لا يزال مشروع تنقيح النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب في انتظار عرضه على أنظار الجلسة العامّة، بعد مرور أكثر من خمسة أشهر من إنهاء اللجنة المختصّة عملها عليه. تأجيل كان في البداية بسبب العمل بالإجراءات الاستثنائية التي حتّمتها الوضعية الوبائية، والتي اقترنت بتفادي عرض النصوص التي تثير خلافات بين الكتل، لكنّه تواصل بعد رفعها. ورغم أن الممارسة البرلمانية أظهرت ولا تزال مواطن خلل ونقص عديدة في النصّ المنظم لعمل البرلمان، آخرها صمته على اجراءات النظر في مشاريع القوانين التي يقع ردّها من طرف رئيس الجمهورية، إلا أنّ هذه المراجعة الشاملة أهملت عددا منها، وظلّت رهينة الحسابات السياسية لمختلف الأطراف.
صحيح أن نسبة من التنقيحات ستحسّن على الأرجح عمل المجلس، وترفع بعض الإشكالات القائمة منذ سنوات، لكنّ عددا منها يترجم حسابات سياسية آنية، لتبقى السمة الأبرز لمشروع المراجعة ضعف طموحها نتيجة ضيق الرؤية الإصلاحية لدى مختلف الكتل.
تنقيح الفصول المنظمة للحصانة: خطوة هامّة لسدّ الثغرة الإجرائية
لم يكن ممكنا أن تتجاهل « لجنة النظام الداخلي والحصانة »، عند مراجعتها للنظام الداخلي، مسألة الحصانة البرلمانية، التي أضرت كثيرا بصورة النواب وساهمت في تأليب الرأي العام ضدهم. فرغم تعلّق شبهات وقضايا عديدة بعدد من النواب، لم يعرض أي طلب في رفع الحصانة على تصويت الجلسة العامّة طيلة العهدة النيابية الفارطة (2014-2019). والسبب الأساسي هو ثغرة قانونية – وإرادة سياسية لاستغلالها-، إذ كانت اللجنة تقبر كل الطلبات القضائية التي تصلها، لعدم تضمنّها إثباتا كتابيا لتمسّك النائب بحصانته. فقد كان معظم النواب المعنيون يتجاهلون طلبات القضاء، محتمين ضمنيا بالحصانة دون التمسّك بها كتابة. وفي انتظار تنقيح مجلة الاجراءات الجزائية الذي يتقدم ببطء على المستوى الحكومي، أخذت لجنة النظام الداخلي برأي المجلس الأعلى للقضاء الذي اقترح تنقيح فصول النظام الداخلي المنظمة للحصانة لسدّ هذه الثغرة. حسب هذا التنقيح، إذا ورد الطلب القضائي منقوصا مما يفيد تمسّك النائب بالحصانة، تعلم رئاسة المجلس في أجل 3 أيام النائب المعني، الذي يفتح له أجل 3 أيام أخرى ليتمسّك بالحصانة. فإذا لم يجب النائب، أو أجاب بعدم تمسّكه بالحصانة، يرجع الملف للجهة القضائية لتأخذ العدالة مجراها العادي، دون حصانة. فالمقصد من هذا التنقيح ليس فقط سدّ الثغرة القانونية، وإنما أيضا جعل الحصانة الاستثناء لا المبدأ. كما سمحت إعادة صياغة الفصول برفع الخلط الذي كان موجودا بين الحصانة الوظيفية للنواب، موضوع الفصل 68 من الدستور، والتي تنحصر في ما يرتبط بالمهام النيابية، والحصانة الجزائية موضوع الفصل 69، التي تستوجب تمسّك النائب بها، وللمجلس إمكانية رفعها.
