ناقشت لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح، يوم 07 أفريل الجاري، مشروع القانون عدد 52/2015 المتعلق بتنقيح وإتمام القانون عدد 12 لسنة 1985 المؤرخ في 5 مارس 1985 المتعلق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد وللباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي. وكان عدد من أعضاء اللجنة قد تمسّك بضرورة التمديد الاختياري في سن التقاعد لمدة خمس سنوات في الوظيفة العمومية، واعتبروا أن اعتماد هذا الإجراء كفيل بالحدّ من تفاقم أزمة الصناديق الاجتماعية. كما أشار هؤلاء إلى أن الحلول المطروحة من قبل الحكومة صلب مشروع القانون تفتقر إلى دراسة استشرافية شاملة، ولا ترتقي تبعا لذلك، إلى مستوى أزمة الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، دعين إلى ضرورة اعتماد منظومة إنقاذ وطنية للصناديق الاجتماعية. فضلا عن ذلك، أكد أعضاء اللجنة على ضرورة تشريك كافة الأطراف المعنية بهذا الملف وتقريب وجهات النظر بينها، والاستئناس بالتجارب المقارنة لحل أزمة الصناديق الاجتماعية.واعتبر عدد آخر من الأعضاء أن الإجراءات الواردة بمشروع القانون الحالي قادرة على إنقاذ الصناديق الاجتماعية نسبيا من الأزمة. وأشاروا إلى أن أغلب الموظفين المشمولين بالتقاعد يواصلون ممارسة وظائف أخرى أو يتجهون لبعث مشاريع مع التمتع في ذات الوقت بمنحة التقاعد. ورأوا أنه من الأنسب الإبقاء عليهم صلب إدارات الوظيفة العمومية والإستفادة من خبراتهم.هذا، وقررت اللجنة مواصلة النظر في ملف التمديد الاختياري في سن التقاعد، وذلك بتخصيص جلسة استماع لممثلين عن الاتحاد العام التونسي (1).
مشروع القانون الذي تتردد الحكومة بشأنه
تجدر الملاحظة أولا إلى أن هذا المشروع يكاد يتأبد داخل أروقة البرلمان. فمُصادقة الحكومة عليه وإحالته إلى المجلس تعود إلى يوم 24 جويلية 2015. وسبب هذا المصير الغامض لمشروع القانون هو انه أثار منذ المصادقة عليه من قبل مجلس الوزراء جدلا واسعا في الأوساط السياسية والمدنية في تونس. وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية قد أعدت مشروع قانون حول الترفيع الاختياري في سن التقاعد. ويشمل هذا القانون الأعوان العموميين المنتمين للقطاع العمومي والخاضعين للقانون المتعلق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد وللباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي.وسيتم وفق مشروع القانون الأصلي دعوة الراغبين في التمديد في سن التقاعد بتوجيه مطلب كتابي معرف لدى البلدية التي ينتمي إليها الموظف يتم تقديمه إلى المؤجر في غضون أجل لا يتعدى ستة أشهر يحتسب بداية من اليوم الأول لفترة الخمس سنوات التي تفصله عن الإحالة على التقاعد.وسيحمي هذا القانون المضمونين الاجتماعيين الذين يمارسون أعمالا مرهقة وضارة بالصحة والسلك النشيط من الأمن في حقهم في التنفيل أي اعتبار سنوات النقص عن 60 سنة وهي السن الرسمية للتقاعد في احتساب منحة المعاش.
كما ستتم المحافظة على إحالة الأعوان الذين يمارسون وظائف مرهقة والذين اختاروا ممارسة حق الخيار المخول للحصول على التقاعد لمّا يستوفون شرطي قضاء فترة 35 سنة في العمل وبلوغ سن 55 عاما. وسيتم الاعتماد على نفس الإجراءات مع الذين لديهم الحق في الإحالة على التقاعد بعد قضاء 37 سنة من العمل مع بلوغ سنّ 57 سنة.
وكانت الحكومة الحالية أعدت مشروعا لإصلاح قطاع الضمان الاجتماعي يتضمن الدعوة إلى إصلاح هيكلي وانتهاج إصلاح شامل لأنظمة الضمان الاجتماعي بمختلف فروعه بما في ذلك نظام التأمين على المرض وأنظمة التقاعد في القطاعين العام والخاص بما يضمن التوازنات المالية لهذه الأنظمة مع تحسين مردودية التوظيفات والاستثمارات والعمل على تنويع مصادر التمويل (2).
