في 2010، أصدرت وزارة العدل كتاب “واقع الاجتهادات في المحاكم اللبنانية” ضمن مشروع SEEL(دعم الجهاز القضائي في تطبيق التشريعات البيئية)، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي في العام 2007. ويهدف الكتاب الى تعزيز قدرات المحاكم في تطبيقها للقوانين البيئية ورفع مستوى الوعي البيئي في الجسم القضائي. وقد ارتأينا استشراف كيفية تفاعل القضاة مع قضايا البيئة من خلال محتوى هذا الكتاب، على أن نستكملها في الأعداد المقبلة من خلال تمحيص كيفية تطور الاجتهاد القضائي في هذه الميادين بعد صدوره.
أي قضايا بيئية تطرح قضائياً؟
صنّف الكتاب القضايا التي عدّها ذات طابع بيئي ضمن التصنيفات الآتية: في البيئة الأرضية وجوف الأرض (استخراج ردميات من دون ترخيص، اقتلاع وتفجير صخور، استخراج رمول من البحر، تشغيل كسارات، ورمي نفايات)؛ في البيئة المائية (تسرب مياه مبتذلة من جورة صحية الى الطريق العام)؛ في الهواء والروائح المزعجة (استعمال محرك سيارة يعمل على المازوت، حرق إطارات وسيارات، تصاعد دخان مشبع بالمازوت من داخون فرن، تسرب غبار كثيف نتيجة عمل مصانع)؛ في الأذية الصوتية والضجيج (إقلاق راحة السكان باستعمال مولد كهربائي، إطلاق مفرقعات)؛ في الساحل والبيئة البحرية (تسرب فيول الى البحر)؛ في الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي (اقتلاع أشجار).
وفي تحليلها الإحصائي، تشير الدراسة الى تزايد عدد الاجتهادات البيئية خلال التسعينيات وحتى العام 2007، الأمر الذي يؤشر الى تزايد طرح النزاعات ذات الطابع البيئي أمام المحاكم. إلا أن هذا التزايد لا يدلل على شيء في ما يتعلق بنوعية الأحكام الصادرة أو مدى تطور الاجتهادات البيئية.
كيف يتفاعل القضاة مع القضايا البيئية؟
– أحكام بشكل نماذج بدون تعليل
قبل الغوص في مضمون الاجتهادات ذات الطابع البيئي، التي وضعتها الدراسة السالفة الذكر بين أيدينا، تجدر الإشارة الى كثرة الأحكام المحررة على شكل نماذج مطبوعة مسبقاً، بعنوان “قرار جزائي بمخالفة الأنظمة البلدية والصحية وأنظمة السير”، لا يتعدى حجمها الصفحة الواحدة، ويقتصر دور القاضي فيها على إضافة معلومات معينة الى الفراغات. مثالاً على ذلك نذكر الأحكام الصادرة في قضايا قيادة سيارة بمحرك يعمل على المازوت عن القاضي المنفرد في بعبدا[1] أو قضايا رمي النفايات[2].
– أحكام البيئة بصيغة مخالفات ذات طابع عقابي بمعزل عن أي بعد بيئي لها
وهذه النمطية في مقاربة قضايا البيئة تتجلى في معظم الأحكام الصادرة في قضايا البيئة حتى في غياب نماذج مطبوعة، حيث تقتصر هذه الفئة من الأحكام على عرض الوقائع وتطبيق القانون تلقائياً بعيداً عن أي حيثيات معللة تعطي زخماً للأبعاد البيئية[3]. وفي مراجعة سريعة لمضمون الأحكام الصادرة بعد إقرار القانون السالف الذكر، سعينا الى رصد مدى تفاعل المحاكم مع التطور التشريعي الذي أحدثه صدور قانون حماية البيئة رقم 444 في العام 2002 على المنظومة القانونية البيئية. وقد سجلنا تطبيقاً خجولاً للقضاة لأحكام هذا القانون وانكفاءً عن استثمار المبادئ الكبرى المكرسة فيه. ويسجل أن غالبية القضاة اكتفت بتطبيق قانون العقوبات من دون أي إشارة الى قانون 444، الأمر الذي يجرد القضايا من طابعها وجوهرها البيئي ويركز على الشق الجزائي العقابي منها، علماً أن من شأن تطبيق قانون 444 أن يؤدي في أحيان كثيرة الى مضاعفة العقوبات والى زيادة الموجبات المدنية المترتبة على المرتكب.
