الانتخابات الرئاسية في تونس: فاعِليّة “المؤامرة” كأدَاة حُكم وتحشيد


2024-10-12    |   

الانتخابات الرئاسية في تونس: فاعِليّة “المؤامرة” كأدَاة حُكم وتحشيد
تصوير نور الدين بن أحمد

أعلنَت هيئة الانتخابات في تونس فوز الرئيس الحالي قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية التي أُجرِيَت الأحد 6 أكتوبر، بنسبة 90.69 بالمائة، مقابل حصول المُرشّحَين الآخرين على نِسَب لم تتجَاوز الـ8 بالمائة؛ 7.35 بالمائة للمرشح العياشي زَمّال و1.79 بالمائة للمرشح زهير المغزاوي. وقد بلغَت نسبة الإقبال على التصويت 28.8 بالمائة (2808548 ناخب صوّتوا من أصل 9753217 مرسمين في السجل الانتخابي). وحسب آخر معطيات نشرتها هيئة الانتخابات لم يتقدّم المرشّحان الآخران بطعون في النتائج. وقد سَبقَ لنفس الهيئة أن هدَّدَت بالملاحقة الجزائية ضد كل من يتهمها “تصريحا أو تلميحا” بتزوير الانتخابات وتَدليس النتائج.  

عمومًا لم يتحوّل الطّعن في النتائج إلى معركة قانونية وسياسية، على غرار معركة الترشّحات، ويَلُوح أن جلّ المعارضات قَبِلَت بالنتائج أو توقَّعتها منذ البداية. لذلك يبدُو أنّ مرحَلة ما بعد 06 أكتوبر بدأَت فعليا، وهي استئناف لمسار سياسي بدأ في التشكل منذ الانقلاب الدستوري في 25 جويلية 2021، وهذا المسار يطرح براديغم انتخابيا جديدا مخالفا في أساسه السياسي والقانوني لبراديغم ما بعد الثورة، رغم أن الرئيس تَرشَّحَ نظريا لهذه الانتخابات وفقا لدستور 2014 وليس دستور 2022. ويَعرِض أيضا تصورا جديدا للفعل السياسي ومنهجية أخرى في إدارة التنازع داخل الحياة العامة. كما أن هذا “المسار” يَستثمر في كل المعطيات الاجتماعية والاقتصادية، ليُعزّز فاعلية خطابه السياسي ويَربِطه بدينامية اجتماعية جاهزة للتحشيد الانتخابي. هذا “المسار” الذي يسعى أن يكون نظام سيطرة مستقر -دون أن ينجح نهائيا في ذلك- يَنشد الهيمنة الثقافية بمعناها الغرامشي، وبالتوازي معها يَستخدم كل ما تُوفّره له الدولة الجهازية القديمة من أدوات عقاب وضبط ورقابة.   

المؤامرة: برنامج وحيد وفاعل

منذ استحوَاذِه على كل السلطات في 25 جويلية 2021، اتّبَع الرئيس سعيد خطابا تنازعيا- عدائيا إزاء كل الطيف السياسي والمدني، رغم أنه حَظيَ بمباركة ضمنية من عديد الأحزاب والجمعيات والنقابات التي تحوَّلَت بسرعة إلى مواقع معارضة واضحة ضده، بعد أن تَدرَّجَ في إقصائها من المشهد وبات يُخاطِبها بلغة قائمة في معظمها على التخوين والشيطنة. وطيلة الثلاث سنوات الفارطة، شكّلَ مفهوم “المؤامرة” إطارا مرجعيّا فَسّرَ من خلالِه الرئيس كل الظواهر والأزمات والصراعات. 

لم يَستعرض الرئيس برنامجًا انتخابيا بأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة، ولم يُشارك في برامج حوارية أو مناظرات، ولم يُسمَح في الإعلام بتواجد أصوات وبرامج تُقيّم العهدة الرئاسية السابقة. وجرى تحويل الانتخابات إلى “ملحمة” يَخرج منها الرئيس منتصرا على “أعدائه” الذي يتآمرون عليه وعلى الوطن. واجَهَ النظام الحالي على الأقل خلال الثلاث سنوات الأخيرة أزمات اقتصادية واجتماعية مركّبة أهمها انقطاع المياه والهجرة غير النظامية وانقطاع المواد الأساسيّة. وقد كان منطق المؤامرة أداة تحليليّة، وحيدة ومُثلَى، فسّرَ من خلالها الرئيس هذه الأزمات. اعتُبِرَت الهجرة غير النظامية مؤامرة. وبخصوصها، قالت رئاسة الجمهورية إن “هناك ترتيبا إجراميا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس”. وفي السياق نفسه اعتُبِرَت أزمة انقطاع المياه أنها “مفتعَلَة” وتَندرج ضمن تآمر المسؤولين السابقين على السلطة الحالية. وأَرجَعَ النظام أزمة انقطاع المواد الأساسية إلى شبكات فساد تعمَل في الخفاء، واتّهمت رئاسة الجمهورية بشكل واضح بعض المعارضين بالوقوف وراء أزمة الترفيع في الأسعار وانقطاع المواد الأساسية. وبنفس المنهج، عُولِجَت مسألة المديونيّة التي سُوّقَ لها بوصفها إرث “عشرية الخراب” وأن الرئيس الحالي قَامَ بتسديد الديون القديمة، في حين أن الاقتراض ما زال أحد الموارد الكبرى لميزانية الدولة، ولا تُوجَد بدائل لتعويضه رغم شعار “التعويل على الذات” الذي تُناقِضه كل الوقائع المالية والاقتصادية. 

