قبيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي دعا اليها رئيس مجلس النواب في 14 حزيران المقبل، دار نقاش قديم متجدّد حول النصاب الواجب توافره في الدورة الثانية من أجل انتخاب رئيس الجمهورية.
في حال سلّمنا جدلا بالممارسة التي توافقت عليها القوى المهيمنة على مجلس النواب والتي تعتبر أن رئيس الجمهورية ينتخب بغالبية تتألف من ثلثي مجموع أعضاء مجلس النواب أي 86 في الدورة الأولى بينما يتم الإكتفاء بالغالبية المطلقة من أعضاء مجلس النواب في الدورة الثانية ( 65 نائبا)، وفي حال قبلنا تباعا أن النصاب الواجب توافره لعقد الجلسة في الدورة الأولى هو أيضا 86 نائبا، لا بد من معرفة هل هذا النصاب هو دائم ويمتد على كل الدورات اللاحقة التي قد يعقدها مجلس النواب أو هو يقتصر على الدورة الأولى فقط بحيث ينخفض النصاب في الدورات التالية كي يصبح الغالبية المطلقة.
ولا بدّ هنا من التذكير أن المفكرة القانونية نشرت دراسة مطولة حول الإشكاليات الدستورية المتعلقة بكيفية انتخاب رئيس الجمهورية دحضت فيها الممارسة المتوافق عليها اليوم مبينة أن النص الدستوري يلزم انتخاب رئيس الجمهورية بغالبية تحتسب ليس من مجموع أعضاء مجلس النواب بل من الحضور وما ينجم عن ذلك بعدم وجود نصاب خاص لانتخاب الرئيس بل النصاب الواجب اعتماده في كل الدورات هو النصاب العادي لمجلس النواب.
لذلك لا تهدف هذه المقالة إلى مناقشة مسألة النصاب في الدورة الثانية انطلاقا من اعتبارات دستورية نظرية كون يكتفي لهذه الغاية الإحالة إلى الدراسة المذكورة أعلاه، بل فقط التذكير ببعض المواقف السابقة المتعلقة بهذه المسألة والتي صدرت في حقبة زمنية سبقت سيطرة نظام الزعماء على مؤسسات الدولة.
قبل انتخاب الياس سركيس احتدم النقاش خلال الحرب حول مسألة النصاب والأغلبية الواجب توافرهما لانتخاب رئيس الجمهورية. وقد قرر مكتب مجلس النواب في اجتماع مشترك عقده مع لجنة الإدارة والعدل بتاريخ 5 أيار 1976 بأن النصاب الواجب توفره لافتتاح جلسة الانتخاب هو غالبية الثلثين من مجموع أعضاء مجلس النواب لكنها لم تتطرق صراحة إلى وجوب استمرار هذا النصاب في الدورات التي تلي الدورة الأولى. وكان إدمون رباط من أبرز المدافعين عن ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية وفقا لغالبية تحتسب من مجموع أعضاء مجلس النواب وليس من قبل الحضور فقط. ومن الملاحظ أن موقفه هذا يتمسك به كل جهات الطيف السياسي في لبنان لا سيما رئيس مجلس النواب وفريقه السياسي الذي يتذرع دائما برأي رباط من أجل تبرير طريقة إدارته لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية.
وإذا كان موقف رباط من هذه المسألة بات معلوما ولا يحتاج إلى تفسير، لكن موقفه من النصاب المطلوب في الدورة الثانية لم ينل الاهتمام المطلوب. فقد نشر هذا الأخير دراسة في “النشرة القضائية” سنة 1963 بخصوص “النصاب المنصوص عليه في المادة 49 لانتخاب رئيس الجمهورية” ومن ثم أعاد نشرها حرفيا في كتابه الأول حول الدستور اللبناني سنة 1970 إذ قال وفقا لاجتهاده أن الدستور فرض نصابا في الدورة الأولى يحتسب بغالبية الثلثين من عدد أعضاء مجلس النواب ليضيف التالي: “وقد أشار النص بعد ذلك إلى أنه يكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، ولا بد هنا من تطبيق ذات الحكم قياسا واعتبار النصاب في دورات الاقتراع التي تلي، مؤلفا من مجلس النواب أيضا، لأن المنطق لا يستسيغ الاختلاف في القاعدة العائدة لحالة دستورية متعاقبة، بقيت واحدة في جوهرها”[1].
فرباط يعتبر أن القاعدة التي تفرض نصابا يتألف من غالبية الثلثين من عدد أعضاء مجلس النواب في الدورة الأولى تنسحب على الدورة الثانية أي وجوب احتساب النصاب بالغالبية المطلقة من مجموع النواب وهي الغالبية المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهورية في الدورة الثانية.
وقد كرر رباط موقفه هذا في كتابه الفرنسي حول الدستور اللبناني سنة 1982 إذ كتب حول نصاب الدورة الثانية انطلاقا من تأويله للمادة 49 من الدستور التالي:
« Il va sans dire que le même calcul devrait aussi être appliqué au second tour de scrutin, pour lequel la majorité absolue-toujours en relation avec la totalité des députés formant la Chambre-est prescrite par l’article 49 »[2].
أكثر من ذلك، قبيل جلسة انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية التي كان من المتوقع ألا ينتج عنها انتخابا في دورتها الأولى، عقد مكتب مجلس النواب ولجنتا النظام الداخلي والإدارة والعدل اجتماعا مشتركا في منزل الرئيس كامل الأسعد بتاريخ 16 آب 1982 توصل إلى قرار يعيد التأكيد على ضرورة وجود نصاب يتألف من غالبية الثلثين من مجموع النواب لافتتاح جلسة الانتخاب، لكن القرار الثاني من البيان الرسمي الصادر عن الاجتماع نص على التالي: “وجوب الحضور ب [3]62 نائبا لاكتمال النصاب للبدء في عملية الانتخاب، على أن يكتفى بالأكثرية المطلقة أي 47 نائبا في الاجتماعات والدورات التي تلي، وإن اقتضى ذلك اجتماعات لاحقة عدة لهذه الغاية”[4].
لا يشكل هذا القرار الرسمي، وإن كان غير ملزم من الناحية الدستورية، إدانة فقط لممارسة الحالية التي تريد فرض نصاب دائم من ثلثي مجموع عدد النواب في كل الدورات، بل هو أيضا ينقض رأي رئيس مجلس النواب الذي يعيد الدورة الأولى في كل اجتماع لمجلس النواب بينما القرار يعتبر أن الاجتماعات اللاحقة لمجلس النواب يجب استكمالها اعتبارا من الدورة الثانية لا إعادة الدورة الأولى مجددا. وهذا ما كانت قد شرحته المفكرة القانونية في مقال حول الموضوع.
خلاصة القول، إن المتمسك برأي إدمون رباط والسوابق النيابية سيجد نفسه لا شك في موقف حرج. فالتذكير بهذه النقاط يعيد التأكيد على أن المواقف الدستورية في لبنان تهيمن عليها في الحقيقة أهواء مختلف أركان السلطة السياسية والتي تتبدل بسهولة وفقا لمصالحهم السلطوية.
[1] ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 676.
[2] Edmond Rabbath, La Constitution libanaise, Publications de l’Université Libanaise, Beyrouth, 1982, p. 304.
[3] خلال الحرب باتت الغالبية تحتسب من عدد النواب الأحياء فقط.
[4] اميل بجاني، انتخاب رئيس الجمهورية في النصوص والممارسة، المنشورات الحقوقية صادر، 2002، ص. 80.