تغييرات عديدة شملت هيكلة المجلس
شملت مراجعة النظام الداخلي هيكلة المجلس، من كتل ومكتب ولجان. فيما يخصّ الكتل النيابية، ذهبت اللجنة في اتجاه الرفع من عدد النواب اللازم لتكوين كتلة، من 7 إلى 10، وهو تنقيح معقول، خاصة في ظل تفتت المشهد البرلماني وكثرة الكتل، وهو تصحيح للخيار الذي تبناه البرلمان في بداية 2015، عند مناقشة النظام الداخلي، التي حكمتها الحسابات السياسية الظرفية، إذ أن اعتماد هذا العدد سمح آنذاك لحزب آفاق تونس، الذي كان في الائتلاف الحكومي آنذاك، بتكوين كتلة نيابية، ولنواب أقليين من أحزاب وقائمات مختلفة بتكوين الكتلة الديمقراطية الاجتماعية التي نافست الجبهة الشعبية على رئاسة لجنة المالية.
وسعيا لضمان حدّ أدنى من الاستقرار، ارتأت اللجنة أن تواصل الكتل التي ينزل عدد أعضائها عن 10 عملها حتى بداية الدورة البرلمانية الموالية، إلا إذا أصبحت تعدّ أقل من 7 أعضاء أين تنحلّ وجوبا. كما دفعت وضعية الكتلة الوطنية حاليا، التي لم تحظَ بعضوية في مكتب المجلس، إلى تصوّر حلّ يقضي بأن تعيّن الكتلة التي ليس لها أعضاء في مكتب المجلس ممثلا عنها يشارك في النقاش دون أن يحقّ له التصويت. كما شملت تغييرات أخرى خطط أعضاء مكتب المجلس، بدمج ملفي العلاقات الخارجية والتونسيين بالخارج لدى عضو واحد، وإضافة خطّة جديدة حول السلطة المحلية.
إلا أن التغيير الأبرز يخصّ اللجان، حيث استقرّ الرأي على النزول بعدد أعضائها من 22 إلى 15، وكذلك على دمج اللجان القارة (ذات الاختصاص التشريعي) باللجان الخاصة (التي تلعب دورا رقابيا)، نظرا لتداخل صلاحياتها ومهامها وما حصل في بعض الأحيان من تنافس بينها. فأصبحت هيكلة اللجان تقوم لا على التمييز بين لجان تشريعية وأخرى رقابية، وإنما بين لجان قارة تجمع بين هذين الدورين، ولجان وقتية ينتهي وجودها بمجرد انتهائها من مهمتها.
كما تضمّنت المراجعة إنشاء لجان جديدة، كلجنة المواد الجزائية والتجارية والحقوق العينية، التي سترث جزءا هاما من اختصاصات لجنة التشريع العام والفلاحة، وتقسيم كل من لجنة المالية والتخطيط والتنمية ولجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية إلى لجنتين.
تهديد لحقوق المعارضة
بغضّ النظر عن الأسباب التي قد تبرّر قسمة لجنتي المالية والتخطيط والتنمية، والحقوق والحريات والعلاقات الخارجية، ما يلفت الإنتباه هو أن خيار التقسيم استهدف لجنتين تمتلك المعارضة فيهما تمثيلا خاصّا. إذ أن الفصل 60 من الدستور التونسي يضمن للمعارضة منصبي رئيس/ة لجنة المالية ومقرر/ة اللجنة المكلفة بالعلاقات الخارجية. وفق التقسيم الجديد للجان، تفقد المعارضة أي تمثيل إضافي، عدا ما يتيحه التمثيل النسبي، في مكتب لجنة الحقوق والحريات، وتفقد لجنة المالية التي تترأسها جزءا ليس هيّنا من اختصاصاتها، يشمل كل ما يتعلق بالمخططات التنموية والمؤسسات والمنشآت العمومية والشراكة والاستثمار والإنتاج والمبادلات التجارية. ومن المعلوم أن رئاسة لجنة المالية لعبت، في العهدة النيابية الفارطة، دورا حاسما في تعطيل النظر في بعض المشاريع التي كانت المعارضة تعتبرها خطيرة، كمشروع قانون الطوارئ الاقتصادية، حتى صار مكتب المجلس يتفادى إرسال مشاريع قوانين هي منطقيا من اختصاصها، كمشروع قانون تحسين مناخ الاستثمار.
