بينما يشغل فيروس "كورونا المستجدّ" العالم بمختلف منظّماته لاسيّما الصحية منها، برزت تقارير في دول عدة تتحدث عن ازدياد العنف ضدّ النساء في ظلّ الحجر المنزلي الذي فرضه هذا الوباء. وقالت الأمم المتحدة إنّها غير قادرة في هذه المرحلة على تحديد عدد النساء أو الفتيات اللواتي يتعرّضن لعنف أسري في العالم نتيجة الحجر المنزليّ، لكنّها أشارت إلى أنّ واحدةً من كلّ ثلاث نساء تتعرّض للعنف خلال حياتها.
ودفع ارتفاع وتيرة العنف في ظل الحجر المنزلي، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأحد 6 نيسان إلى إطلاق نداء عالمي لحماية النساء والفتيات في المنازل بعد أيام من مطالبة المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبريسوس الدول تأمين خدمات لمعالجة العنف الأسري ضمن إجراءات مواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد.
وقال غوتيريش إنّه "على مدى الأسابيع الماضية، ومع تزايد الضغوط الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتنامي المخاوف، شهدنا طفرة عالميّة مروّعة في العنف المنزلي". وشدّد غوتيريش على ضرورة "تهيئة سبل آمنة للنساء لالتماس الدعم، من دون أن يتنبَّه المعتدون" إلى ذلك. وطالب بشكل خاصّ بـ"إنشاء أنظمة إنذار طارئة في الصيدليّات ومحلات البقالة" وهي الأماكن الوحيدة التي تزال مفتوحة في بلدان كثيرة.
ماذا عن لبنان؟
الأكيد أنّه على الرغم من غياب منصّة مخصّصة لرصد حالات العنف الأسري وإحصائها في الأيام العادية وبالتالي تعذّر ذلك في ظلّ الحجر المنزلي المستجدّ، إلّا أنّه من الأكيد أنّ وتيرة العنف الأسري ارتفعت في لبنان أسوة بباقي الدول. وتبني الجمعيات والمنظّمات المتخصّصة بمكافحة العنف ضدّ المرأة على مؤشرات تؤكّد ارتفاع نسبة العنف الأسري في الحجر المنزلي، ومن هذه المؤشرات ارتفاع نسبة التبليغات التي تلقّاها الخط الساخن 1745 المخصّص لتلقّي شكاوى العنف الأسري في قوى الأمن الداخلي بنسبة 100% في شهر آذار 2020 حين بلغت 88 اتصالاً مقارنةً بعدد التبليغات في آذار 2019 البالغ 44.
يضاف إلى هذا المؤشر، ارتفاع عدد الاتصالات بالخطوط الساخنة الخاصة بمنظمة "أبعاد" من النساء اللواتي طلبن الإيواء الآمن، بنسبة 20% مقارنة بالأشهر الماضية.
ومن المعطيات الملفتة التي تؤكّد ارتفاع نسبة العنف ضدّ النساء في الحجر المنزلي، تلقّت منظمة "كفى" اتصالات من نساء لسن أصلاً في علاقة عنفيّة، أيّ أنّ تعرضهنّ للعنف كان آنياً وربما جديداً، ما يبرّر ربط هذا العنف بالحجر المنزلي الذي فرضه وباء "كورونا".
وعلى الرّغم من كل هذه المؤشّرات لم تلحظ الحكومة اللبنانية في أيّ من قراراتها أو إجراءاتها الخاصة بمواجهة وباء كورونا أي تدبير مرتبط بهذه المسألة ولا يوجد حتّى الآن أية بوادر لذلك.
الأرقام لا تعكس الواقع
هذه الأرقام لا تعكس الواقع، فأعداد النساء اللواتي يتعرّضن للعنف داخل أسوار الحجر المنزلي أكبر بكثير، كما يؤكد العاملون في الجمعيات المعنيّة. وفي هذا الإطار تقول ريان ماجد من منظمة "كفى": "إذا نظرنا إلى العوائق التي تمنع المرأة من التبليغ عن العنف في ظلّ الحجر المنزلي سنصل إلى نتيجة مفادها أنّ الكثيرات من المعنّفات لا يمكنهنّ التبليغ".
وتشرح ماجد أنّ العوائق التي تحول دون إبلاغ النساء عن العنف في ظلّ حالة التعبئة العامة التي فرضها "كورونا" كثيرة، منها صعوبة التبليغ في ظل وجود المعنِّف في البيت طوال الوقت ولاسيما إذا كان المنزل صغيراً، هذا بالإضافة إلى معرفة المعنّفة بصعوبة التنقّل لأنّ الحركة متوقفة في الخارج، ومعرفتها أنّه من الصعب إيجاد ملجأ في ظلّ وجود "كورونا"، فمعظم الملاجئ التي تتعاون معها "كفى" توقّفت عن استقبال وافدات جديدات خوفاً من انتشار "كورونا".
ومن الأمور الأساسية التي تمنع المرأة من التبليغ، حسب ماجد، اعتبار المعنّفة أنّ ما تتعرض له ليس أولوية في ظلّ وجود وباء يهدّد حياتها وحياة من حولها، فالنساء يحرصن في العادة على إعطاء الأولوية لعائلتهنّ لاسيّما عند الأزمات، فيصبحن المسؤول الأول عن المحافظة على أمن الأسرة وسلامة أفرادها.
وفي الإطار نفسه تقول غيدا عناني، مديرة منظمة "أبعاد" إنّ واقع العنف ضدّ المرأة في ظلّ "كورونا" يحوي جزءاً غير مرئي، فالنساء قد يكنّ عاجزات عن التبليغ عن العنف، في ظل الانعزالية التي يعشنها ووجودهنّ في مساحات لا تضمن الخصوصية لطلب الدعم، هذا فضلاً عن سهولة إحكام المعنّف السيطرة على الهواتف ولاسيما انه متواجد في المنزل دائماً.
كما تتحدث عناني عن جانب أساسي وهو عدم معرفة المرأة بتوافر الخدمات لمساعدتها حتى في ظلّ "كورونا"، فبالنسبة للكثيرات التعبئة العامة تعني إقفال كلّ شيء، واستحالة الوصول إلى المخفر والقضاء أو أي ملجأ.
أب يعنّف ابنته حتى الموت وزوج يطعن زوجة
صحيح أنّ معظم حالات العنف الموجّه ضدّ النساء حالياً تبقى وراء أسوار حيطان الحجر، إلّا أنّ بعضاً من الحالات التي خرجت إلى العلن كانت مروّعة، فاليوم الثلاثاء مثلاً استفقنا على خبر موت طفلة (5 سنوات) بعد تعرّضها للضرب المبرح على يد والدها في طرابلس. وبحسب التحقيقات الأولية وتقرير الطبيب الشرعي، فإن الكسور والكدمات على كامل أنحاء الجسم تؤكد أنَّ الطفلة ضُرِبت حتى الموت، وأكدت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي أنه تم توقيف الوالد وتحويله إلى الجهات المختصة، داعية إلى اتخاذ إجراءات جدّية لحماية النساء والفتيات خلال فترة الحجر المنزلي وتضافر الجهود لإنقاذهنّ من المعنّفين. وقبل أيّام أيضاً طعن رجل زوجته بالسكين، في منطقة برّ إلياس، بعدما تنكّر بزيّ امرأة مع صديقه واقتحما المنزل الذي تقيم فيه الزوجة مع أطفالها الثلاثة.
الأكيد أنّ العنف الأقصى الذي وصل حدّ الطعن والموت هو السبب في خروج هاتين الحالتين إلى العلن، ولكن ماذا عن الفتيات والنساء المعنّفات اللواتي ما زلن على قيد الحياة "من قلّة الموت"؟ هؤلاء من الصّعب الوصول إليهنّ لمعرفة قصصهنّ لذلك استعانت "المفكرة القانونية" بالجمعيات التي لجأن إليها ولاسيّما "أبعاد"، لرسم ملامح عامّة للحالات التي تمّ التبليغ عنها.
معظم السيّدات اللواتي تواصلن مع "أبعاد" أبلغن عن ازدياد وتيرة التعنيف مع بدء الحجر المنزلي واشتداد الضغوط الاقتصادية التي تواجه العائلة وتواجد أكبر للمعنّف داخل البيت الأمر الذي حوّلهن إلى "فشّة خلق". ومعظم هؤلاء النساء تحدّثن عن توقّف أزواجهنّ عن العمل وتحوّلهم إلى قنبلة موقوتة تنفجر عند كلّ استحقاق (مثل حلول موعد دفع إيجار البيت) على شكل عنف معنوي وجسدي موجّه ضد الزوجة والأولاد.
من القصص المؤلمة التي وردت في تقرير "كفى" لشهر آذار، عن سيّدة اضطرت للبقاء في منزل زوجها المعنّف لأنّ أختها التي كانت تلجأ إلى بيتها عند تعرّضها للعنف اعتذرت عن استقبالها بسبب الخوف من "كورونا"، كما أنّ المآوي التي تستقبل النساء المعنّفات عادة، لم تعد تستقبل حالات جديدة للسبب ذاته.
الأزمات "تحرّض" على العنف
غالباً ما تخلق الأزمات على اختلافها ضغوطات وظروفاً ترفع احتمالات العنف لاسيّما ضدّ المرأة، وسبب ذلك يعود بحسب عناني إلى غياب الثقافة والتوعية المتعلّقتين بكيفية إدارة التوتر والتعامل مع الضغوطات والقلق بطريقة غير عنفية، هذا فضلاً عن أنّ الأزمات تساهم في تحريك الفكر الذكوري الذي يوجّه غضبه ضد المرأة. وتعتبر عناني أنّ الكثير من المجتمعات ومنها مجتمعنا همّش الصحة النفسية والرعاية الذاتية، فالكثير من الناس لا يعرفون كيف يهتمون بأنفسهم لاسيّما في الأزمات من دون التسبب بإيذاء ذاتي أو غيري، لذلك يزيد العنف تجاه الآخر في الأزمات وأيضاً العنف الذاتي والذي يصل في بعض الأحيان إلى أفكار انتحارية.
وفي الأزمة الحالية أي "الحجر المنزلي" يُضاف إلى العوامل السابقة عامل عزل النساء اللواتي يصبحن في عزلة تغذّي ثقافة الوصمة الاجتماعية التي تساهم في تقبّل العنف وعدم الإبلاغ عنه حسب عناني.
دعم النساء مستمر رغم "كورونا"
على الرغم من حال التعبئة العامة وصعوبات التنقل في زمن "كورونا" تؤكد الجمعيات المعنيّة بمكافحة العنف ضدّ المرأة، أنّ عملها مستمر ولو بأشكال أخرى فرضها الواقع الذي نعيشه.
وفي هذا السياق تقول ماجد إنّ خطّ المساعدة في منظمة "كفى" والذي يتلقى الاتصالات 24/24 لم يتوقف لحظة، وأنّ المنظمة مستمرة بتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني لأي امرأة تطلب المساعدة، طبعاً مع مراعاة التدابير الوقائية من فيروس "كورونا"، وتوضح أنّه انطلاقاً من ملاحظة ازدياد عدد الرسائل الخطية الخاصة التي تصل على وسائل التواصل الإجتماعي وخاصة عبر فيسبوك، ستعمل "كفى" في الفترة المُقبلة على تفعيل هذه الطريقة في التواصل إذ يبدو أنها أكثر راحة وأماناً للسيّدات في مرحلة الحجر.
وبما أنّ "كفى" تقدّم الدعم القانوني، توضح ماجد أنّ هناك نساء تقدّمن بشكاوى ضدّ معنّفهنّ، وكذلك تمّ تقديم طلبات حماية قضائية ولكنّ مصير هذه الطلبات مجهول حتى الآن بسبب توقّف المحاكم عن العمل.
وفي الإطار نفسه تؤكد عناني أنّ منظمة "أبعاد" تأخذ كل المعوّقات التي تحول دون الوصول إلى النساء المعنّفات في الوقت الراهن بعين الاعتبار، من خلال العمل على آليات تسهّل الوصول إليهنّ سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي واستخدام تطبيقات مثل "واتساب" و"فايبر" Viber أو عبر الشراكة مع الإعلام التقليدي، وحتى من خلال المرجعيّات المحلية في المناطق من بلديات ومخاتير.
