لم يعد تعطيل مجلس النواب يقتصر على فشله في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وندرة جلساته التشريعية التي لا تنعقد إلا بعد توافقات سياسية مسبقة على مضمونها، بل بات هذا التعطيل المتعمّد ينسحب أيضا على جلساته الحكميّة التي يفرضها الدستور كجلسة انتخاب أعضاء مكتب المجلس التي لم تُعقد بسبب عدم اكتمال النصاب.
وإذا كان غياب البرلمان عن ممارسة دوره الانتخابي والتشريعي والرقابي ظاهرة باتت مألوفة في المشهد السياسي اللبناني خلال السنوات المنصرمة، لكنها لم تبلغ الحدّ الذي وصلتْ إليه مؤخّرا منذ اندلاع العدوان الاسرائيلي الشامل على لبنان، إذ لم يعد التعطيل يصيب الهيئة العامة لكنه امتدّ كي يطال اللجان النيابية التي لم تعد تجتمع من أجل التباحث في الشؤون التي تدخل ضمن صلاحياتها.
فتعطيل مجلس النواب كما كان يتم سابقا لم يبلغ حدّ الغياب التام إذ كان يدخل ضمن التنافس السياسي بين أحزاب السلطة التي أرادت منع الخصم من تحقيق مكاسب تضرّ مصالحها. وهكذا كان يتم تعطيل نصاب جلسات انتخاب رئيس الجمهورية من أجل منع أكثرية المجلس من انتخاب رئيس لا يحظى بموافقة جميع الكتل النيابية. كذلك لا تنعقد الهيئة العامة من أجل التشريع إلا بعد التوافق على إقرار مجموعة من القوانين ترضي مختلف الأطراف. فالتعطيل كان يخدم وظيفة سلطوية، أي أنّه لا يتمّ رفض تفعيل المؤسسات الدستورية إلا في حال تبيّن أن العمل الطبيعي لمجلس النواب سيضرّ بالتوازن السياسي بين أركان النظام الحاكم.
إذ أن هذا التعطيل كان يمارسه الجميع وهو اتّخذ شكل حقّ النقض عبر الانسحاب من جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لإفقاد النصاب، أو عدم دعوة رئيس المجلس نبيه برّي إلى جلسة تشريعية إلا بعد تيقّنه أنّ النصاب سيكون متوفرا كون جدول الأعمال يتضمن بنودا تشريعية تضمن حضور الغالبية المطلقة من النواب (65 نائبا) وهو النصاب التي تفرضه المادة 34 من الدستور لصحة جلسات البرلمان.
وقد مارس الجميع لعبة التعطيل هذه بحجج مختلفة، كرفض التشريع في ظلّ شغور رئاسة الجمهورية أو في ظلّ وجود حكومة مستقيلة، بينما كان الفريق السياسي الذي ينتمي إليه رئيس مجلس النواب يصرّ دائما على حق المجلس في التشريع ليس فقط عند خلو سدة الرئاسة لكن أيضا في العقد الاستثنائي الحكمي الذي يفتتح عند استقالة الحكومة. لكن حتى هذا الأمر لم يمنع الذين أصرّوا على عدم جواز التشريع قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية من التراجع عن موقفهم وفقا لمصالحهم المتقلبة والمشاركة في جلسات تشريعية بهدف إقرار قوانين تخدم أهدافهم السلطوية بحجة الظروف الطارئة والاستثنائية التي تبرر التشريع في ظل الشغور الرئاسي.
لكن التعطيل في نموذجه الجديد اليوم لا يدخل ضمن قواعد التعطيل القديم حيث حقوق النقض المتبادل التي مارستها جميع أطراف السلطة. إذ أن التعطيل اليوم هو غياب تام، لا بل هو رغبة بإقصاء المؤسسات الدستورية عن الحياة العامة ومنعها من ممارسة وظيفتها البديهية كمساحة مفتوحة للنقاش في الشؤون العامة والتداول العلني من أجل إيجاد أفضل السبل لخدمة الصالح العام وحماية الدولة والمجتمع.
