تلك الفترة وما قبلها نُجابه آلة الاستعمار الوحشيّة ولم نكن نفكّر في حقّنا في التصويت. كنّا في تلك الفترة وما قبلها نناضل ضمن حركات التحرير الوطنيّة لاستعادة أرضنا ولم نكن نمتلك نفس امتيازات البيضاوات اللاّتي يعتقدن أنّهنّ عرّابات النسويّة في العالم.
أيقظ السابع من أكتوبر 2023، وما لحقه من إبادة جماعية، غضبنا الثوريّ التوّاق للتحرّر من كلّ أنظمة القهر. مَثّلَ صرخة مدويّة في وجه النسويّات المُتحالفات مع السلطة والمُستكينات داخل مكاتبهنّ واللاّتي لا يعرفن شيئا عن واقع النساء التقاطعيّ في دولنا المُفقّرة. حاولن المراوغة بتصدير خطابات التعاطف مع المُجنّدات الإسرائيليّات وتبنّي قصص اعتداءات جنسيّة كاذبة بحق الأسيرات في قطاع غزّة، لكنّهنّ لم يصمدن كثيرا أمام موجة التضامن العالميّة والمجهود المضني الذي بذلته النسويّات في منطقتنا أساسا وفي العالم لتفنيد رواية الاحتلال المغشوشة والتي يحاول من خلالها التغطية على جرائمه البشعة لمواصلة حرب الإبادة. قرّرت العديد من المؤسّسات الأجنبيّة المانحة قطع التمويل عن منظّمات نسويّة وكويريّة عربيّة دعمت بشكل واضح وعلنيّ الحقّ الفلسطينيّ. عملت آلة الدعاية الاحتلاليّة للضغط علينا كي نصمت، كما تواطأت العديد من الأنظمة العربيّة مع الإمبرياليّة الغربيّة لمنع المسيرات الاحتجاجيّة المُساندة للمقاومة الفلسطينيّة وقمع المتظاهرين والمتظاهرات. تآمرت القوى الاستبداديّة ضدّنا كي تظلّ سرديّاتنا مُهمّشة وكي نظلّ بلا كلمة أو لغة أو صوت.
كتب سارتر مقدّمة كتاب فرانز فانون “معذّبو الأرض” والذّي يُعدّ مرجعا مُهمّا لفهم العلاقة المركّبة بين المُستعمِر والمُستعمَر، تحدّث فيها عن امتلاك الكلمة بقوله: “البعض يمتلكون الكلمة وآخرون يستعيرونها”. لم نعد نستعير كلماتنا فقد وهبنا الغضب المتفجّر الفرصة كي نصنع كلماتنا بأنفسنا، كي نصنع لغة واضحة كطلقة مُسدّس. لغة المقاومة. كلّ ما لم نستطع فعله بالأمس نحاول تحقيقه اليوم بإعادة امتلاك أصواتنا وبالتالي مصائرنا، فكانت أولى الخطوات أن نترك تلك الأوروبا التي تتشدّق بالحديث عن الإنسان والإنسانيّة وأياديها مغسولة بالدّم. تلك الأوروبا التي أعمَت أنوارها الخادعة بصائر الكثيرين منّا حتّى نسوا أنّ فصولا كثيرة من قوانيننا الجزائيّة التي تهدف إلى السيطرة على أجسادنا وحرّياتنا نُسخ حرفيّة من القوانين الاستعمارية.
منذ السابع من أكتوبر، ونحن في حالة غليان. أعدنا طرح نفس الأسئلة التي كنّا نطرحها مرارا وتكرارا، هل نُريد أن نكون مجرّد ناقلات لتاريخ لم نكتبه أم نصنع تاريخا مضادّا للسرديّة المُهيمنة؟ هل نُريد أن نكون رجع صدى لخطابات النسويّة الاستعماريّة أم نؤسّس لحراك نسويّ مُسيّس يُشبهنا ويُشبه سياقاتنا وظروفنا؟
تتالت البيانات السياسيّة للحركات النسويّة في المنطقة تعبيرا منها عن تضامنها مع القضيّة الفلسطينيّة. لم تكن بيانات تضامن تقليديّة ومُتوقّعة بل أعادت مساءلة تموقع حراكاتنا النسويّة المحليّة في مسار مناهضة الاستعمار وأعادت تسييس التضامن النسويّ الذي يجب أن يكون نموذجا للرفض ومُشتبكا مع كلّ القضايا بتقاطعاتها المختلفة. تضامن نسويّ يقطع مع النسويّة الليبيراليّة المُهيمنة في الغرب والناشئة في بلداننا.
أنتمي إلى حركة نسويّة كويريّة راديكاليّة وهي حركة فلقطنا Falgatna. لم نكن قبل السابع من أكتوبر نتجرّأ على القول علانيّة بأنّنا نؤمن بالعنف الثوريّ لأنّه لا مجال لمجابهة العنف الاستعماريّ دون سلاح. نشرنا بيانا اصطففنا فيه إلى جانب المقاومة المسلّحة وكتبنا الآتي: “النسويّة لا تتعاطف مع المُستعمِرات والمُجنّدات لمجرّد أنّهنّ نساء. النسويّة لا تقف إلى جانب السلطة كيفما كانت وحيثما وُجدت. نسويّتنا تؤمن بالعنف الثوريّ وتُناهض خطابات السلام التي تنسف حقّ الفلسطنيّين.ات في استرداد الأرض كلّ الأرض ولا تقبل بأنصاف الحلول وأنصاف المواقف”.
