استيقظت منطقة بشرّي الأربعاء 25 تشرين الثاني 2020 على مشهدين موجعين: تمثّل الأول بجثمان ابنها جوزف عارف طوق (29 عاماً) مسجّى في كنيسة السيدة تمهيداً لمواراته الثرى عند الثالثة من بعد الظهر بعدما قُتل، مساء الاثنين الفائت، بأربع رصاصات على يد المشتبه به العامل السوري م. خ. ح. الذي يعمل ناطوراً في منزل عمّ الضحية. أما الثاني فكان القصص المؤلمة عن تهجير السوريين المقيمين في بشرّي رجالاً ونساء وأطفالاً، وتعرّض البعض منهم للضرب والاعتداء وحرق دراجاتهم النارية في وقت سارع عدد من أهالي بشرّي إلى محاولة حماية اللاجئين الذين يعيش العديد منهم بين الأهالي ومعهم منذ 30 عاماً، وصولاً إلى الذين وفدوا إلى المنطقة بعد أحداث سوريا في 2011.
وما بين المشهدين، استشعر عقلاء بشري خطراً ثالثاً في إثر إقدام بعض الشبّان، ممّن اعتدوا على سوريين مقيمين في البلدة، على إحراق منزل لآل كيروز صباح الأربعاء كانت تقيم فيه عائلة سوريّة غادرته في إثر وقوع الجريمة وأنباء عن تعرّض منزل أحد أبناء البلدة للسرقة بحجّة البحث عن سوريين مقيمين فيه. وأثارت هذه الحوادث التخوّف من حصول مشاكل بين أبناء البلدة الواحدة، ممّا استدعى الإسراع في طلب تدخّل القوى الأمنية والجيش لضبط الوضع، “قبل أن نبدأ بالدفاع عن منازلنا وأملاكنا بأنفسنا”، كما قال أحد أبناء بشرّي لـ”المفكرة القانونية”.
“المفكرة” وثّقت شهادات عدد من السوريين الذين خرجوا أو أجبروا قسرياً على الخروج من بشرّي وبعض من الذين تعرّضوا للضرب كما قصص بعض من أهالي بشرّي الذين ساهموا في حماية السوريين أنفسهم.
مداهمات للجيش ومطالبات بإخلاء السوريين
وعلمت “المفكرة” من مصدر عسكري أنّ قوّة مؤلّلة من الجيش اللبناني والشرطة العسكرية وصلت إلى بشري، وزوّدها بعض الأهالي بلائحة بأسماء الشبّان الذين اعتدوا على أشخاص من الجنسية السورية، وما انفكّوا يداهمون بعض المنازل للعثور على من تبقّى منهم. ولم يكشف المصدر العسكري ما إذا تمّ القبض على أحد من المعتدين على السوريّين أو إذا تمّ العثور على أسلحة. ولكن في المقابل، أكّد المصدر حصول “مداهمات” نفّذها الجيش لبيوت يسكنها سوريون “بحثاً عن أسلحة محتملة”. ويبدو أنّ مداهمة أماكن سكن اللاجئين السوريين تأتي استجابة لطلب أدرجته بلدية بشري في بيان أصدرته بعد الجريمة دعت فيه القوى الأمنية إلى “القيام بحملة تفتيش واسعة على أماكن سكن السوريين، والتحقق من هوياتهم وعدم التلكّؤ في هذا الموضوع”.