في نفس السياق، تقترح لجنة النظام الداخلي تنقيحا إضافيا، يجعل ضبط جدول أعمال كلّ لجنة من اختصاص مكتبها، بالتوافق أو التصويت، عوض أن يقرره رئيسها بالتشاور مع المكتب. قد يبرّر هذا التغيير باستغلال بعض رؤساء اللجان مكانهم لخدمة أجندة حزبية وحتى شخصية، لكنه سيؤدي إلى سيطرة الأغلبية البرلمانية على أجندات اللجان البرلمانية، حتى تلك التي يترأسها نواب من الكتل الأقلية، بما أنّ التمثيل النسبي يعطيها أكثرية في مكاتب معظم اللجان. بهذا الشكل، تفقد رئاسة اللجان إحدى أهم صلاحياتها، وتفقد الأقلية إحدى أهم وسائل التأثير في العمل البرلماني، التشريعي والرقابي.
كما هدفت تنقيحات أخرى إلى التضييق من مجال بعض الآليات التي، رغم أنها مفتوحة للجميع، فإنها تكتسي أهمية أكبر لنواب المعارضة. من جهة، دفَعَ اطناب كتلة الدستوري الحر في تقديم مشاريع لوائح بهدف الفرز السياسي وتسجيل النقاط، إلى إجماع بقية الكتل على ضرورة ترشيد هذه الآلية. لكن الحلّ الذي اتفقوا عليه لا يبدو الأمثل. فاشتراط إمضاء 73 نائبا على مشروع اللائحة لتمر إلى الجلسة العامة يحدّ كثيرا من قدرة الكتل الأقلية على التأثير على جدول الأعمال، وهو المقصد الأساسي من هذه الآلية. كان الأجدر مثلا تحديد عدد اللوائح التي يمكن لكلّ كتلة المبادرة بها في كل دورة برلمانية، ولم لا تخصيص أيّام للمعارضة، بصفة دورية، يحق لها أن تطرح خلالها ما تريد من المواضيع. لكن اللجنة فضّلت الحلّ الذي يمنع كتلة الدستوري الحرّ من التقدم بأي مشروع لائحة إلاّ إذا انضمت لها كتل أخرى.
من جهة أخرى، ارتأت اللجنة وضع حدّ أقصى للأسئلة الكتابية التي يمكن لكل نائب طرحها، يتمثل في 50 سؤالا في الدورة البرلمانية الواحدة، وكذلك اشتراط عدم تضمّن الأسئلة معطيات شخصية، وإعطاء مكتب المجلس صلاحية تقدير مدى احترام هذه الشروط. هذا التنقيح يستهدف بوضوح النائب ياسين عياري الذي احتكر لوحده 60% من الأسئلة الكتابية خلال الدورة البرلمانية الأولى، وجعل منها وسيلة لاستقطاب المناصرين، حيث يستقبل فريقه تشكيات المواطنين ويحولها إلى أسئلة كتابية. وبغضّ النظر عن مدى صلاحية المعيار الكمي لتقييم المجهود الرقابي للنواب، لا شيء يبرّر تحديد عدد أقصى للأسئلة الكتابية التي يمكن للنائب طرحها. فالأسئلة الكتابية تعدّ من أهم الآليات الرقابية وأكثرها رواجا في الديمقراطيات، حيث يكون عددها بالآلاف وأحيانا بعشرات الآلاف، دون أن يبرّر ذلك تقاعس السلطة التنفيذية عن الإجابة.
نجاعة الآليات الرقابيّة: تنقيحات دون المأمول
في المقابل، أضافت اللجنة أجل 15 يوما لأعضاء الحكومة للإجابة عن الأسئلة الكتابيّة، على أن تكون الإجابة، كما السؤال، في صيغة الكترونية. لكنّها حافظت على خيار عدم نشر الأسئلة التي لا يجيب عنها الوزراء، وهو ما يشكّل لا فقط تنكّرا لمبدأ الشفافية، وإنما أيضا تنازلا عن وسيلة ضغط مهمّة على الوزراء كي يتجاوبوا مع الدور الرقابي للمجلس. إذ أن احصائيات البرلمان نفسه تشير إلى أن أكثر من نصف الأسئلة الكتابية التي قدّمها النواب خلال الدورة البرلمانية الأولى بقيت دون إجابة!
أما بالنسبة للأسئلة الشفاهية، فقد أقرت اللجنة جملة من التنقيحات، أهمّها ألاّ تتجاوز مدّة طرح السؤال ولا مدّة إجابة الوزير 7 دقائق، وأن يكون تعقيب النائب في حدود 3 دقائق. ورغم أن هذه المدّة تعتبر طويلة نسبيا بالمقارنة بما نشاهده في البرلمانات الأخرى، فإن تحديدها يبقى خطوة إيجابية بالمقارنة مع ما جرت عليه العادة، حيث كان السؤال يستغرق أحيانا، مع الجواب والتعقيب، زهاء الساعة، مما يضفي على جلسات الأسئلة الشفاهية طابعا مملاّ. فعلى عكس معظم الديمقراطيات البرلمانية التي تكون فيها جلسات الأسئلة الشفاهية موعدا سياسيا هاما، في تونس يكاد يقتصر الاهتمام بهذا النوع من الجلسات على التنديد بتغيّب الغالبية الساحقة للنواب. هذا الإشكال هو الذي دفع اللجنة إلى إقرار عقوبة للنائب الذي يكون لديه سؤاله شفاهي مبرمج، ويتغيّب عن الجلسة دون أن يحضر زميل ينوبه، تتمثّل في حرمانه من طرح أسئلة شفاهية طيلة الدورة البرلمانية.
إلا أنّ اللجنة أضافت تنقيحا آخر، يرفع الأجل الذي يفصل بين إيداع الأسئلة الشفاهية وعقد الجلسة من أسبوعين إلى شهر. هذا الأجل من شأنه أن يُفقد معظم الأسئلة قيمتها وراهنيتها، خاصة في غياب آلية أسئلة شفاهية مرتبطة بالمستجدات، كما هو موجود في برلمانات أخرى، حيث لا يتجاوز الأجل بين إيداع الأسئلة وعقد الجلسة بضعة أيام، وأحيانا ساعات، بل وأحيانا دون أن يكون النواب ملزمين بإعلام الوزراء مسبقا بأسئلتهم.
كما حدّدت مراجعة النظام الداخلي يوم الاثنين كموعد أسبوعي قارّ للأسئلة الشفاهية، والسبت الأول من كلّ شهر موعدا قارّا لجلسات الحوار مع الحكومة، وهو ما قد يقطع، في صورة تطبيقه، مع ضعف دورية جلسات الحوار في المدة البرلمانية الفارطة. لكنها حافظت على التمشي القاضي بأن يجيب أعضاء الحكومة على كلّ الأسئلة دفعة واحدة، لا على كل سؤال على حدة، وهو ما يسمح لرئيس الحكومة والوزراء بانتقاء الأسئلة التي يفضلون الإجابة عليها. وحتى دعوة أعضاء الحكومة الذين لا يجيبون على تساؤلات النواب خلال جلسة الحوار، إلى أن يتقدموا بإجابات كتابية تضمّن في مداولات الجلسة العامّة ليست إلزامية، بل هي فرصة تمنح لأعضاء الحكومة، وبمبادرة منهم. كان الأجدر التنصيص على إجراء يسمح للنواب الذين لم تقع الإجابة على أسئلتهم بتطويرها إلى « استجواب » قد يؤدي هو الآخر إلى المبادرة بسحب الثقة، كما هو الشأن في بعض البرلمانات.
أخيرا، ولتجاوز الإشكال الذي أعاق عمل معظم لجان التحقيق خلال المدة البرلمانية الفارطة، وهو عدم اتفاق الكتل على طريقة توزيع المسؤوليات فيها، تقترح اللجنة أن تكون رئاسة لجان التحقيق المحدثة بتصويت الجلسة العامّة، بالتداول بين مختلف الكتل، من الأكبر إلى الأصغر. أمّا لجان التحقيق التي يحقّ للمعارضة تكوينها في كل سنة دون المرور عبر الجلسة العامّة، فقد نصّت المراجعة على أن تكون لا فقط رئاستها، وإنما أيضا أغلبية أعضائها من المعارضة، على أن توزع باقي المسؤوليات داخل مكتبها حسب التمثيل النسبي. لكن هذا لا يعني بالضرورة حماية أفضل لحقوق المعارضة، حيث أن مكتب لجنة التحقيق، كما في باقي اللجان، هو الذي يقرّر جدول أعمالها، وهو ما قد يمكّن الأغلبية الحاكمة من تعطيل أعمالها.
الدور التشريعي: لا رؤية للتغيير، ولا طموح للتحسين
رغم أن تقرير اللجنة يضع « الرفع من الأداء التشريعي للبرلمان » على رأس أهداف مراجعة النظام الداخلي، لم تتمخض النقاشات عن أي تغيير جذري في هذا المجال. لا شك أن بعض التنقيحات سيكون لها انعكاسات إيجابية على نسق العمل التشريعي. من ذلك توضيح طريقة احتساب نتائج التصويت داخل اللجان، بإقصاء أصوات المحتفظين والممتنعين عند احتساب الأغلبية، وكذلك ضبط إجراءات للنظر في مشاريع القوانين التي يرجعها القضاء الدستوري للبرلمان. أمّا بخصوص الجلسة العامّة، فقد تمّ اعتماد مقترحات إيجابية، من بينها ترشيد نقاط النظام التي كثيرا ما تتسبب في ضياع الكثير من الوقت، وذلك بتقليص مدتها من دقيقتين إلى دقيقة واحدة، ومنع النواب من أخذ نقاط نظام أكثر من مرّة واحدة خلال نفس الجلسة. كذلك الأمر بالنسبة للنقاش العام، حيث تقرر حرمان النواب الذين لا يسجلون حضورهم في بداية الجلسة من الحق في التدخّل.
كما تقترح المراجعة تنقيحات أخرى لمعالجة ظاهرة غياب النواب، التي أثرت سلبا على الأداء التشريعي وعلى صورة المجلس عموما، من بينها اشتراط تسجيل الحضور في بداية الجلسة، أو المشاركة في ثلثي عمليات التصويت لاعتبار النائب حاضرا، وضبط قائمة بالأعذار الشرعية التي تجيز التغيّب، وتسهيل شروط اتخاذ العقوبات المالية ضد أصحاب الغيابات المتكررة.
فيما عدا ذلك، لا يبدو أن اللجنة فكّرت في ما يشوب العملية التشريعية من إشكالات، لا داخل اللجان ولا في الجلسة العامّة. بل أن مقترح دمج اللجان التشريعية والرقابية قد يكون له تأثير سلبي على الدور التشريعي صلب اللجان، التي قد تحبّذ الجلسات الرقابية، لما تحظى به عادة من اهتمام إعلامي، ولعلّ تعطّل النظر في مشروع قانون المسؤولية الطبية لأشهر داخل لجنة الصحّة، بسبب انشغالها بمتابعة سياسة الحكومة إزاء تفشي وباء كورونا دليل على ذلك.
مثلا، لم تفكّر اللجنة في طريقة مناقشة مشاريع قوانين الموافقة على المراسيم، وما إذا كانت تناقش فصلا فصلا وتقبل التعديل، أم كالمعاهدات الدولية يكتفي البرلمان بقبولها أو رفضها. هذا السؤال عطّل نظر اللجان في عشرات المراسيم التي اتخذتها حكومة الفخفاخ إبان الموجة الوبائية الأولى لأشهر، لتتداول فيه ندوة الرؤساء، عوض أن يضبط في النظام الداخلي. كذلك الأمر بخصوص مشاريع القوانين التي يقع ردّها من قبل رئيس الجمهوريّة لقراءة ثانية.
كذلك، لم يفكّر المجلس في وضع آلية لتقييم أثر التشريعات التي أنتجها ومتابعة تنفيذها، أو لدراسات استباقية حول أثر النصوص المزمع صياغتها. هياكل من هذا النوع توجد في عدد من البرلمانات وتلعب دورا هامّا في العملية التشريعية إذ تسمح بتجنّب إعادة نفس الأخطاء وبالتفطّن لمواطن النقص في التشريع وتداركها، وبالحرص على أن لا تبقى القوانين المصادق عليها حبرا على ورق. ولا نفشي سرّا حين نؤكّد على وجود تعطّل كبير في تطبيق القوانين المصادق عليها في تونس، يستغرق أحيانا سنوات، بل أن مداخلات النواب كثيرا ما تتطرق له، لكنّ ذلك لم يكن كافيا ليبادر البرلمان بالتفكير في حلّ مؤسساتي، وحتى عندما ذهب في خيار دمج اللجان التشريعية والرقابية، لم ينصّ على مسألة متابعة تطبيق التشريعات ضمن صلاحياتها كما هو الشأن في الجمعية الوطنية الفرنسية مثلا.
قد يعكس هذا السهو ثقافة سياسية ومجتمعية لا تعبأ بأهمية التقييم، ولكنه يترجم كذلك عدم وعي البرلمان بضرورة تطوير قدراته. فقد كان بالإمكان مثلا التفكير في إنشاء « مكتب الميزانية »، لإعداد دراسات اقتصادية وجبائية كي لا يبقى البرلمان رهينة المعطيات المقدمّة من وزارة المالية عند نقاش قوانين المالية.
وباستثناء التنصيص على حقّ الكتل النيابية والنواب في مساعدين برلمانيين يتم توظيفهم من طرف البرلمان بمقتضى عقود إسداء خدمات، غاب هاجس تطوير قدرات البرلمان عن مشروع مراجعة النظام الداخلي. فخلافا للانطباع السائد، لا يعكس تدنّي مستوى مداخلات النواب فقط محدودية الثقافة السياسية والاقتصادية لدى معظمهم، وافتقار معظم الأحزاب لرؤى اقتصادية وبرامج قابلة للتطبيق، وإنما أيضا تخاذل البرلمان عن لعب دوره في تطوير معارف النواب، وضعف الوظيفة الاستشارية داخله، إذ تكاد تقتصر على المعرفة التقنية القانونية.
كما يظهر ضيق الرؤية الاصلاحية وضعف طموح البرلمان في عدم التفكير في صياغة إطار لمراقبة العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية، رغم علم الجميع أن السياسية الاقتصادية للدولة خاضعة بشكل كبير للالتزامات التي تقطعها لصندوق النقد الدولي. فمن غير الطبيعي أن لا يكون هناك أي دور للسلطة التشريعية عند التفاوض على هذه الالتزامات، في حين أن برلمانات أخرى في دول نامية احتاجت لتدخّل صندوق النقد الدولي، كغانا ومالي ومولدوفا والسلفادور، لم تكن بنفس سلبية البرلمان التونسي وأوجدت طريقة للعب دور في المفاوضات.