وقد أتاحت المديرية العامّة للأمن الداخلي أيضاً للنساء والفتيات اللواتي يتعذّر عليهنّ إجراء مكالمات هاتفيّة في المنزل خوفاً من معنّفيهنّ، إمكانية الإبلاغ عن شكاوى العنف الأسري عبر موقعها الإلكترونيhttp://isf.gov.lb : خدمة بلّغ.
صعوبة تأمين ملجأ آمن
إضافة إلى العوائق التي تحول دون تبليغ المعنّفة عمّا تتعرّض له، هناك عائق أساسي يواجه الجمعيات المعنية بمكافحة العنف ضدّ المرأة وهو إيجاد ملجأ آمن للمعنفة والالتزام بمعايير الوقاية من "كورونا".
فالكثير من الملاجئ التي كانت تؤمّنها الجمعيات توقفت عن استقبال وافدات جديدات بسبب التخوّف من "كورونا". إلاّ أن هذه الخدمة لا زالت متوافرة في منظمة "ابعاد" أقلّه، إذ تقول عناني إنّ "خدمة مراكز الإيواء في المنظمة مستمرّة ولم تتوقف لا في ظل الثورة وقطع الطرقات ولا في ظل "كورونا"، ولكن اتخذنا تدابير وقائية كالتأكد من عدم وجود عوارض تدلّ على احتمالية إصابة المعنفة بفيروس "كورونا"، واعتماد الحجر عند الضرورة بشقق منفصلة لمدة 14 يوماً". وتضيف عناني أنّ الأمر ليس سهلاً فهو يستلزم متابعة دائمة وفحوصات والتأكّد من التعقيم المستمر في الملاجئ والسيارات التي تنقل النساء إلى الملاجئ.
العاملات الأجنبيات غير محميّات
تعتبر الجمعيات المعنية بمكافحة العنف ضدّ المرأة أنّ عاملات المنازل الأجنبيات في لبنان هنّ الحلقة الأضعف في ظلّ أزمة "كورونا"، ففي الوقت الذي يزيد فيه احتمال تعرّضهنّ للعنف مع حال التعبئة العامة تزداد العوائق التي تحول دون وصولهن لطلب المساعدة.
وفي هذا الإطار تقول المحامية في قسم الاتجار بالبشر في منظمة "كفى" موهانا اسحق، إنّ خط المساعدة لم يشهد زيادة في عدد الاتصالات التي تبلّغ عن عنف مورس ضدّ عاملات منزليات خلال شهر آذار، ولكن هذا لا يعني عدم وجود عنف جديد ممارس ضد عاملات المنازل.
وتشرح إسحق أن "كفى" ومن خلال تجربتها وانطلاقاً من معطيات واقعية، تعرف أنّ العاملات المنزليات حالياً معرّضات بشكل كبير للعنف، ففي هذه المرحلة تزيد الضغوطات بشكل كبير على هذه الفئة وتزيد حالات العنف وسوء المعاملة بخاصة أنّ أرباب العمل متواجدون بشكل دائم داخل المنزل، ما يعني تواصلاً مباشراً أكبر مع العاملة في ظلّ توتر وقلق قد يؤديا إلى سلوكيات عنفية.
وتضيف إسحق أنّ وجود صاحب العمل في المنزل يعوق العاملة من التبليغ عن أي انتهاك تتعرض له هذا بالإضافة إلى انّ معظم ملاجئ الإيواء والحماية مغلق بسبب التخوّف من "كورونا" ، وصعوبات إجراء الفحوصات السريعة في حال تركت العاملة بيت كفيلها.
وتوضح إسحق أنّ الأزمة الاقتصادية التي شهدها لبنان مؤخراً ضغطت على العاملات، ومن ثم أتت أزمة "كورنا"، لذلك يُخشى أن يكون هناك الكثير من حالات العنف الممارس ضدّ العاملات يصعب الوصول إليها بسبب شبه انقطاعهنّ عن التواصل مع الخارج، وفي ظل غياب آليات مراقبة من الوزارات المعنية تتيح للعاملة التبليع عن العنف وطلب المساعدة بشكل آمن وبسيط.