في موازاة ردود فعل بعض الشبّان واعتداءاتهم، وجد السوريون أنفسهم أيضاً موضع تجاذبات بين بلدية بشري المحسوبة على القوّات اللبنانية وبين منافسي نائبَي القوّات فيها المرشحيّن على لائحة “حرّاس بشري” في انتخابات 2018 ملحم (ويليام) طوق، وروي عيسى الخوري، حيث تبارى الطرفان على الدعوة إلى إخراج السوريين من البلدة. وعقد طوق والخوري مؤتمراً صحافياً، مطالبَين، في بيان تلاه المحامي طوني الشدياق، السّلطات المحلية “أن تبادر فوراً وقبل أن تجفّ دماء القتيل الحبيب، وقبل أن يصار إلى تحقيق العدالة اتخاذ قرار ضمن نطاق صلاحياتها كبلدية بإخلاء جميع السوريين المقيمين حالياً في بشرّي سواء كانوا عمالاً أو مستوطنين أو عائلات وذلك ريثما يصار إلى البحث في آلية تنظيمية محدّدة يصار من خلالها إلى الاستعانة بالعمال الذين يرغبون بالعمل هنا ضمن ضوابط ومعايير تحفظ حقوقهم وتحفظ أمننا وكرامتنا وسلامة أهلنا”. واعتبر الشدياق أنّ ردّ الفعل على الجريمة “كان غضباً عفوياً صادقاً انفجر قبل أن تجفّ دماء من لا يستحق الموت”، غامزاً من قناة تحميل البلدية والقوى السياسية من ورائها المسؤولية بالقول إنّ “سنوات مضت وقد جفت حناجرنا من مناشدة السلطات الرسمية والمحلية بوجوب ضبط وتنظيم العمالة السورية في أرضنا بعيداً عن دهاليز الاستثمار السياسي الرخيص في مسألة النازحين أو اللاجئين، ولا حياة لمن تنادي”.
من جهتها، استغربت البلدية في بيانها “وجود أسلحة في يد من يدّعون العمالة”، لتتساءل “هل وجودهم في المدينة هو فقط بهدف العمل أم أن هناك خلفيات أخرى؟”. وأتت هذه الفقرة تعقيباً على استعمال المتهم بارتكاب الجريمة مسدساً. وحذرت البلدية “جميع السوريين المقيمين في المدينة بشكل غير شرعي مغادرتها فوراً”، مطالبة الأهالي بـ”اتخاذ قرار تاريخي وجريء بتغيير وجه العمالة في استخدام اليد العاملة المحلية في الأنشطة الزراعية والصناعية والسياحية، كما وعدم تأجير أيّ غريب من دون التأكّد من أوراقه الثبوتية”. وقرّر المجلس البلدي إبقاء اجتماعاته “مفتوحة وعلى تواصل دائم مع نائبي بشري وجميع فعالياتها وكهنتها لمتابعة الملف حتى النهاية”. واللافت أن هذا البيان صدر في وقت كانت تتوالى فيه ردود الأفعال الشعبية على الجريمة.
خوفاً من كترمايا ثانية
وكانت القوى الأمنية، في محاولة منها للحدّ من ردود الفعل وتخوفاً من تكرار جريمة كترمايا 2010، (حين أعدم بعض الشبّان مشتبها به بالقتل (مصري الجنسية) في ساحة البلدة، بعدما ساقته القوى الأمنية إلى مكان الجريمة لتمثيلها)، قامت سريعاً بنقل المتهم بجريمة بشري إلى خارج القضاء، بعدما حاصرت مجموعة من الغاضبين، وعلى وقع قرع أجراس الكنائس، سرايا المدينة حيث احتجز بعد إلقاء فرع المعلومات القبض عليه.
كما تعيدنا جريمة بشري وردود الفعل عليها واستهداف السوريين كمجموعة بناء على هويّتهم وجنسيّتهم إلى جريمة مزيارة بتاريخ 22 أيلول 2017، حيث عُثر على الشابة اللبنانية ريّا الشدياق (26 عاماً) جثة هامدة داخل فيلّا ذويها في بلدتها في قضاء زغرتا، شمال لبنان. يومها، بنتيجة التحقيقات، اشتبه بالنّاطور، وهو سوري الجنسية، نظراً لوجود آثار خدوش أظافر على جسمه وصدره نتيجة مقاومة الضحية له (قاضي التحقيق الأول في الشمال سمراندا نصّار أصدرت قرارها الظنّي في جريمة قتل الشّدياق وطلبت عقوبة الإعدام للمتهم السوري باسل الحمدة ولا تزال قضيّته أمام محكمة الجنايات في الشمال). وأنتجت جريمة مزيارة يومها، كما بشرّي اليوم، ردّة فعل غاضبة لدى أهالي وأصدقاء الضحية، حيث تجمّعوا مساء اليوم التالي (23 أيلول 2017) أمام مبنى البلدية في مزيارة للمطالبة بـ”إعدام القاتل في ساحة مزيارة”. والملفت أنّ المشاركة لم تقتصر على مزيارة بل شملت مختلف أقضية الشمال من بينها بشري وطرابلس، حيث رُفعت يافطات مندِّدة بالجريمة النكراء ومطالِبة بتنفيذ حكم الإعدام شنقاً والعدالة لريّا، وحينها أيضاً أصدرت بلدية بشرّي بياناً متشدداً بشأن استخدام العمّال السوريين وسكنهم مع عائلاتهم. وإثر جريمة مزيارة، صدرت بيانات ومطالبات بطرد جميع السوريين المقيمين في البلدة، تماماً كما حصل في بشرّي بالأمس.
(تصوير: بشير مصطفى)
“ضربوني قدّام أطفالي وزوجتي”
في المقابل، عاشت بشري إثر شيوع خبر الجريمة عمليات كرّ وفرّ بين أبنائها وحتى ضمن العائلة الواحدة. ففي حين جابت البلدة مجموعة أو أكثر من الشبّان قاموا بمهاجمة منازل يسكنها لاجئون سوريّون واعتدوا عليهم متسبّبين بإصابة بعضهم بجروح، مطلقين أصواتهم في الشوارع يطالبون بطرد السوريين، سارع بشرّانيون آخرون إلى محاولة حماية اللاجئين الذين يعيش العديد منهم بين الأهالي ومعهم منذ 30 عاماً، وصولاً إلى الذين وفدوا إلى المنطقة بعد أحداث سوريا في 2011.
وفيما روى لاجئون سورّيون لـ”المفكرة” تفاصيل تعرّضهم للضرب على أيدي مجموعات من الشبّان وصل عديدها أحياناً إلى 30 شاباً، أكّدوا أنّه لم يكن باستطاعتهم مغادرة بشري لولا مساعدة بعض أهلها الذين نقلوهم إلى إهدن أو إلى زغرتا ومحيطهما بسياراتهم. ومع ذلك أُخرج هؤلاء من دون أوراقهم الثبوتية أو حتى بعض المال ومن دون أي ملابس أو مقتنيات.
ويقول ممدوح أبو حسين لـ”المفكرة” أنّ مجموعة من نحو 30 شاباً من بشري قاموا بتكسير باب منزله فور وصوله من عمله مساء، وقبل شروعه بتناول عشائه، وقاموا بضربه ضرباً مبرحاً وبالعصي على رأسه وجسده أمام أطفاله وزوجته، ثم تركوه لينقضّوا على منزل عائلة سورية أخرى. وعلى الفور اتّصل ممدوح بعائلة هيّاف فخري التي يعمل معها، الذين حضروا على الفور إلى منزل ممدوح ونقلوه مع عائلته في سيارتهم إلى إهدن. “لو كان أحد من أفراد عائلة فخري مومجوداً لما سمح بضربي”، يقول ممدوح، مضيفاً “صار إلي بشتغل معهم 25 سنة وساكن ببشرّي، وأنا بحسّ حالي واحد من أهلها”. ضرب الشبان أيضاً شقيق ممدوح وكسروا له أضلعه، واعتدوا على صهره “بس ما ضربوا النسوان والأطفال”. عائلة ممدوح، المؤلفة من أمه (ثمانينية) ووالده وأخوته اتصلوا بمختار بشري طوني فهد الفخري الذي نقلهم إلى إهدن “ومع هيك لحقوهم ليعتدوا عليهم هنّ ومع المختار”، وفقاً لممدوح.
بعد قليل من وصول ممدوح إلى إهدن، سرت أخبار عن تتبّع شبّان من بشرّي للسوريين إلى إهدن. وهو ما دفع ممدوح إلى الطلب من أحد الأشخاص إيصاله إلى زغرتا. هناك اختبأ مع زوجته وأولاده الخمسة، كبيرهم في الثامنة من عمره وصغيرهم رضيع في شهره التاسع، في أحد كروم الزيتون في العراء إلى حين انبلاج الصباح وإيجاد سيارة تقلّهم إلى طرابلس.
“بفضّل موت وما يتأذّى حدا منهم”
“المفكرة” اتصلت بمختار بشري طوني فهد فخري الذي لحق به بعض الشبّان وهو ينقل نحو 25 شخصاً بآلية بيك آب نحو إهدن، وحاولوا التعرّض للاجئين السوريين الذين كانوا برفقته. يعتبر المختار فخري أنّ من قاموا بهذا العمل هم “أولاد تراوح أعمارهم بين 15 و23 سنة، عاطلين عن العمل، ولا تهمّهم أخلاق أهل بشرّي الذين يحترمون النزيل والغريب”. وبعدما استنكر الجريمة التي استهدفت الشاب جوزف طوق، أكد لـ”المفكرة” أنه قام بواجبه بحماية الأبرياء من “فورة الدم”، مشيراً إلى أنّه نزل من سيّارته ولم يترك كلاماً إلّا وانهال به على متتّبعي العائلات السورية التي كانت برفقته “كنت بفضّل موت وما خلّيهم يتعرّضوا للأذى والشبّان يلي لحقوهم بيعرفوا إنّي مش ممكن اسكت لهم وإنّي بعمل معهم مشكل فتراجعوا وغادروا”. وأكّد أنّه أتى بسيارة أحد اللاجئين الذي تركها في بشرّي إلى منزله ليمنع أيّ أحد من حرقها “لا يجوز أخذ الأبرياء بجريرة المذنب”. وأوضح المختار أنّه ومجموعة من أهالي بشرّي ينتظرون مرور أسبوع على الحادثة الأليمة للتباحث في وضع السوريين، إذ “وقبل حاجتنا لعملهم، هم يعيشون بيننا منذ 25 سنة، ونحن رايحين ع بيوتهم بسوريا ومنعرف أهلهم وأخواتهم”. يقول المختار إن عائلات سورية اتّصلت به من سوريا “وقالوا لي أولادنا أمانتكم يا مختار”. وأشار إلى أنّ بشري منطقة زراعية “طول عمرهم خدمونا بحنّية وع السكت، عنّا تفّاح وخضار ونحن بحاجة إلهم والسوري بيشتغل. شغلنا بغيابهم واقف. حتى صبّة الباطون بالحقلة واقفة ما فينا نصبّها من غير السوريين، التفّاح ما بيمشي، كل حيطان الحجارة بضيعتنا وبحقولنا هنّ عمروها، وزرعوا أشجارنا، وكيف ما بدنا نعترف بجهدهم وحاجتنا إلهم وهن كمان بحاجة إلنا”. وطالب المختار فخري بسيادة حكم القانون والقضاء “يهمّنا أن نعرف من أين أتى الناطور السوري بالمسدس؟ إذا لاجئ وعامل من أين جاء بالسلاح؟”، مضيفاً “نعم لدى الأهالي تخوّف من أي خلايا نائمة، حيث هناك في لبنان خلايا تكفيرية”. ومن بين نحو 1200 إلى 1800 شخص من التابعية السورية موجودون في بشري، يؤكّد المختار أنّ “50% منهم نعرفهم، ولكن هناك جدد أيضاً، ويجب تنظيم أوضاعهم”.
من جهته، يتّهم رئيس بلدية بشري فريدي كيروز وسائل التواصل الاجتماعي بتلفيق التهم وممارسات غير صحيحة لبشرّي “السوشيل ميديا كلّها فايك وكذب، وهيدا من فعل الطابور الخامس، قالوا في 3 قتلى سوريين وهيدا كله كذب”. واعتبر كيروز في اتصال مع “المفكرة” أنّ الجريمة في قمّة البشاعة “شاب بربيع عمره تقوّص غدر بضهره، ونعم صار في ردّ فعل وحرقوا موتوسيكل”. و”بغضّ النظر عن أسباب الجريمة”، كما قال، يسأل رئيس بلدية بشري “كيف لعامل سوري أن يقتني السلاح ولأيّ سبب؟ وفي جميع الأحوال إنّ اقتناء السلاح يخضع للترخيص، فلننتظر تحقيقات الأمن والقضاء في هذا الموضوع لنرى إذا كان مرخّصاً أم لا، وما هي الحقيقة؟”. ورداً على الاعتداءات التي تعرّض لها بعض اللاجئين السوريين، رأى رئيس بلدية بشرّي أنّ قسماً من السوريين الموجودين “فلّوا من تلقاء أنفسهم وما حدا تعرّض لهم”، مشيراً إلى بقاء “أكتر من 50 إلى 60% منهم ببشري”. ووصف بيان البلدية بـ”الواضح، قلنا إنه من غير المسموح بقاء أي سوري في بشري من دون أوراق شرعية أو غير مضمون من كفيل، وغير هيك نحن تحت القانون وبانتظار إجراءات الدولة”. وكشف أنّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ونواب بشري والبلدية طالبوا الجيش بـ”مسح بيوت السوريين وتفتيشها حتى نتأكّد من خلوّها من الأسلحة، كون البلدية لا تتمتع بصلاحيات للتفتيش”.
ضدّ استهداف الأبرياء
يقول جو هيّاف الفخري، ابن بشرّي، أنه عثر صباح الثلاثاء على فتى بشرّاوي بالقرب من بيته يبحث عن أيّ منزل تسكنه عائلة سورية. أنّب الفتى وطرده من الحي “معظم أهالي بشرّي ضد العقاب الجماعي للسوريين وليس أنا فقط”، يقول. كان جو من بين كثر نقلوا بسيّاراتهم السوريين خارج البلدة “نقلنا أنا واخوتي حوالي 80 شخص إلى إهدن وهذا واجبنا، كونه لا علاقة لهم بذنب ارتكبه شخص لا يمتّ لهم بصلة”، يقول، مصرّاً على حصر هذه الممارسات بـ “فتية طايشين وليس بالغين وراشدين من رجال البلدة”. يقول جو إنّ الفتية أنفسهم هم من قرعوا أجراس الكنائس وليس رجال من بشري “لأنه بشري ما بتدقّ الأجراس ع عُزّل وأبرياء”، متمنّياً أن تضبط القوى الأمنية والجيش الوضع بسرعة “لأنه في ممارسات صارت زعرنة بزعرنة، ونحن نتمسك بالقضاء للاقتصاص من القاتل وبتطبيق القانون أيضاً”. وبعدما يستنكر الجريمة يشدّد أنّ عائلة الضحيّة “من خيرة أوادم بشرّي”.
من جهته، يضع طوني سعيد طوق، خال الضحية، ردّة الفعل التي حصلت في إطار “فورة الدم” ليصفها بالـ”بسيطة واقتصرت ع ضربة بوكس”، معتبراً أنّ سقوط دماء في أيّ منطقة في العالم تستجرّ ردود فعل خصوصاً وأن شاباً بعمر 29 سنة قد قُتل غدراً وبخمس رصاصات “يعني في إصرار ع قتله”. وقال إنّه توجّه إثر وقوع الجريمة “إلى الشباب بالقول أن بقية السوريين أبرياء وأن غريمنا في الحبس”، ليؤكّد أنّه برغم ما حصل فقد كانت بشرّي “واعية وبقمّة الإنسانية، وأنا عندي سوريين ببيتي وحاميهم لأنّه لا علاقة لهم بما حصل”. وعند إخباره بقصص الاعتداءات التي رواها السوريون، رأى أنّ “الخسائر المادية لا تقارن بسقوط أرواح والحمدالله صار شوية ضرب ع الخفيف بس”.
(تصوير: بشير مصطفى)
روايات هاربين إلى طرابلس
من منزل صديق له في طرابلس، يشرح جمال العليوي لـ”المفكرة” الظروف الصعبة التي يعيشها حالياً السوريّون الذين طُردوا من بشرّي “جينا أربع عائلات، 22 نفر، لعند ناس سوريّين منعرفهم”. تسكن في المنزل ثلاث عائلات في الأصل “جينا وقعدنا فوقهم”، يقول العليوي “وين بدنا نروح؟” فيما يُسمع صوت الرعد والأمطار التي تهطل غزيرة من حوله “في ناس من سوريي بشري نايمين بالطرقات”. يؤكّد جمال أنّ هيّاف الفخري وأولاده هم من أخرجوهم من بشري “ما خلّوا حدا يئذينا، بس في ناس تعرّضت للضرب وحرقوا لها موتسيكلاتها، وفي عائلات بشرّاوية كتير هي طلّعت السوريين لي بيشتغلوا عندها أو الساكنين حدها”، مشيراً إلى أنّ أحداً منهم لم يتمكّن من الإتيان بأيّ شيء من أغراضه “طلعنا بالتياب لي علينا، وفي ناس ما لحقت تلبس بإجرها”.
يعيش أحمد الشاهر منذ ثلاثين عاماً في بشري “قبل الحرب كنت روح وإرجع، من 2011 جبت عيلتي وسكنّا كلّنا بالبلدة”. كان أحمد في منزله عندما وصل خبر الجريمة “وسمعنا عن فورة الدم والاعتداء ع سوريين فخفنا وهربنا”. يعزّ عليه اليوم، وبعدما أتى بشري وعمره 14 عاماً أن يغادرها بهذه الطريقة “بشتغل عند أبو بدر فخري وأولاده وما خلّوا حدا يقرّب صوبنا، وما بعرف عيش غير ببشرّي وبين أهلها”. يتحسّر أحمد على ما تعرّض له السوريون “المجرم وقبضوا عليه، والدولة بتعاقبه، شو ذنبنا نحن؟ شو عملنا؟”، أملاً أن تهدأ النفوس وأن “تعود المياه إلى مجاريها”. ينقل عن شبان سوريين طردوا من بشري صادفهم في طرابلس اليوم “ما حدا معه ألف ليرة، وفي مرضى وأطفال بلا أكل”.
ميزر الذياب سوريّ آخر تعرّض للضرب يوم وقوع الجريمة بعد عودته من جنائن التفاح التي يملكها أعمام الضحية الذين “صار لي بشتغل معهم 15 سنة وقاعد ببنايتهم”. بعد دخوله منزله بدقائق “فاتوا شبّان كسروا الباب وضربوني قدّام أولادي الثلاثة (3 سنوات وسنتين وسنة) وزوجتي وكسروا لي إيدي وجرحوني براسي”، يقول لـ”المفكرة”. بعد ذلك سحلوه إلى خارج البيت حيث أحرقوا له دراجته النارية أمام عينيه وذهبوا للبحث عن عائلة سورية أخرى، كما يقول. وبما أنّ الذين يعمل عندهم أحمد يسكنون في بيروت، جاء المختار طوني فهد فخري ونقله مع عائلته إلى إهدن “ولحقنا الشباب بدهم يعتدوا علينا ع الطريق وتواجهوا مع المختار”. ومن إهدن انتقل إلى كروم الزيتون في زغرتا حيث نام ليلته في العراء مع أطفاله قبل الانتقال صباح الثلاثاء إلى طرابلس حيث نقلوه إلى مستشفى الحنان لمعالجة إصاباته.
في العراء أمام المفوضية
في طرابلس، وأمام مكتب المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين، تجمّع عشرات السوريين الذين طردوا من بشري من دون أغراضهم الشخصية وأوراقهم الثبوتية، مطالبين الأمم المتحدة ممثلة بالمفوّضية تأمين المأوى لهم، وبعض المساعدات حيث ليس لديهم ألبسة أو أطعمة. وهناك قالت بعض النسوة إنّهن لم يجدن مرحاضاً يدخلنه منذ ثلاثة أيام. وقصد المراسل المتعاون مع “المفكرة” في طرابلس بشير مصطفى هذه العائلات وعاد ببعض المشاهدات والمقابلات.
بدا أفراد العائلات المعتصمة أمام المفوضية في حال من الصدمة النفسية وخصوصاً النساء والأطفال. لا يملك هؤلاء أيّ شيء سوى أغطية قليلة يدثرون بها قسماً من الصغار المرضى الذين يرتجفون من البرد، فيما تحدّث كثيرون عن عيشهم ذكريات التهجير للمرة الثانية بعد تهجيرهم الأوّل من سوريا.
عند المدخل، يتحلّق عدد كبير من الأطفال حول بائع “الكعكة الطرابلسية”، ليتشارك بعضهم كعكة واحدة “يتناتشونها” لسدّ رمقهم. في زوايا وأنحاء معرض رشيد كرامي الدولي افترشت عائلات الأرض بانتظار أن يخرج إليهم ممثل عن المفوضية يستجيب لطلباتهم بتأمين سقف يأويهم.
يتحدث أحد الهاربين عن مجموعتين من الشبان في بشري قامتا بالهجوم على بيوت السوريين الذين يقطن بعضهم في البلدة منذ 30 عاماً. يقول البعض إنّه ليس كلّ الشبّان المهاجمين فتية “في بيناتهم كبار كمان وبالغين”.
فيصل (48 عاماً) تعرّض وابنه نهاد لإصابات في الرّأس، “لم يقاومهم أيّ من السوريين بينما كانوا ينتقلون من بيت إلى آخر”. يقول إنّ أهل بشرّي عامة كانوا يرفضون الاعتداء على السوريين “للبلدة فضل علينا، ونحن أيضاً ساهمنا في نهضتها وحراستها وتنمية زراعتها وكروم التفاح فيها”.
لا يشعر المطرودون من بشري بالأمان جرّاء المبيت في العراء “عم يقولوا عم يفتشوا علينا في أكثر من منطقة”، ولذا يناشد محمد (أب لـ5 أطفال)، عبر “المفكرة”، المفوضية بالإسراع بتأمين مأوى لهم ووقف الاضطهاد الذي يتعرّضون له “ما عنّا شي، حتى حمّام نقضي حاجتنا”.
ينفض محمود (أب لـ3 أولاد) جيوبه ليبرهن أنّه لا يملك حتى بطاقة هوية “ما لحقنا نلبس بإجرينا فكيف بدنا نجيب أوراقنا؟”، ويؤكّد أنهم تركوا في بشري كل ما يملكونه وأجرة يومياتهم وبعضهم لديه حسابات في مكان عمله “هل فكرت المفوضية ومنظمات الأمم المتحدة كيف سننام تحت الأمطار؟ كيف سيقضي أطفالنا ونساؤنا حاجاتهم؟ من أين سنأكل؟ من المسؤول عنا في ظرف مماثل؟”
عائشة من جهتها ما زالت تحت وقع الصدمة “كتير خفنا ينقتلوا أولادنا ورجالنا، كانوا عم يصرّخوا ويهدّدوا ويطالبوا السوريين يفلّوا من بشري”. لم تعرف بعض العائلات إن خرج كل أفرادها سالمين حتى اليوم التالي “تشتت بعض العائلات وكلّ واحد هرب لحاله”.
ليس بعيداً عن عائشة، يحمل شحادة ابنته التي تعاني من إعاقة جسدية. يجول بها في الساحة ليلحق أشعة الشمس حيث أنّ الصغيرة تشعر كثيراً بالبرد، ويخشى أن يدعها أرضاً، بينما يدور بين اللاجئين الآخرين محذراً إيّاهم من الاختلاط “مو ناقصنا كورونا بدنا ننتبه كتير”.
مصادر في المفوضية أكدت لـ”المفكرة” أنّ فريق عملها “بدأ بوضع خطة عملية للاستجابة للحالات الطارئة، وأنّ هناك خطوات عملية يجب اتباعها”، مشددة على “وجوب اتصال اللاجئين على الخط الساخن لأنّ مركز المفوضية مقفل في طرابلس بوجه العموم في ظل الإغلاق العام وإجراءات كورونا”.