بعدها أصدرت مجموعات ومؤسّسات نسويّة بيانا مطوّلا شاركنا في توقيعه تحت عنوان “مناهضة الاستعمار قضيّة نسويّة” وجاء فيه ما يلي: “نرى في النسويّة فكرا وممارسةً تحرّرية تحارب الظلم والقمع وتسعى بالدرجة الأولى إلى إحقاق العدالة وتفكيك علاقات القوى. المقاومة الفلسطينيّة بكافة أشكالها ممارسة مجيدة في مواجهة منظومة استعماريّة متوحّشة تفتك بالملايين منذ عشرات السنوات، ولذلك نباركها ونرى أنها جزء من صراعنا من أجل عالم أكثر عدالة”.
أصدرت بدورها منصّة “نحو وعي نسويّ” وهي منصّة نسويّة كويريّة إفريقيّة بيانها “نسويّة لا تُجابه الاستعمار لا يُعوّل عليها” والذي فكّكت فيه مسألة توظيف خطابات حقوق الإنسان والنسويّة الليبيراليّة خدمة للاستعمار: “العديد من الأنظمة الاستعمارية التي تُمارس الاغتصاب كسلاح حرب ضد نساء المستعمرات، استطاعت أن تتلاعب بالحركات النسوية غير المؤطرة سياسيًا والمنعزلة عن أي مشروع ثوري مناهض للاستعمار في تحقيق سرديتها الهادفة لكسر التضامن أو تبني الفعل المقاوم”.
في بيان الإضراب العالميّ من أجل غزّة بمناسبة اليوم العالميّ لحقوق النساء والذي حمل شعار “لا مستقبل دون غزّة، لا نضال نسويّ دون غزّة” كانت الدعوة صريحة لاستغلال هذا اليوم “لمواجهة النظام الأبويّ والاستعمار وأدواته في كلّ بقاع الأرض من فلسطين إلى الصحراء الغربيّة إلى السودان وكردستان والكونغو وحتّى هايتي وتيجراي”. يبدو أنّ العديد من النسويّات يعتبرن 8 مارس تاريخا يُمكن افتكاكه وتحويله إلى مناسبة ثوريّة. أحترم هذه المساعي وأدعمها لكنّني مازلتُ مصرّة على موقفي الرافض لهذا التاريخ، ليس من باب المناكفة والاعتراض من أجل الاعتراض بل لأنّني أطمح إلى صناعة تاريخ جديد خاصّ بنا، مثلما أطمح إلى إعادة تعريف مفهوم الأختيّة وموضعته أي إدراجه ضمن سياق حركاتنا النسويّة المحليّة وتحويله إلى ممارسة فعليّة عوض أن يكون مصطلحا مستوردا ومُحمّلا بقيم بيضاء لا تُشبهنا.
صحيح أنّ ذاكرتنا الجماعيّة كنساء مطبوعة بتجارب قهر مُشتركة لكن هذا لا يعني أنّ حيواتنا متماثلة وخبراتنا واحدة. تنتقد بيل هوكس نموذج الأختيّة البيضاء الذي يمنعنا من تطوير روابط مستدامة أو تضامن سياسي حقيقيّ بيننا لأنّه قائم على فكرة الاضطهاد المُشترك والمطالب المُشتركة والسياقات المُشتركة. يخلق هذا النموذج من الأختيّة نوعا من الاغتراب داخل الحراكات النسويّة فالكثيرات منّا يُعانين من آثار قهر متعدّد الأبعاد والأوجه. قد يبدو هذا الكلام مُكرّرا ومحفوظا إذ تعتبر الكثير من المجموعات النسويّة أنّها تتبنّى التقاطعيّة كعدسة تفهم من خلالها تنوّع تجارب النساء لكنّ التقاطعيّة لم تتحوّل بعد إلى ممارسة متجذّرة وأداة تضامنيّة. لا أعتقد صدقا أنّ نساء الصحراء الغربيّة يعتبرننا تقاطعيّات كفاية لأنّ قضاياهنّ مُهمّشة مثلها مثل قضايا نساء السودان أو موريتانيا أو ليبيا أو اليمن. ليس القصد من هذا الكلام أن نجلد أنفسنا ونُبخّس مجهوداتنا بل أن نفكّر سويّا وبشكل مُستمّر في ممارساتنا كي لا تتحوّل نسويّتنا إلى صنم وأختيّتنا إلى غطاء يُستخدم لإخفاء خلافاتنا واختلافاتنا الجوهريّة.
أثبتت كلّ البيانات السابق ذكرها وغيرها أنّنا بدأنا فعليّا في مرحلة تشكيل خطابات نسويّة وكويريّة خاصّة بنا وأنّ أشكال تضامننا النسويّ ستقوم في المستقبل على مبدأ هدم أنظمة الاستعمار والأبويّة والرأسماليّة. الطريق نحو أختيّة تُشبهننا ليست وعرة إلى هذه الدرجة، يُمكننا خلق مساحات مُشتركة للبوح والتعلّم وتبادل التجارب، يُمكننا خلق أختيّة مُتضامنة ومُتكاتفة ومُتآزرة لا مجال فيها للهرميّة والعموديّة. نحن لا نعرف ما هو الأفضل لغيرنا وعلينا ألا نُعيد إعادة إنتاج النموذج النسوي الاستعماري الذي يتكلّم نيابة عن النساء المُهمّشات. صراعاتنا ليست أحاديّة هناك مُستعمِر عنصريّ يجب القضاء عليه، ونسويّة بيضاء يجب هدمها، ونظام اقتصاديّ رأسماليّ يستحقّ منّا الكثير من المجهود كي نفكّر في بدائل ثوريّة له، وأبويّة نحتاج في مسار تقويضها أن نكون مُلتحمات.