وفي ظلّ انحسَار فضاءات التّداول العام وضُعف الديناميات المدنيّة والسياسيّة، بفعل الضربات التي تلقّتهَا الديمقراطية من النظام الحالي وبسبب الهشاشة المُسبَقَة لكل تلك الديناميات، أصبحت “المؤامرة” العَرض السياسي المهيمن في الساحة، والأكثر وقعا وتداولا، وتحوّلت شيئا فشيئا إلى أداة حكم وتحشيد. وأصبحت ملاذا تفسيريا لفئات اجتماعية تُعَاني من هشَاشَات اجتماعية واقتصادية وقيمية مُركّبَة، بخاصة الطبقات الوسطى المَدينية التي باتت تعاني أوضاعا مادية صعبة، وسكان المناطق الداخلية الذين يعيشون “يأسًا استراتيجيا” من المستقبل بفعل تهافت كل وعود التنمية والتغيير.                   

ما بعد 6 أكتوبر: النظام الجديد ومأزق التَشَكّل 

وُلِد النظام الحالي من براديغم انتخابي وسياسي مُختلف عن براديغم مرحلة الانتقال الديمقراطي. وتتجسّد أهم مواصفاته السياسية في إلغاء التعددية والتداول والإجهاز على الوسائط المواطَنية بين الدولة والمجتمع، وتأسيس نظام سياسي يتحوّل فيه الحاكم- الفرد إلى مرجَعية أساسية على حساب مؤسّسات النظام السياسي الأخرى وعلى حساب كلّ مرجعيات المواطَنَة والديمقراطيّة. أما الانتخابات فلا يُنظَر إليها إلى حد الآن كآلية للتداول السّلمي على السلطة وإنما كمحطة ضرورية ضمن معركة “التحرير الوطني” التي يُطلقها الرئيس، وتأتي من أجل إضفاء الشرعية على تلك المعركة “المقدسة”، وهذا تقريبا ما أشار إليه بوضوح البيان الانتخابي للرئيس سعيد. 

ولكن هذه المواصفات -على قوتها وتأثيرها في قلب ميزان القوى السياسي لصالح الرئيس ونظامه- لا يجب أن تَحجب مأزق البناء الداخليّ الذي يعيشه النظام الحالي: لا يملك النظام مؤسسات ولائية قوية متغلغة داخل المجتمع، ومنتَظِمة بشكل مُستقرّ على قاعدة شبكة من الروابط السياسية والاجتماعية المنسجمة، على غرار تجربة حزب الدستور الحاكم سابقا، الذي شَكَّلَ الدولة طيلة عقود وفقا لتركيبته الولائية وأفرز نموذج الدولة- الحزب الواحد، مضاف إلى هذا دور العائلة الحاكمة الذي اتّخذ أشكالا أكثر تغلغلا وفضاضة في زمن نظام بن علي. وعلى هذا الأساس، يُراهن النظام الحالي على مؤسسات ولائية جديدة من خارج نموذج الحزب التقليدي، وتمثّلها إلى حد الآن المجالس المحلية والشركات الأهلية. وهاتان المؤسّستان في ظل ارتباطهما بتصوّر طوباوي صعب الإنجاز في الواقع، سيكون استمرارهما في لعب دور الولاء مربوطًا بحجم الهبات المالية التي سيُغدقها عليهما النظام. أما على مستوى الدولة، فإن النظام لم يُفلح إلى حد الآن في خلق طبقة تكنوقراطية منضبطة ومُستقرة ولها وجود بنيوي مُرتبِط بالنظام، وإنما يَلُوح إلى حد الآن التخويف والتهديد بالعقاب آلية وحيدة في التعاطي مع بيروقراطية الدولة. وتزامنا مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة بَرَزَ دور العائلة، مُمَثّلاً أساسا في نوفل سعيد شقيق الرئيس، الذي قدّمَته وسائل الإعلام بوصفه مديرا للحملة الانتخابية للرئيس. ومن الطبيعي أن يَبرُز دور العائلة في ظلّ عدم انتظام السلطة الحالية داخل مؤسسة حزبية أو سياسية واضحة، واستمرارها في المراهنة على من يُطلق عليهم الرئيس “المتطوعون”، هذا بالإضافة إلى التراجع الكلّي تقريبًا لتأثير من يطلقون على أنفسهم “أبناء المشروع” وفقدان مواقِعهم داخل الوزارات وعلى رأس الولايات. وطالما أن “عائلة الرئيس” لا يمكن اعتبارها مؤسسة سياسية بأي حال من الأحوال، فإن دورها المستقبلي مرهون بمدى مساحات التملّك التي ستفتكّها داخل مراكز السلطة والثروة.                             