الحسابات السياسية تسيطر على النقاش
ضعف الرؤية الاصلاحية لدى مختلف الكتل، قابله حضور قويّ للحسابات السياسية الآنية. فبالإضافة إلى المسائل التي سبق ذكرها، كتنقيح الفصل المنظم للوائح البرلمانية بشكل يحرم كتلة الدستوري الحرّ من هذا السلاح، واستهداف النائب ياسين عياري بتنقيح الفصل المنظم للأسئلة الكتابية، حكمت الحسابات السياسية مقترحات أخرى. مثلا، ارتأت اللجنة منع بعض ممارسات نواب كتلة الحزب الدستوري الحرّ، كرفع لافتات أو رايات أو صور تحت قبّة البرلمان، واعتلاء منصة الرئاسة أثناء سير الجلسة العامة، الذي حدّدت له عقوبة المنع من أخذ الكلمة لثلاث جلسات متتالية. كتلة الدستوري الحرّ قدّمت بدورها مقترحات تسمح لكل رئيس كتلة بطلب مسائلة رئيس البرلمان في حال خرقه للنظام الداخلي، وحتى تقديم مطلب سحب ثقة منه، لكنّها رفضت في التصويت.
إلا أنّ أهمّ الرهانات السياسية تبقى قضيّة « الانتجاع البرلماني »، أو ما يصطلح عليه « بالسياحة البرلمانية ». فقد مرّر الائتلاف البرلماني تنقيحا يفقد بموجبه كل نائب يستقيل من الحزب أو الائتلاف الذي ترشّح باسمه، عضويته في البرلمان. أثار هذا التنقيح جدلا، ليس فقط لتعارضه مع الدستور والقانون الانتخابي، وإنما أيضا لخضوعه لحسابات سياسية واضحة، حيث اقترن ببداية موجة الاستقالات في كتلة قلب تونس، التي أفقدت الائتلاف البرلماني سيطرته على الأغلبية المطلقة داخل البرلمان.
كما استأثر مقترح التجديد السنوي لرئاسة البرلمان بحيز هام من النقاش والصراع. جاء هذا المقترح من الكتلة الديمقراطية، في سياق صراعها مع الغنوشي، ولقي معارضة قوية من كتلة حركة النهضة، رغم أنها كانت تساند نفس المقترح زمن رئاسة محمد الناصر للبرلمان. حظي المقترح بمصادقة اللجنة في مرة أولى، قبل أن يتدارك ممثلو الائتلاف البرلماني الأمر بإعادة التصويت على الفصل بعد أشهر من التراجع عنه، رغم احتجاج ممثليْ الكتلة الديمقراطية داخل اللجنة.
ذات الرهان حضر عند نقاش الفصل الذي يضبط اجراءات سحب الثقة من رئيس البرلمان، حيث اقترحت الكتلة الديمقراطية النزول بأجل عقد الجلسة العامة للتصويت على سحب الثقة، من 3 أسابيع إلى أسبوع واحد من إيداع اللائحة، واختلف النواب كذلك حول امكانية سحب الامضاءات على اللائحة، قبل أن يتوافق الحاضرون على أجل 15 يوما للتصويت، وأجل 72 ساعة لنظر مكتب المجلس فيها، وعلى امكانية سحب الامضاءات من اللائحة بعد إيداعها وقبل انعقاد مكتب المجلس، على أن يكون الطلب معلّلا.
في المحصّلة، ورغم كثرة التنقيحات المقترحة، والتي لم يتّسع المجال للتعرّض لجميعها، فإن المراجعة تكاد تقتصر على حلّ بعض الإشكاليات الظاهرة، وخاصّة منها ما طرأ في الأشهر الأخيرة، دون رؤية طموحة للنهوض بأدوار المجلس المختلفة. وإذ غاب النقاش العميق في اللجنة، فمن الصعب أن يحضر في الجلسة العامّة، حيث من المتوقع أن يتركّز النقاش، كالعادة، على الرهانات السياسية قصيرة المدى، وتشتعل الصراعات من جديد، في برلمان معطّل يكاد يقتصر دوره، منذ أشهر، على المصادقة على مزيد من القروض والاتفاقات الماليّة، وتوفير فضاء للفاعلين السياسيين كي يتصارعوا ويسجلوا النقاط بعضهم ضد بعضهم الآخر.