وقد ظهر الأمر جليّا في الدعوة الوهمية لجلسة 22 تشرين الأول الحكمية لانتخاب أعضاء مكتب المجلس واللجان النيابية التي لم تعقد بسبب عدم اكتمال النصاب. إذ أنّ رئيس مجلس النواب في ظل الممارسة القديمة للتعطيل لم يكن يوجّه دعوة إلا بعد تأكّده من توفّر النصاب، بينما اليوم هو لا يوجه الدعوة إلا بعد تأكده من أن النصاب لن يتوفر وأن الجلسة لن تعقد. وهو وجد أن هذا الحلّ هو الأنسب لتفادي الإحراج كون الدستور يلزمه بتوجيه الدعوة لأن عقد الجلسة مسؤولية حكمية. إذ أن رغبة رئيس المجلس الحقيقية كانت منع عقد الجلسة لتفادي أيّ نقاشٍ في الحرب التي يعيشها لبنان إذ سرعان ما تمّ الإعلان عن التمديد لأعضاء مكتب المجلس واللجان من دون توجيه دعوة جديدة، ما يشي بأن الهدف الحقيقي كان التنصّل من الجلسة عبر توجيه هكذا دعوة وهمية.
وقد تمدّد غياب مجلس النواب من الحياة السياسية عبر توقف اللجان النيابية التي عقدت آخر اجتماعات لها في 17 أيلول الماضي. والغريب أن رؤساء اللجان ينتمون إلى مختلف الكتل البرلمانية وهم وفقا للمادة 27 من النظام الداخلي أحرار بتوجيه الدعوات إلى لجانهم من دون حاجتهم إلى موافقة رئيس المجلس. لا بل أن المادة 30 من هذا النظام تنصّ على أنه في حال لم يتوفّر النصاب (أكثر من نصف الأعضاء) يمكن للجنة أن تنعقد في جلسة لاحقة “على أن لا يقلّ عدد الحاضرين عن ثلث عدد أعضاء اللجنة” ما يعني إمكانية ممارسة اللجان لصلاحياتها في حال قررت الأكثرية مقاطعة الجلسة. فاللجان النيابية لا تملك سلطة تقريريّة ودورها ينحصر بتقديم توصيات إلى الهيئة العامة للمجلس، لذلك لا يمكن فهم الرغبة في تعطيلها إلا من أجل منع التداول بين النواب وإقصاء التباحث في مصير الوطن عن المؤسسات الدستورية.
إن التمنّع عن دعوة مجلس النواب لشهور طويلة، ومن ثم توجيه دعوة وهمية من أجل التنصّل من مسؤولية مخالفة المادة 44 من الدستور التي تلزم رئيس المجلس بتوجيه دعوة لجلسة مجلس النواب الحكمية عند افتتاح عقد تشرين الأول تعيد تسليط الضوء على صلاحية خطيرة جدًّا لا يتم التفكير بها جديا ألا وهي صلاحية رئيس المجلس بدعوة مجلس النواب إلى الانعقاد.
فهذه الصلاحية العادية حوّلها رئيس مجلس النواب الحالي إلى صلاحية سلطوية خطيرة ومنحها بعدًا طائفيّا من أجل تبرير تفرّده في التحكم في جلسات البرلمان. والأغرب أن هذه الصلاحية لا سند دستوري لها بل هي وليدة المادة 54 من النظام الداخلي الحالي التي تنصّ على التالي: “يعيّن الرئيس أو نائبه، عند تعذّر قيام الرئيس بمهامه، مواعيد الجلسات ويطبق جدول الأعمال ويضبط إدارة الجلسات ويدير المناقشات”، ما يعني أن مجلس النواب، عملا بمبدأ سيادته على نفسه، يستطيع متى شاء بالغالبية العادية سحب تلك الصلاحية من رئيس المجلس ومنحها لمكتب المجلس مثلا، علما أن المادة الثامنة من النظام الداخلي تنص على أن وضع جدول أعمال الجلسات هو من اختصاص هذا الأخير[1].
لكن الحقيقة هي أنّ صلاحية تحديد موعد جلسات المجلس هي من أهمّ الوسائل التي يمارس بها مجلس النواب سيادته على نفسه وتسمح بإظهار طبيعة العمل البرلماني الجماعية. فالنظام الداخلي الأول الذي أقره مجلس النواب سنة 1930 استوحى التجربة الفرنسية خلال الجمهورية الفرنسية الثالثة (1875-1940) التي كانت تمنح مجلس النواب نفسه صلاحية تحديد موعد جلساته وتقرير جدول أعماله. إذ أنّ المادة 43 من هذا النظام كانت تنص صراحة على التالي: “يفتتح الرئيس الجلسة ويعين موعد الجلسة التالية بعد موافقة المجلس أو بعد تفويض المجلس له بتعيين المواعيد التي يراها مناسبة حين وجود عمل للهيئة العمومية في المجلس”، أي أن المجلس في ختام كل جلسة من جلساته يحدد بناء على اقتراح من رئيسه موعد جلسته المقبلة.
ويؤكّد العلّامة “أوجين بيار” على هذه الحقيقة البديهيّة فيقول أن المجلس هو سيّد جدول أعماله وأنه يعود له أن يحدّد جدول الأعمال المقبل وتاريخ الاجتماع في ختام كل جلسة له. وهو يضيف أن رئيس المجلس لا يحقّ له تعديل جدول الأعمال أو تاريخ أو ساعة الجلسة إلا لأسباب استثنائية بالغة الخطورة[2]. مثلا، لقد قرر رئيس مجلس النواب الفرنسي دعوة المجلس في منتصف الليل بينما المجلس كان قرر الاجتماع في الرابع من أيلول سنة 1870 عند الساعة الثالثة بعد الظهر. وقد برّر رئيس المجلس هذه الدعوة قبل ساعات من الموعد المقرر من أجل التباحث في الهزيمة المدوّية للجيش الفرنسي أمام الجيش الألماني علما أن العديد من النواب من مختلف الأحزاب السياسية كان قد تواصل مع رئيس المجلس للدعوة إلى جلسة قبل الساعة المحددة[3]. وللمجلس أن يفوّض رئيسه تحديد موعد الجلسة المقبلة. وهذا ما أكّدته أيضا المادة 43 المذكورة علما أن “أوجين بيار” يضيف تفصيلا إذ يقول أن للرئيس ومن دون تفويض أن يدعو المجلس استثنائيا إلى جلسة في حال جاء الطلب بذلك من الحكومة.
وبالفعل تظهر محاضر جلسات مجلس النواب في المراحل الأولى من وجوده في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي أن الرئيس كان دائما يعلن موعد الجلسة القادمة ويحدّد جدول أعمالها في ختام الجلسة وأنه كان يستشير المجلس ويطلب موافقته لتحديد موعد وجدول أعمال الجلسات اللاحقة.
والحقيقة أن توقّف المجلس عن الاجتماع خلال العقود هو أمر مألوف في النظم البرلمانية على اعتبار أن المجلس يعقد جلسات أسبوعية أو حتى يومية بشكل متواصل ولا بد له أحيانا من تعليق اجتماعاته لفترة معينة. وتعرف هذه الممارسة البرلمانية بالتأجيل (la prorogation) وهي من صلاحيات المجلس وليست من صلاحيات رئيسه[4]. فرئيس مجلس النواب في لبنان عبر تعسفه في ممارسة صلاحية دعوة مجلس النواب وعبر تمنعه بالكامل عن توجيه تلك الدعوة يكون قد استبدل سيادة المجلس على نفسه بسيادة رئيس المجلس على المجلس. وهو أيضا يكون قد صادر صلاحية التأجيل التي تعود حصرا للهيئة العامة للمجلس، إذ بات رئيس المجلس في لبنان يتخذ منفردا واعتباطيا قرارا بتأجيل جلسات المجلس إلى موعد غير معلوم، ما يجعل من مجلس النواب هيئة خاضعة لسلطة رئيسه، ويحرمه من حقه البديهي بتحديد مواعيد اجتماعه وجدول أعماله.