المعارضات لا تقلّ أزمة عن النظام

إن المآزق الهيكلية للمعارضات هي جزءً أساسي في إنتاج هذه المرحلة. وفي الحقيقة بعض المعارضات الجديدة كانت قبل 25 جويلية 2021 جزءًا من الحكم أو مُمثلة في البرلمان السابق، أساسا حركة النهضة والحزب الدستوريّ الحرّ والتيار الديمقراطي. ومن الواضح أن النظام الحالي استخدَم أجهزة الدولة العقابية في إضعاف معارضيه. ولكن حصيلة مواجهة هذا الإضعاف تُعتبر إلى حد الآن ضعيفة أو منعدمة، ولا يمكن إرجاعها فقط إلى التهديد الخارجي الذي يُمثله النظام، وإنما هناك أزمة داخلية أشد تعقيدًا: ضعف البدائل، تراجع القدرات التعبوية والاستقطابية، الانفصال التدريجي عن واقع الناس، الرهان على حلّ المآزق بتوافقات فوقية، تآكل السرديات والمعاني السياسية، شخصَنة العمل الحزبي، ضعف التجديد الفكري والسياسي، غياب الديمقراطية الداخلية…وتجدر الإشارة هنا إلى أن جزء من المعارضات “الديمقراطية” و”التقدمية” دشّن حالة من العطالة السياسية بتعلّة الحفاظ على نَقَاء عدم التقاطع مع حركة النهضة الإسلامية، وهو ما وفَّرَ لها ذريعة لإخلاء الساحة والسكوت عن انتهاكات النظام للحق والحرية، وعموما تقتات هذه المعارضات من إرث سياسي “تصفوي” قديم، لا ينظر للسياسة بوصفها حالة تنازع فكري وسياسي مستمر من داخل فضاءات الحرية وليس من خارجها، وليس باللجوء للسجون والانتهاكات والعقاب الجماعي، كما لا أنها لا تملك إلى حد الآن مشروعا سياسيا واجتماعيا مؤسّسًا على مضامين قوية، تبني على قاعدته تمايزها عن الإسلاميين وغيرهم.   

عموما لا يَسمَح المقام بتشخيص واقع المعارضات -لأنه يتطلّب جُهدا جماعيا وفرديا من داخل المعارضات ومن خارجها- ولكن الأزمة مبثوثة في أكثر من بعد من الأبعاد التي سبق ذكرها. وما يبدو مُربِكا في واقع المعارضات التونسية اليوم هو فراغ الرؤية بخصوص ما بعد 6 أكتوبر، فهي لا تَملِك إلى حدّ الآن تصورات لإعادة البناء والتقييم، أو خططًا للمواجهة أو المهادنة على حدّ السواء، وإنّما تَقتَات على الهواجس اليومية والمعطيات المُضلِّلة -من داخلها ومن خارجها- ووعود التسوية التي تُطلِقها السلطة من هنا وهناك. ويَبدُو النظام إلى حد الآن ماسِكًا بكل قوة بزمام الحياة السياسية، ويُناور بفكرة “التهدئة” كمنتَصِر بعد الانتخابات، وهذا المعطى المُستشري -بشكل غير رسمي- يعدّ عنصرا مستجدّا في لغة النظام الذي جَنحَ طيلة السنوات الفارطة إلى لغة “التطهير”، وقد يكون استراتيجيا جديدة لتحييد جزء من المعارضة وإدخالها في نفق الانتظارية والارتباك، أو قد يكون مُوجَّهًا لطبقات نافذة بعينِها مَعنيّة بخطاب التسوية والتهدئة بعد الانتصار الانتخابي، وبخاصة طبقة المال والأعمال.            

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني