مع[1] بدء سريان إعلان وقف الأعمال العدائية بين اسرائيل ولبنان في 27 تشرين الثاني 2024، اتخذت السلطات الإسرائيلية عدّة تدابير تؤشر إلى تصرفه تصرف سلطة احتلال على عدّة مناطق في جنوب لبنان، أبرزها:
- أصدر الجيش الإسرائيلي تباعًا إنذارات تحظر على كافة سكان جنوب لبنان التوجه نحو القرى التي طالب الجيش سابقًا بإخلائها (والتي تجاوز عددها 160 بلدة وقرية) أو باتجاه قواته المتواجدة في المنطقة. ثم تبعها بإصدار إنذارات يحظر فيها العودة إلى أكثر من 60 قرية حدودية. وقد كرر هذه الإنذارات بشكل يومي.
- أصدر الجيش الاسرائيلي إنذارًا يحظر بشكل مطلق على السكّان التنقل جنوب نهر الليطاني ابتداء من الساعة 17:00 مساءً حتى الساعة 7:00 صباحًا حيث طلب ممّن يتواجد جنوب الليطاني “أن يبقى في مكانه”، فيما منع من يتواجد شماله بأن ينتقل جنوبًا. وقد كرر هذا الإنذار بشكل يومي.
- أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي أمرًا بـ”اعتقال أي لبناني يدخل إلى بلدة كفركلا”. ونقلت وسائل الإعلام خبر اعتقال الجيش الاسرائيلي أربعة أشخاص من أبناء كفركلا يوم أمس.
وكان قد سبق هذه التدابير تصريح للوزير السابق بحكومة الحرب في إسرائيل بيني غانتس في تاريخ 18 تشرين الثاني حول وجوب “التعامل مع جنوب لبنان مثل المنطقة “أ” بالضفة الغربية”، وهي منطقة خاضعة للاحتلال الإسرائيلي.
وفيما قد تؤدّي هذه التدابير في حال تنفيذها إلى استمرار تهجير العديد من سكّان الجنوب أقله خلال فترة بقاء الجيش الإسرائيلي في الأرض اللبنانية والذي يفترض أن ينسحب منها خلال فترة لا تزيد عن 60 يوما (بند 12 من إعلان وقف الأعمال العدائية)، تحدّى هؤلاء هذه التهديدات وتوجّهوا إلى المناطق الجنوبية فور سريان وقف الأعمال العدائية فيما شكّل إرادة واضحة لاستعادة أراضيهم وبيوتهم وقراهم.
يستشفّ من هذه التدابير سعي إسرائيلي لممارسة صلاحيات لإدارة منطقة جنوب الليطاني بعد وقف الأعمال العدائية. ولدى الاطلاع على قرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006 ونصّ إعلان وقف الأعمال العدائية بتاريخ 26 تشرين الثاني، يتبيّن أنّ اتخاذ اسرائيل لهذه التدابير، كما التهديد بها وتنفيذها، يشكّل مخالفة لمُوجباتها تجاه لبنان والمجتمع الدولي، فضلا عن كونه يشكل تهديدًا بإرساء احتلال خلافًا للقرار 1701 والإعلان المتصل به.
خروقات للقرار 1701 وإعلان 26 تشرين الثاني ومبادئ القانون الدولي
من البيّن أن التدابير المتخذة تشكل انتهاكًا للقرار 1701 وإعلان 26 تشرين الثاني ومبادئ القانون الدولي للأسباب الآتية:
أوّلًا: تشكّل هذه التدابير انتهاكًا لسيادة لبنان وسلامة أراضيه المحفوظة في القانون الدولي (الفقرتان 2 و4 من المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدّة) التي لم ينتقص منها الإعلان ولم يحدّ منها. فقد أكّدت الفقرة الخامسة من القرار 1701 على “سلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي”. وبحسب الإعلان، “تعترف إسرائيل ولبنان بأهمية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701″، ويهدف الإعلان إلى وضع “الالتزامات ذات الصلة بتعزيز الترتيبات الأمنية من أجل تنفيذ” القرار 1701.
ثانيًا: نص الإعلان حرفيًا على وجوب توقف إسرائيل عن جميع العمليات العسكرية الهجومية التي تستهدف الأراضي اللبنانية برًّا أو جوّا أو بحرًا ابتداء من الساعة صفر لتطبيقه (البند 2). الاستثناء الوحيد لممارسة أي عنف وفق ما ورد في الإعلان (بند 4) هو الحق المعترف به دوليًا (الحق الطبيعي) بممارسة الدفاع عن النفس، علمًا أن مجرد إيراد هذا الاستثناء يؤكد على قاعدة حظر أي ممارسة للقوة من خارج الشروط الضيقة لممارسة هذا الحق. وينحصر الدفاع عن النفس هنا في إمكانية إسرائيل الردّ على أي عمل عسكري ضد القوات المتواجدة في لبنان خلال 60 يومًا أو ضد فلسطين المحتلّة.
وعليه، من المؤكد على ضوء ذلك البند أنه ليس لإسرائيل أن توسّع تواجدها العسكري بأي شكل من الأشكال خلال فترة الستّين يومًا، بمعنى أن الاتجاه الوحيد خلال هذه الفترة هو تقليص وجودها العسكري وليس الاستفادة من وقف الأعمال العسكرية من أجل توسيعه. فأي توسيع في تواجد الجيش الإسرائيلي إنما يشكل حكمًا عملًا هجوميًا حربيًا حتى ولو لم تعترضه أي قوة عسكرية عملًا ببنود الإعلان. الأمر نفسه فيما يتصل بتوجيه أوامر أو حظر تجول على سكان كامل منطقة جنوب الليطاني، وكلها أوامر لا يمكن فهمها إلا على أنها توسيع للسيطرة الإسرائيلية بالقوة والتهديد خلافًا لما يفرضه القرار 1701 والإعلان.
ثالثًا: أمّا على صعيد المناطق الحدودية التي يتواجد فيها الجيش الإسرائيلي حاليًا، فمن المفترض أن ينحصر وجوده فيها وبشكل مؤقّت، وأن ينسحب منها تدريجيًا وعلى مراحل في غضون 60 يومًا، وذلك بموازاة انتشار الجيش اللبناني فيها.
وهذه البنود إنما تؤكد قطعًا عدم جواز الحديث بأية حال عن أن الإعلان يمنح إسرائيل ممارسة سلطة احتلال في هذه المناطق عملًا بالمادة 42 من اتفاقية لاهاي لعام 1907 التي تنصّ أنّه “تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها.” فيظهر الفرق بين الوجود والغزو العسكري من جهة والاحتلال من جهة أخرى، في “السيطرة الفعلية” التي تفرضها قوات أجنبية على أرض ليست من ضمن سيادتها. وتعني السيطرة الفعلية أن المحتلّ يمارس سلطته بشكل ملموس، من خلال فرضه – أو قدرته على فرض – توجيهات موجهة إلى السكّان المحليين، ومن خلال قدرته على إنفاذها[1]. ومن البيّن من بنود الإعلان المذكورة أعلاه أنه ليس لإسرائيل أي سند شرعي لفرض هذه التدابير طالما أن الإعلان يؤكد ببساطة على السيادة اللبنانية على جميع أراضي لبنان، كما ليس لها أي قدرة فعلية تخولها فرض تدابير الاحتلال طالما ليس لها القيام بأي أعمال هجومية من أي نوع كان، باستثناء ممارسة حق الدفاع عن النفس.
رابعًا: بأية حال، لم ينصّ الإعلان على منع سكّان جنوب لبنان من العودة إلى قراهم، ولا يحق لاسرائيل حرمان السكّان قولًا أو فعلًا من حقهم بالتنقل على أرضهم والوصول إلى قراهم وبيوتهم. فيضمن القرار 1701 عودة النازحين إلى جنوب لبنان، كما يهدف الإعلان صراحةً إلى “تمكين المدنيين على جانبي الخط الأزرق من العودة بأمان إلى أراضيهم ومنازلهم” (الخلاصة). وفي هذا السياق، تعود مسؤولية تنظيم حركة المدنيين إلى الدولة اللبنانية على أن تقوم بالتنسيق مع اليونيفيل حول عودة السكّان إلى أماكن تواجد الجيش الإسرائيلي التي لم ينسحب منها بعد.
خامسًا: يحظر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف أخذ الرهائن أو التهديد به – في وقت الحرب وفي وقت السلم – سواء ارتكبه مسؤولون مدنيون أو عسكريون (الفقرة 2-ج من المادة 75). ورغم أنّه يشير إلى المدنيين حصرًا، إلّا أنّ المادة 3 المشتركة لاتفاقيات جنيف تحظر احتجاز الرهائن في أي وقت وفي أي مكان، وتشمل الأشخاص الذين لا يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا أسلحتهم والأشخاص الذين أصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الإصابة أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر. من هنا، يحظر على إسرائيل اعتقال سكّان لبنان الداخلين إلى قراهم بعد انتهاء الأعمال القتالية، سواء كانوا من عناصر حزب الله أو لا.
وجوب التصدي للخروقات منعًا لنشوء أي سلطة احتلالية
وعليه، وعدا عن كونها خروقات للقرار 1701 والإعلان، يُخشى أن تندرج هذه الخروقات، في حال توسّعها واستمرارها، إلى سعي إسرائيل إلى توسيع تواجدها أو سيطرتها على أراض لبنانية في مناطق الجنوب. وما يعزز المخاوف بهذا الاتجاه هي التقارير الصحافية التي تشير إلى استغلال الجيش الإسرائيلي وقف الأعمال العدائية لتوسيع تواجده والتوّغّل إلى مناطق في الجنوب لم يتمكّن من الوصول إليها منذ بدء غزوه البريّ قبل شهرين بسبب صدّه من قبل عناصر المقاومة، فضلًا عن احتجازه أشخاصًا ادّعى الاشتباه بهم. وما يعزز المخاوف أيضًا فأيضًا هو ظهور تفسيرات ملتوية للإعلان أو لما يسمى ورقة مستترة تمنح الجيش الإسرائيلي حرية الحركة في لبنان، وهي تفسيرات وجدت للأسف صداها في بعض وسائل الإعلام اللبناني ولدى بعض القوى السياسية اللبنانية أيضًا، بما يناقض المصلحة العامة والسيادة اللبنانية.
ومن هنا، وفضلًا عن أن دحض هذه التفسيرات يكتسي أهمية وطنية كما نحاول فعله في هذه المذكرة، فإنه يجدر على السلطات العامة أن تأخذ هذه التدابير على محمل الجدّ، وأن تتعامل ليس فقط على أنها خروقات يجدر الاعتراض عليها، بل أيضًا على أنها مساعٍ لترسيخ التواجد العسكري وتحويله إلى سلطة احتلال بما يخرق الإعلان برمته. ومن هنا أهمية الردّ على هذه الخروقات بتدابير سيادية، قوامها تأكيد الحكومة والجيش السيادة اللبنانية على المناطق الجنوبية والتحذير من أي تعرّض لأهلها أو أرضها من خلال اعتبارها أعمالًا عدائية تدخل تمامًا ضمن الأعمال العدائية المحظورة في البند 2 من الإعلان. فمقاومة المساعي الإسرائيلية لا تتم فقط في تقديم الشكاوى من الخروقات، ولكن من خلال إثبات الذات والسيادة في وجه أي انتقاص منها، تماما كما تجسد في حركة العودة الشعبية إلى جنوب لبنان يوم 27 تشرين الثاني والتي رفضت الخضوع لتهديدات الإخلاء وحظر التجوّل في جنوب الليطاني.