ومساء الخميس تواصلت “المفكرة” مع اللاجئ السوري فوّاز العليوي، وهو من العائلات التي قصدت مبنى المفوّضية في طرابلس. وأفاد أنّ منظّمة “ألمانية”، كما قال، أمّنت منازل مستأجرة لنحو خمس أو ست عائلات ممّن هُجّر أفرادها من بشرّي. وأرسل العليوي صورة لـ”المفكرة” ليؤكّد أنّ أحداً لم يؤثّث لهم المنزل وقد استعاروا حصيرة من عائلة سورية تسكن في الجوار.
***
المفوضية 270 عائلة سورية غادرت بشري حتى الأن
رداً على أسئلة المفكرة حول ما تفعله المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بشأن تداعيات حادثة بشري والأعمال الإنتقامية الجماعية التي استهدفت السكان السوريين المقيمين في البلدة، تبين أن عدد العائلات التي غادرت بشري حتى اليوم الجمعية 27 تشرين الثاني يبلغ نحو 270 عائلة “تتابع المفوضية أواضعهم عن كثب”. وقالت الناطقة الإعلامية باسم المفوضية ليزا أبو خالد للمفكرة “قد يكون العدد الفعلي مختلفاً إذ نواصل تحديث أرقامنا بينما نجري اتصالاتنا باللاجئين المتضررين”، مشيرة إلى أن العديد من عائلات اللاجئين “أُصيبوا بالرعب وعمدوا إلى مغادرة بلدة بشري، بعضهم حتى من دون أخذ مقتنياتهم”.
ودعت المفوضية السلطات المعنية إلى “تهدئة النفوس والثني عن الأعمال الانتقامية وعمليات الإخلاء”، معتبرة انه “من المهم أن تتولى السلطات اللبنانية المولجة إنفاذ القانون التعامل مع هذه الحادثة”.
وكشفت المفوضية أنها تناقشت “مع كل من وزارة الداخلية والبلديات وبلدية بشري وغيرها من الجهات ذات الصلة بشأن ضرورة تولّي الجهات المختصة حلّ مثل هذه القضايا، وليس الأفراد”، ورأت “إن الالتزام بالإجراءات القانونية الواجبة أمر ضروري، فالمسألة تتعلق بسيادة القانون في لبنان” لتؤكد “أن العقوبات الجماعية واتخاذ القرارات بشأن مجتمع بأكمله جرّاء حادثة لا تتصل سوى بفرد واحد أمر غير مقبول”.
وأكدت ابو خالد أنه “منذ بدء عمليات الإخلاء، استقبلت المفوضية عدداً كبيراً من اللاجئين النازحين من بشري في مركز الاستقبال التابع لها في طرابلس، حيث عمدت إلى نشر موظفين إضافيين من أجل تقديم المشورة إلى اللاجئين المتضررين”. وقد شجّع الموظفون، وفق أبو خالد “جميع اللاجئين الذين توجهوا إلى المفوضية على البحث عن مكان إقامة بديل مؤقت. كما سجّلوا معلومات الاتصال الخاصة بهم وعملوا مع الشركاء على تقييم أوضاعهم في الأمكنة التي استقروا فيها بصورة مؤقتة، ويحافظون على تواصل مستمر عبر الهاتف مع العائلات التي لم تتوجّه إلى مركزنا”.
أما اللاجئون الذين لم يكن لديهم محل إقامة بديل، “فقد تم نقلهم إلى مآوٍ مدعومة من قبل المفوضية وشركائها”، وفق أبو خالد التي أكدت أن فرق المفوضية تعمل على تقييم احتياجات الأسر المتضررة، ويشمل الدعم المقدم مساعدات غذائية ودعماً نقدياً عاجلاً ومواد إغاثة غير غذائية، فضلاً عن توفير الدعم النفسي والاجتماعي”.