ولا يُعدّ الحديث عن الرفع في سن التقاعد من بين المُستجدّات في تونس،حيث اقترحت الدراسة التي أعدها مكتب العمل الدولي لإصلاح أنظمة التقاعد في تونس التمديد في سن التقاعد على مرحلتين إلى 62 سنة في المرحلة الأولى التي ينطلق تطبيقها بداية من 2011 و65 سنة ينطلق تطبيقها في 2016 وذلك منذ شهر سبتمبر 2010. كما اقترحت الدراسة، الصادرة أياما قبل الثورة، الزيادة في نسبة المساهمات المالية للأجراء والمؤجرين في القطاعين الخاص والعام وذلك على مرحلتين لتجاوز العجز المُتفاقم في الصناديق الإجتماعية التونسية، وهو ما سبب وقتها جدلا شبيها بالذي نعيشه اليوم. ويعتبر تفاقم العجز المالي الذي تمرّ به الصناديق الاجتماعية في تونس من الملفات الحارقة التي عجزت أمامها حكومات ما بعد 11 جانفي 2011 ومن أبرز التحديات التي سوف تواجهها الحكومة الحالية.
فبحسب آخر الدراسات التي اهتمت بالملف، دخلت هذه الصناديق في مرحلة عجز هيكلي ناتج عن أسباب تنموية من أهمها تحسّن الأمل في الحياة عند الولادة الذي يصل في تونس إلى 75 سنة وشيخوخة السكان وتهرّم الأنظمة وتأخر الاندماج في سوق الشغل إلى غير ذلك من الأسباب. وتشير الدراسات إلى أن عجز الصناديق كان متوقعا منذ سنة 1985 لكن الحكومات المتتالية لم تواجه الصعوبات بجدية مما أدى إلى انخرام وضعيتها. ورغم بعض الإجراءات التي انطلقت سنة 1995 من خلال رفع نسب المساهمات وإعادة النظر في شروط التقاعد المبكر وإتاحة الترفيع في سنّ التقاعد لأسباب شخصية من 50 الى 55 بعد قضاء 30 سنة عمل، ظلّت هذه الإجراءات محدودة واقتصرت فقط على تضخيم موارد الصناديق لمدة قصيرة دون التوصل إلى حلول جذرية تضمن ديمومة نظم الضمان الاجتماعي.
ووفق آخر الأرقام الرسمية، تعاني صناديق التقاعد مجتمعة من عجز كبير بلغ 1.1 مليار دينار خلال 2013 – 2014، والمُرشّح لبلوغ 2 مليار دينار خلال الخمس سنوات القادمة إذا لم يتم إيجاد حلول عاجلة وجذرية، كما تأمل الوزارة أن يتم التخفيف في هذا العجز المُتوقّع خلال الثلاث سنوات المُقبلة بنسبة 50 بالمائة، إذا تم تبني مقترحها في ترفيع سن التقاعد. (3)
هل سنعيش صداما مُرتقبا بين الحكومة و الإتحاد العام التونسي للشغل؟
المشروع الذي أحيل على مجلس نواب الشعب منذ الصيف الماضي والذي كان من المزمع أن يدخل حيز النفاذ في جانفي 2016 خضع إلى مفاوضات بين الأطراف الاجتماعية وخاصة بين الاتحاد والحكومة عقب وصوله إلى المجلس وذلك في جلسات متتالية. ونصّ محضر الجلسة المؤرخ في 1 سبتمبر 2015 بين الاتحاد والحكومة على أنه تم إدخال تعديلات على مشروع القانون الأصلي الذي قدمته الوزارة العام الفارط الى مجلس النواب، وتم الاتفاق فيما يخص الترفيع في سن التقاعد على إعطاء العون إمكانية اختيار الترفيع في سن التقاعد بسنتين أو خمس سنوات عوضا عن خمس سنوات فقط، ويفتتح الحق في ممارسة الاختيار سنتين قبل بلوغ سن التقاعد القانونية عوضا عن خمس سنوات قبل بلوغ سن الإحالة على التقاعد. وقد أكدت جلسة 6 نوفمبر 2015، الاتفاق الحاصل بين الأطراف الاجتماعية.