[1] يستند مفهوم السيطرة الفعلية كشرط لتحقيق الاحتلال وتمييزه عن الغزو البري على المادة 42 من اتفاقية لاهاي عام 1907، وقد طوّرته أغلب كتيبات الحرب الوطنية، والمحاكم الدولية، ومعظم خبراء القانون الدولي. نورد في ما يلي بعضًا منها:
- المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة:
TPIY, Le Procureur c. Mladen Naletilić et Vinko Martinović (ci-après «affaire Naletilić»), affaire N° IT-98-34-T, Chambre de première instance, jugement, 31 mars 2003, para. 214: “La Chambre estime qu’il existe une différence fondamentale entre établir l’existence d’un état d’occupation et prouver celle d’un conflit armé international, auquel le critère du contrôle global est applicable. Un degré supplémentaire de contrôle est requis pour établir l’occupation».
TPIY, Le Procureur c. Duško Tadić alias «Dule », affaire N° IT-94-1-T, Chambre de première instance, jugement, 7 mai 1997, para. 580: «La qualité de ‘personnes protégées’ de ces victimes dépend de la date à laquelle elles sont tombées au pouvoir des forces occupantes. Le moment exact auquel une personne ou une région tombe au pouvoir d’une partie à un conflit dépend du fait que cette partie exerce un contrôle effectif sur un territoire ».
Armed Activities on the Territory of the Congo (Democratic Republic of the Congo v. Uganda), Judgment, I.C.J. Reports 2005, p. 168. paragraph 173. “In order to reach a conclusion as to whether a State, the military forces of which are present on the territory of another State as a result of an intervention, is an “occupying Power” in the meaning of the term as understood in the jus in bello, the Court must examine whether there is sufficient evidence to demonstrate that the said authority was in fact established and exercised by the intervening State in the areas in question. In the present case the Court will need to satisfy itself that the Ugandan armed forces in the DRC were not only stationed in particular locations but also that they had substituted their own authority for that of the Congolese Government.”
- لجنة المطالبات بين إريتريا وإثيوبيا (Eritrea-Ethiopia Claims Commission) المنشأة بموجب اتفاقية الجزائر الموقعة في 12 كانون الأوّل 2000.
Partial Awards: Western Front, Aerial Bombardment and Related Claims – Eritrea’s Claims 1, 3, 5, 9–13, 14, 21, 25, and 26, Décision, 19 Decembre 2005, para. 27: ” The Commission agrees that the Ethiopian military presence was more transitory in most towns and villages on the Western Front than it was on the Central Front, where the Commission found Ethiopia to be an occupying power. The Commission also recognizes that not all of the obligations of Section III of Part III of Geneva Convention IV (the section that deals with occupied territories) can reasonably be applied to an armed force anticipating combat and present in an area for only a few days. Nevertheless, a State is obligated by the remainder of that Convention and by customary international humanitarian law to take appropriate measures to protect enemy civilians and civilian property present within areas under the control of its armed forces. Even in areas where combat is occurring, civilians and civilian objects cannot lawfully be made objects of attack.”
- الكتيبات الوطنية المتعلّقة بالحروب:
United States of America, Department of the Army Field Manual: The Law of Land Warfare, Washington, D.C., section 352: “Invasion is not necessarily occupation, although occupation is normally preceded by invasion and may frequently coincide with it. An invader may attack with naval or air forces or its troops may push rapidly through a large portion of enemy territory without establishing that effective control which is essential to the status of occupation. Small raiding parties or flying columns, reconnaissance detachments or patrols moving through an area cannot be said to occupy it.”
- Tristan Ferraro, “Comment déterminer le début et la fin d’une occupation au sens du droit international Humanitaire”. Revue International de la Croix rouge, Volume 94 Sélection française 2012/1, pp. 72- 106;
- Sylvain Vité et Robert Kolb, “Le droit de l’occupation militaire: perspectives historiques et enjeux juridiques actuels”. Bruylant, Bruxelles, 2009.