فهذه الصلاحيات الخطيرة التي بات رئيس المجلس يمارسها اليوم في لبنان لم يناقشها أحد، لا بل هي تخالف منطق الحياة البرلمانية ولا يمكن لها أن توجد في أي نظام ديمقراطي. لذلك يمكن القول أن النظام الداخلي في لبنان عبر تاريخه المديد لم يكن يقصد على الإطلاق منح رئيس المجلس صلاحية تعليق عمل هذا الأخير وتأجيل جلساته إلى أمد غير محدد. من هنا جاز القول أن تصرف رئيس المجلس يشكل تحويرا في استخدام السلطة، لا بل هو أساء استخدام صلاحياته المحددة في النظام الداخلي لدرجة أدّت إلى تعطيل دور البرلمان بالكامل في ظل استمرار صمت النواب الناجم عن تواطئ أو عدم دراية.
فإذا كانت الكتل النيابية تستطيع تعطيل عمل المجلس عبر لعبة النصاب، لكن رئيس المجلس بات يتحكم بمفرده بكامل الحياة البرلمانية عبر انفراده بتحديد موعد الجلسات وإقرار جدول الأعمال والتأجيل المفتوح للمجلس. وقد عمد الرئيس نبيه بري إلى توسيع صلاحيّاته في هذا المجال أول مرة عندما أقفل مجلس النواب بوجه حكومة الرئيس السنيورة بعد الأزمة الوزارية التي اندلعت في تشرين الثاني 2006 واستمر الإقفال حتى أيار 2008 عندما تم انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد اتفاق الدوحة.
وهكذا اكتشف الرئيس بري أن الصلاحية البريئة التي يمنحه إياها النظام الداخلي يمكن أن تتحوّل إلى سلاح سياسي خطير عندما تدعو الحاجة. ففي سنة 2006 تم تبرير إقفال المجلس بفقدان الحكومة شرعيتها الميثاقية نتيجة استقالة جميع الوزراء الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية، بينما اليوم يتم تبرير إقفال المجلس بتجنّب الفتنة التي قد تنشب في حال تمّ التناقش في الحرب التي يعيشها لبنان. والفتنة هنا مفهومٌ مبهم قد يعني مجرد تهديد مصالح الطرف الأقوى، ما يعني أن النزاع السياسي على السلطة لا يتم حسمه في المؤسسات كما يقتضيه المنطق الدستوري إذ بات دورها يقتصر على الجانب التقني لجهة إقرار النصوص في تفاصيلها القانونية ترجمة للتوازن السياسي على أرض الواقع.
فبدل أن يكون مجلس النواب مساحة للحوار وإيجاد الحلول عبر الأطر الديمقراطية، بات اجتماعه يشكل تهديدا “للوحدة الوطنية” وفرصة لاندلاع “الفتنة” ونشر التوتر السياسي ما يحتّم منع عمل ليس فقط الهيئة العامة لكن أيضا اللجان النيابية.
والأغرب أن النواب يواظبون على عقد اجتماعات في قاعة مكتبة مجلس النواب للتباحث في شتى المواضيع ولكن بشكل غير رسمي ما يعني أن مجلس النواب تحول من سلطة دستورية إلى قاعة اجتماعات شبيهة بأي قاعة لعقد المؤتمرات الخاصة حيث يتم إطلاق المواقف الاعلامية وتسجيل النقاط من دون تفعيل دور المؤسسات. فكما يبدو لم يقم العدوان الإسرائيلي بتهجير فقط اللبنانيين من منازلهم، لكنه نجح أيضا بتهجير السلطة، أو القليل المتبقي منها، من المؤسسات الدستورية، كي تتحول إلى مجرد مبنى يأوي النواب اليوم كلاجئين هربا من “الفتنة”.
[1] لا بد من الإشارة هنا أن المادة 49 من النظام الداخلي القديم لسنة 1953 كانت أكثر وضوحا إذ نصت على التالي: ” يعين الرئيس أو نائبه عند تعذر قيام الرئيس بمهمته مواعيد الجلسات ويطبق جدول الأعمال الموضوع من قبل المكتب ويضبط إدارة الجلسات ويدير المناقشات”.
[2] “le président n’a pas le droit de déterminer seul l’ordre des délibérations de la Chambre; il est tenu de consulter ses collègues. A la fin de chaque séance, l’assemblée fixe sur la proposition du président, le jour, l’heure et les objets de discussion de la séance suivante” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 961).
[3] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 969.
[4] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 556.