ولئن وافق الإتحاد على الإجراء موافقة رسمية إلا أنه اعتبر أنه لا ينطق تماما عن موقفه بل هي صيغة توافقية لا أكثر توصلت إليها الأطراف المفاوضة من منطلق حرصها على إيجاد حلول ولو منقوصة لوضعية الصناديق الاجتماعية. ويرى اتحاد الشغل أن الحكومة قادرة على دعم الصلابة المالية للصناديق الاجتماعية دون اللجوء إلى رفع سن التقاعد وذلك بالبحث عن مصادر جديدة للتمويل بالإضافة إلى مساهمات الأجراء، معرباً عن رفضه لمقترح رفع سن التقاعد بأية صيغة أخرى غير الصيغة الاختيارية المتفق عليها (4).إلا أن الوزير الجديد للشؤون الاجتماعية محمود بن رمصان الذي وصل إلى الحكومة عقب تحوير 6 جانفي الحكومي الأخير نفى وجود محضر بين الطرفين النقابي والحكومي مؤكدا في تصريح إعلامي يوم الاثنين 4 أفريل الجاري أن الاتجاه سيكون نحو إقرار إجبارية التقاعد في سن 62 سنة واختياريته بالنسبة لسن 65 سنة، لأن الوضع المالي للصندوق كارثي حسب قوله.
وتبعاً لذلك، اتهم اتحاد الشغل وزير الشؤون الاجتماعية الحالي بالتنصل من الاتفاق الحاصل بين الاتحاد العام التونسي للشغل والوزير السابق أحمد عمار الينباعي (5) بتاريخ 1 سبتمبر 2015، واعتبرت المنظمة أنّ هذا التنصل يضرب مبدأ استمرارية الدولة، وقررت نشر نص الاتفاق الذي جاء نتيجة مفاوضات دامت على مدى شهرين. وفي نفس السياق، أشار عبد الكريم جراد، الأمين العام المساعد إلى أن مشروع قانون الرفع الاختياري في سن التقاعد وإن كان في ظاهره يتحدث عن الترفيع الاختياري إلا أنه في مضمونه هو "ترفيع إجباري مُقنّع"، موضحا أن عودة الحكومة إلى مشروعها الأصلي المقدم في 24 جويلية أو استبدال الصيغة الاختيارية بصيغة إجبارية مهما كانت مدتها أمر غير مقبول وأنه في حال حصوله، فإن منظمة الشغيلة ستلتجئ إلى الشارع وتدعو العمال إلى التظاهر لإسقاط المشروع برمته.
تداعيات هذا القانون في حال المصادقة عليه
وفي ظل الخلاف بين الإتحاد والحكومة، التقى حسين العباسي الأمين العام للاتحاد في نفس اليوم 1 أفريل 2016 برئيس الدولة وبرئيس مجلس النواب محمد الناصر بشكل مستعجل لتقريب وجهات النظر. وقال الناصر عقب اللقاء إن الاجتماع تمحور حول توضيح بعض المسائل المتعلقة بالإجراءات التي ستتخذ بخصوص صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية، مشيراً إلى أن نقاشاً يجري لتقديم الصيغ التوافقية التي خلصت إليها اللجان الاجتماعية. كما دعا العباسي من جهته لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح إلى التفاعل مع مقترحات الإتحاد العام التونسي للشغل، خاصة تلك التي مثلت موضوع اتفاق مع وزارة الشؤون الاجتماعية. وكان الاتحاد العام التونسي للشغل، ندد في بيان سابق صادر عنه الخميس 28 مارس، بتراجع وزير الشؤون الاجتماعية محمود بن رمضان عن الاتفاقات التي وقعها سلفه عمار الينباعي حول المشروع.
وبلهجة حادة، حذر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الوزير الجديد من الرجوع عن مخرجات الحوار الاجتماعي الذي وقعت بموجبه اتفاقات مع سلفه أحمد عمار الينباعي، معتبراً ذلك نسفاً للحوار، ونقضاً لمبدأ استمرارية الدولة وارتباكاً في سياسة الدولة تجاه الحقوق الاجتماعية. كما استغربت قيادات الاتحاد إنكار الوزير الجديد لوجود أي محاضر توثق الاتفاقات الموقعة حول المسألة (6).
ولاقت ردود المنظمة الشغيلة صداها لدى البرلمان، إذ أكد رئيس اللجنة المتعهدة بالمشروع النائب عن نداء تونس جلال غديرة للصحافة أن هناك اتفاقاً بين الحكومة والاتحاد سيتم أخذه بعين الاعتبار، مشدداً على أن اللجنة لن تتجاوز ما تم التوصل إليه من دراسات وآراء لدى المنظمة النقابية من جهة، وعلى مستوى الحكومة من جهة أخرى، بخصوص مشروع القانون المذكور والارتكاز على التعهدات الممضاة بينهما في المجال الاجتماعي.
ويخشى من صراع مرتقب إذا ما تشبثت الحكومة برؤيتها المعدلة للمشروع من صيغة اختيارية إلى صيغة إجبارية لرفع سن التقاعد أن يؤدي إلى توتر في العلاقات بينها وبين الإتحاد. فمن غير المرجح أن يقبل الطرف النقابي بأية صيغة أخرى غير المتفق عليها في محضر جلسة 1 سبتمبر 2015 واتفاق 6 نوفمبر 2015 في حين يشكك كثير من نواب الإتلاف الحكومي صلب اللجنة المختصة في جدوى الترفيع الاختياري إذ انه من المستبعد في نظرهم أن يقبل عليه غير عدد قليل من الموظفين الكبار الذين يطلبون البقاء في الخدمة للتمتع بالامتيازات العينية التي يوفرها لهم الوظيف وعددهم لا يتجاوز في أقصى الحالات الستة بالمائة. أما الموظفون الصغار أو المتوسطون فهم في معظمهم يرفضون مواصلة العمل بعد بلوغ السن القانونية للخدمة إذا ما قضوا في العمل أكثر من ثلاثين سنة وهو ما يوفر لهم جرايات مجزية قد تصل إلى حدود مبلغ آخر مرتب يتقاضونه بل قد تتجاوزه أحيانا وذلك لإعفاء المتقاعد من بعض الضرائب الموظفة على العاملين.
فهل نحن مقبلون على مواجهة في هذا الظرف الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد وفي ظل استشراء البطالة التي تصل إلى 16 بالمائة بحسب الأرقام الرسمية، علماً أن العديد من المختصين يرون أن من شأن الترفيع في سن التقاعد أن يفاقم أزمة البطالة ولن يساهم إلا بقدر نسبي وظرفي في حل معضلة الصناديق. فهذه المعضلة تحتاج إلى حلول جذرية تتصل بحصول الصناديق على ديونها المتخلدة لدى المؤسسات العمومية وبإجبار المؤسسات شبه العمومية على سداد مساهماتها للصندوق لفائدة العمال، وبتنويع مصادر الدخل كتوظيف أداء لفائدة الصناديق على المواد الاستهلاكية غير الضرورية مثل التبغ والمشروبات الكحولية، وقبل كل ذلك وبعده الحوكمة الرشيدة إذ كثيرا ما اتهمت هذه الصناديق بسوء الإدارة مما دعا الاتحاد مرارا وتكرارا إلى طلب التدقيق في موازناتها؟
الهوامش
(1)الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب، لجنة تنظيم الإدارة تنظر في ملف التمديد الاختياري في سن التقاعد، 7 افريل 2016.
(2) انظر جريدة التونسية تفاصيل الترفيع في سن التقاعد 22 أوت 2015.
(3) انظر "الاعلام الجديد"، الصّناديق الاجتماعية: عجز بـ 1100 مليار..الرّفع في السنّ القانونية للتّقاعد أبرز الحلول و"اتّحاد الشّغل" يرفض "إصلاحات على حساب الموظّفين 6 افريل 2016.
(4) العربي الجديد " الصناديق الاجتماعية التونسية تنزلق نحو الإفلاس "5 سبتمبر2015.
(5) صرح وزير الشؤون الاجتماعية السابق، أحمدعمار الينباعي قبل إعفائه من المسؤولية إبان التحوير الأخير للحكومة في 6 جانفي 2016، أن مشروع الرفع في السن القانونية للتقاعد سيتم اعتماده بداية من غرة جانفي 2016 في حال تمت المصادقة عليه من قبل مجلس نواب الشعب، مُبيّنا أن الاختيار يجب أن يتم سنتين قبل بلوغ سن التقاعد وهو "خيار نهائي لا رجعة فيه" مشيرا الى أن مشروع القانون ينص كذلك على الإبقاء على طريقة احتساب جراية التقاعد. ودعا الوزير إلى الإسراع بالمصادقة على القانون للدخول حيز التنفيذ بداية العام الجديد 2016، خاصة مع تواصل ضعف مُؤشرات التنمية التي لن تتجاوز 0.7 بالمائة بحسب أغلب الإستشرافات، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبا على الموازنات الإقتصادية العامة للدولةغير أن الوزير اعفي من مهامه قبل أي تقدم ملموس في مناقشة مشروع القانون صلب اللجنة المختصة ويرجع بعض المحللين هذا الإعفاء لموقف الوزير من القانونومساندته لاقتراحات الاتحاد وهو المعروف في الأوساط العمالية بميولاته النقابية.
(6) إنظر جريدة الشعب لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل "لقاء بين العباسي ومحمد الناصر"،1 أفريل 2016.