مثالاً على ذلك استندت المحاكم الى المادة 770[4] عقوبات في قضايا اقتلاع صخور من دون ترخيص[5]، أو استخراج رمول دون ترخيص[6]، أو تشغيل كسارة دون ترخيص[7]، باعتبارها مجرد مخالفات لأنظمة إدارية. وقد خلت هذه الأحكام، التي أتت في معظمها على شكل نماذج، من أي حيثيات حول الضرر الناتج من مثل هذه الارتكابات على البيئة الأرضية وجوف الأرض (مواد 38-41 من قانون 444). كما شكلت هذه المادة سنداً قانونياً لمعاقبة الإضرار بالجوار من جراء الشحتار المتصاعد من فرن بدون ترخيص[8] مع العلم أن هذا الأمر يندرج ضمن المواد 24-28 من قانون 444 المتعلقة بالتسبب بروائح مزعجة. كذلك اعتبر رمي أحشاء دجاج في النهر[9] ورمي أوساخ في النهر[10] من باب مخالفة الأنظمة الإدارية المعاقب عليها في المادة 770 من قانون العقوبات، على الرغم من أن قانون 444 يدرجها في إطار الأضرار بالبيئة المائية (مواد 35-37). وعلى أساس الذهنية نفسها، اعتبر القاضي المنفرد في طرابلس[11] أن إطلاق المفرقعات هو مجرد مخالفة إدارية من دون إثارة الأذية الصوتية والضجيج الملحوظة في المادة 46 من قانون 444. في نفس السياق، اسند القضاة عددا من الاحكام الى مواد اخرى من قانون العقوبات كالمادة 739 التي تندرج في خانة التعدي على المزروعات والحيوانات وآلات الزراعةلمعاقبة اقتلاع و تكسير الاشجار[12] من دون اي اشارة الى الضرر اللاحق بالبيئة والتنوع البيولوجي (المواد 47-49 من قانون 444). كذلك اكتفى القاضي المنفرد في بعقلين[13] بالإشارة الى المادة 758 في قضية استعمال مولد كهربائي من دون كاتم وإقلاق راحة السكان، مع العلم أنه كان بإمكان المحكمة الارتكاز الى الأذية الصوتية والضجيج في هذا الصدد (المادة 46 قانون 444).
الى جانب قانون العقوبات أحال القضاة في قلة من أحكامهم الى قوانين أخرى كالقانون 64/88 المتعلق بالمحافظة على البيئة ضد التلوث من النفايات الضارة والمواد الخطرة[14].
وبالطبع، لا يشكل تطبيق هذه القوانين خروجاً عن قانون 444 الذي يؤكد في مادته الرابعة والستين “أن العقوبات المنصوص عليها (فيه) لا تحول دون تطبيق العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات وسائر التشريعات الجزائية…”. إلا أن التساؤل يبقى مشروعاً عن سبب إعراض القضاة عن تكريس موجب حماية البيئة الملحوظ في قانون 444، لما يؤدي تطبيقه من توعية على أهمية البيئة من جهة ولما يتيحه من تشديد للعقوبات من جهة أخرى. فالغرامة المقررة في المادة 770 من قانون العقوبات لا تتجاوز الـ600 الف ليرة وعقوبة الحبس هي 3 أشهر على الأكثر في حين أن المادة 59 من قانون حماية البيئة 444 تلحظ غرامة قد تصل الى 10 ملايين ليرة، بالإضافة الى عقوبة الحبس من شهر الى سنة (أو إحدى هاتين العقوبتين) لكل من يخالف أحكام هذا القانون ونصوصه التطبيقية المتعلقة بحماية البيئة الهوائية أو البحرية أو المائية أو الأرضية وجوف الأرض.
– تطبيق نادر لقانون حماية البيئة
اللافت أنه حتى الأحكام التي طبقت قانون حماية البيئة 444 لم تعطه الزخم اللازم لناحية إعلاء موجب الحفاظ على البيئة بل اقتصرت هذه الأحكام على تطبيق المادة 59 من القانون السالف الذكر تلقائياً، من دون إحاطتها بحيثيات تعطي القضايا البيئية زخمها الضروري. من أبرز الأحكام التي لحظت قانون حماية البيئة تلك الصادرة بحق شركة هولسيم بسبب تصاعد غبار كثيف عن القاضي المنفرد في البترون[15]. كذلك طبقت المادة نفسها في قضية حرق سيارة قبل ضغطها في المكبس[16]. كذلك طُبقت المادة 59 من القانون رقم 444 على خلفية الدخان المتصاعد من داخون فرن مشبع بالمازوت يسبب ضرراً للسكان المجاورين[17].
وفي هذا الإطار، يسجل موقف سلبي لمحكمة التمييز التي خلصت بتاريخ 2004-9-30الى القول بكف التعقبات بحق المدعى عليه، مستندة الى عدم توافر الأدلة على تجاوز دخان متصاعد الحدود القصوى المسموح بها، معتبرة أنه في غياب المعدات والأجهزة المتطورة للمراقبة وتحديد نوعية الغبار وكميته وما إذا كان يؤلف ضرراً صحياً أو بيئياً، لا يمكن الركون الى المشاهدات الشخصية لمنظمي المحضر إثباتاً لذلك. وتؤكد الدراسة افتقاد الاجتهادات أهم المفاهيم البيئية المعاصرة مثل مبدأ الوقاية والاحتراس، والملوث يدفع بنتيجة عدم إقرار المراسيم التطبيقية اللازمة.
ضعف الحراك العام حول الحق بالبيئة، أي نتائج؟
منطقياً، كان يفترض بإقرار قانون 444 أن ينعكس أكثر زخماً في القرارات القضائية كما هي الحال بالنسبة لقانون العنف الأسري الذي صدرت عشرات الأحكام المطبقة له فور صدوره في نيسان 2014، مع الإشارة الى أن عدداً من هذه الأحكام تميز بطابعه الريادي في تفسير أحكام القانون على نحو يعزز إمكانيات الحماية من العنف[18]. وقد يكون السبب الرئيسي لذلك في قوة الحراك العام الحاصل حول قانون العنف ضد النساء، وذلك بخلاف الحال في قضايا البيئة حيث بقي الحراك ضعيفاً وشبه معدوم.
٭مجاز في الحقوق, من فريق عمل المفكرة القانونية
نشر هذا المقال في العدد | 21 |أبلول/سبتمبر/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
بعدما بات الحق بالبيئة حقا دستوريا في دول عدة:ماذا يعني أن تتوسط شجرة علم لبنان؟
[1]القاضي المنفرد في بعبدا قرارت رقم 1071،1072،1073،1074،1075،1076،1077،1078،1079،1080،1081،1082،1083،1084، 1085، 1086، 1087، 1088 ،1089 تاريخ 9-4-2008
[2]القاضي منفرد في اميون قرار رقم 288 تاريخ 8-5-2007 ؛ القاضي المنفرد في القبيات قرار رقم 839 تاريخ 6-12-2006 ؛ القاضي المنفرد في جبيل قرار رقم 679 تاريخ 7-11-2006
[3]القاضي المنفرد في تبنين قرار رقم 128 تاريخ 20-5-2006 ، القاضي المنفرد في البترون قرارات رقم 106 و107 و109 و110 و113 تاريخ 15-3-2006.
[4]تنص المادة 770 عقوبات على ما يلي: من خالف الأنظمة الإدارية أو البلدية الصادرة وفقاً للقانون عوقب بالحبس حتى ثلاثة أشهر وبالغرامة من مئة ألف إلى ستمئة ألف ليرة، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
[5]القاضي المنفرد في بعقلين تاريخ 7-7-2003
[6]القاضي المنفرد في راشيا تاريخ 22-10-2003؛ القاضي المنفرد في جب جنين تاريخ 31-1-2005
[7]القاضي المنفرد في الدامور تاريخ 13-7-2004؛ القاضي المنفرد في شحيم تاريخ 7-7-2005
[8]القاضي المنفرد في طرابلس قرار رقم 713 تاريخ 22-12-2004.
[9]القاضي المنفرد في الهرمل قرار رقم 171 تاريخ 24-12-2005.
[10]القاضي المنفرد في الهرمل قرار رقم 19 تاريخ 15-1-2006.
[11]قرار رقم 1091 تاريخ 31-7-2006.
[12]القاضي المنفرد في مرجعيون تاريخ 21-12-2005
[13]قرار رقم 143 تاريخ 25-10-2004
[14]القاضي المنفرد في البترون قرارات رقم 106 ورقم 107 تاريخ 15-3-2006
[15]قرارات رقم 109، 110، 113 تاريخ 15-3-2006
[16]القاضي المنفرد في اميون، قرار رقم 285 تاريخ 20-6-2006
[17]القاضي المنفرد في البترون قرار رقم 262 تاريخ 9-12-2003
[18]نزار صاغية، أول تطبيق لقانون حماية المرأة من العنف الأسري في لبنان أو حين اجتهد القاضي تصحيحا لقانون مبتور، منشور على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية في 9-6-2014.