التصعيد المصري الإسرائيلي: جعجعة بلا طحن


2025-03-22    |   

التصعيد المصري الإسرائيلي: جعجعة بلا طحن
تعزيزات عسكرية مصرية في مدينة العريش في شمال سيناء

منذ بداية الحرب الأخيرة على غزّة، شهدت ساحات الإعلام وأروقة السيّاسة تراشقًا وتصريحات ناريّة بين مصر وإسرائيل، مما أثار تساؤلات البعض وقلقهم بشأن ما إذا كان البلدان على شفا حرب حقيقية. في يناير الماضي، اتهم يحيئيل لايتر، السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، مصر بتعزيز وجودها العسكري في سيناء، وإنشاء قواعد لأغراض هجومية، وانتهاك معاهدة السلام لعام 1979. أدلى لايتر بهذه التصريحات خلال اجتماع مع مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى، وذلك قبيل لقاء نتنياهو مع ترامب.

تبع ذلك بعض التصريحات من مسؤولين إسرائيليين مثل هرتزي هاليفي رئيس أركان جيش الاحتلال آنذاك الذي تحدّث عن “توجّسه” من قدرات الجيش المصريّ في فبراير الماضي، ثم في مارس الحالي قال وزير دفاع إسرائيل يسرائيل كاتس أنّ تل أبيب لن تسمح لمصر بما سمّاه “انتهاك معاهدة السلام المُوقعة بين البلدين”.

وقد يكون أهم خبر أحدث دويّا في وسائل الإعلام التقليديّة ومنصّات التواصل ما بثته قناة “العربية” في 11 فبراير، وهو تقرير مثير حول عرض عسكريّ ضخم لقوات الأمن المركزي (ذات الطابع العسكري) التابعة لوزارة الداخلية، زاعمة أنه خبر عاجل حول حشد أمني في شمال سيناء. وتلقّفت وسائل الإعلام المختلفة والصفحات المؤيدة للنظام المصري ذاك التقرير بكل حماسة مدللين على رعب إسرائيل من الحشود المصرية وعلى مدى قوة الدولة المصرية في تصدّيها لمؤامرات إسرائيل الإقليمية.

هل البلدان على شفا حرب فعلا؟ هل تحشد مصر قوّاتاً إضافيّة في سيناء في خرق لمعاهدة السلام؟ هل تستعدّ مصر للحرب؟ 

مجرّة الحسابات الوهميّة والأخبار الزائفة

على منصّات التواصل الاجتماعي، تروج حسابات وصفحات مزيّفة ومؤثّرون مصريّون لرواية بديلة، تصوّر إسرائيل على أنها تستعدّ لغزو مصر، وجهاز المخابرات العامة المصريّة منخرط في حروب تجسّس وعمليات سريّة على طريقة “رأفت الهجان”، والجيش المصري يحشد قواته لتهديد إسرائيل وتنفيذ عمليات كوماندوز، وغير ذلك من السرديّات الخياليّة. وفي قلب هذا الهراء، يتموضع “الزعيم القوي” عبد الفتاح السيسي، الذي يتصدّى لمؤامراتٍ كونيّة، ويدعم الفلسطينيين، ويحمي سيادة مصر وأمنها القومي.

ولا تقتصر هذه الدعاية على الفضاء الإلكتروني، بل إن القنوات الإعلامية التابعة للمخابرات العامة تمتلئ بمحلّلي النظام الذين يصرخون ليلًا ونهارًا، محذرين المصريين من الأخطار المحدقة بالدولة، ومستغلين أي محتوى مناهض لمصر تنشره مواقع إسرائيلية مغمورة أو حسابات مجهولة على وسائل التواصل الاجتماعي، للترويج لفكرة أن الحرب وشيكة.

نمر من ورق

رغم وجود توترات بين القاهرة وتل أبيب حول عدة قضايا، أبرزها مخططات تهجير الفلسطينيين، فإن أقصى ما يمكن للنظام المصري فعله هو مجرد البروباغندا، لا أكثر ولا أقل. فقد كانت مصر يومًا قوة مهيمنة إقليميًا، لكن نفوذها تراجع تدريجيًا. وأصبحت دولة تعيش على الديون وتعتمد على المساعدات المستمرة من المانحين الدوليين والإقليميين، وهي عملية بدأت منذ عهد أنور السادات وتسارعت تحت حكم السيسي. أما الجيش المصري، فهو مؤسسة بيروقراطية متضخمة منعدمة الكفاءة، مهووسة بشكل أساسي بالأمن الداخلي وتحقيق الأرباح الاقتصادية، وقدراته محدودة على خوض حروب تقليدية أو عمليات مكافحة التمرد في مناطقه السابقة للنفوذ. أما مواجهة قوة عسكرية متقدّمة ومدعومة من الغرب مثل إسرائيل، فليست واردة على الإطلاق.

سيناء

تعدّ قضية سيناء مثالًا صارخًا على التحوّل الجذريّ في العقيدة العسكرية والأمنية لمصر بعد عام 1979. ففي عام 2005، سمحت إسرائيل لمبارك بزيادة وجود الجيش المصري في سيناء بـ750 عنصرًا، لحماية الحدود بعد انسحاب إسرائيل من غزة. وبعد ذلك بعامين، شارك الجيش المصري، بالتنسيق مع إسرائيل، بشكل مباشر في حصار غزة لمعاقبة حماس. واستمر هذا الحصار لأكثر من عقد، مع فترات انقطاع قصيرة، مما تسبب في كارثة إنسانيّة حادة في القطاع. وفي عام 2011، سمحت إسرائيل بزيادة عدد قوات الشرطة المصرية (المعسكرة) بألف جندي إضافي لحماية خط أنابيب الغاز. ولو افترضنا بأن ضباط الجيش المصري كانوا غير راضين عن معاهدة السلام كما يزعم مناصرو النظام، لكان تم تعديلها أو إلغاؤها بعد استيلاء الجيش على السلطة عام 2013. لكن العكس تمامًا هو ما حدث، إذ تعزز التحالف بين الجيشين المصري والإسرائيلي إلى مستوى غير مسبوق.

منذ انقلاب 2013، وافقت إسرائيل، بل وربما شجعت، الطلبات المتكررة من القاهرة لزيادة وجود قواتها في سيناء، مما أدى فعليًا إلى تعليق الملحق الأمني لمعاهدة السلام الذي ينص على نزع السلاح في المنطقة. وبحلول عام 2018، بلغ عدد القوات المصرية المنتشرة هناك، بموافقة إسرائيل، 88 كتيبة تضم حوالي 42,000 جندي. بالإضافة إلى ذلك، تدخل المسؤولون الإسرائيليون وجماعات الضغط مرارًا لصالح الجيش المصري لإلغاء تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية وتسهيل صفقات الأسلحة. والأهم من ذلك، أنه ولأول مرة في التاريخ، بعد انقلاب 2013، سمح النظام العسكري المصري لإسرائيل بشنّ غارات جوية منتظمة في سيناء ضدّ أهداف يُزعم أنها إرهابية. لذا، فإن أي حديث عن اعتبار إسرائيل عدوًا في العقيدة الاستراتيجية للجيش المصري، أو أن الوضع في سيناء يسبب استياءً، هو مجرد تزييف للواقع. أما الموقف المصري “الحازم” تجاه تهجير الفلسطينيين، فهو ينبع من مخاوف أمنية داخلية حقيقية. فالقضية الفلسطينية عامل تثوير وتسييس في مصر والعالم العربي منذ النكبة. وكما صرح السيسي علنًا، فإن إعادة توطين سكّان غزّة في مصر لن تمرّ من دون تداعيات، قائلًا: “سيناء ستصبح قاعدة لعمليات ضدّ إسرائيل، وهي عمليات ستتحمل مصر عواقبها”.

لا تغيير يذكر

الحرب الكلامية التي لا تتعدى التصريحات النارية مفيدة للسيسي في تعزيز الدعم لنظامه ودعاويه للاصطفاف وراء القيادة السياسية والجيش أمام الخطر المحدق–وسط الغضب الشعبي المتزايد بسبب الأزمة الاقتصادية والقمع الوحشي لأي معارضة. لكن على أرض الواقع في سيناء، لا يوجد أي تغيير حقيقي.

فقد حُذف الفيديو الذي يتضمن تصريحات لايتر التحريضية حول سيناء بسرعة من المنصات الإلكترونية. كما سارع رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، رون لاودر، إلى لقاء السيسي لتهدئة التوترات وإعادة تأكيد العلاقات الدبلوماسية. وتؤكد مصادر ميدانية في سيناء عدم حدوث أي تغيير كبير في التواجد العسكري، حيث لم تتمركز أي دبابة هناك من دون إذن إسرائيل ومراقبة قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات (MFO). وقد شاهدت القوات المصرية الاحتلال الإسرائيلي لممر فيلادلفيا خلال الحرب دون أن تحرك ساكنًا. وعندما قتلت إسرائيل جنودًا مصريين، سعى نظام السيسي إلى التقليل من الحادث، واصفًا إياه بأنه “حادث بسيط” و”لا يحمل أي دلالة سياسية”.

ورغم إعلان وزارة الخارجية المصرية في 12 مايو 2024 عن “نية مصر التدخل رسميًا لدعم قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية”، فلم يتم اتخاذ أي إجراء فعلي حتى الآن، ولم تتدخل مصر في القضية مطلقًا. بل وحتى يومنا هذا، لم تعلق مصر على مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ويوآڤ غالانت. وفي مطلع الشهر الجاري، صرح قائد الفرقة 80 في الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن تأمين الحدود مع مصر بأن الجيش الإسرائيلي لا يستعد لهجوم مصري مفاجئ، لأن مثل هذا السيناريو ببساطة غير وارد.

أما المفاجأة فهي أن تقرير “العربية” الشهير استند إلى فيديو دعائي نشرته وزارة الداخلية، حيث إن اللقطات المستخدمة في الفيديو تعود إلى عرض جرى في عيد الشرطة في يناير الماضي، ولم يُصوَّر حتى في سيناء. وفي ظل الإبادة الجماعية والمهاترات الكلامية بين القاهرة وتل أبيب الموجهة بالأساس للرأي العام المحلي في البلدين، استمرت العلاقات الاقتصادية بين البلدين في النمو. إذ تعتمد مصر على الغاز الإسرائيلي لتشغيل شبكتها الكهربائية، وتخطط لزيادة وارداتها منه بنسبة 58% بحلول منتصف عام 2025.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني