من الصفحة الرسمية للرئاسة التونسية على فيسبوك.
“9 بالمائة أو 12 بالمائة من الذين شاركوا، أفضل من 99 بالمائة [الذين] كانوا يشاركون [في الانتخابات]، وكانت تتهاطل برقيات التهاني من الخارج، وتعلم تلك العواصم أنّ تلك الانتخابات مزوّرة”. هكذا علّق الرئيس قيس سعيّد، خلال خطاب هستيري بحضور بعض أعضاء الحكومة والقيادات الأمنية والعسكريّة طغت عليه نبرة التهديد والوعيد، على نتيجة المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية. لا أحد يعلم ما إذا كان سعيّد يقصد انتخابات بن علي، أو الاستحقاقات الانتخابيّة الديمقراطيّة بعد الثورة، التي أوصلته آخر واحدة فيها إلى الرئاسة، ولكن في جميع الحالات، “حجّته” لم تكشف شيئا سوى انعدام الحجّة لديه وصعوبة اعترافه بالخطأ والتراجع.
فعلى خلاف نتائج الاستفتاء التي أبهجته واحتفل بها من قلب شارع الثورة، على الرغم من مشاركة 30% فقط من الناخبين، علّق سعيّد على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة من خلال تدوينة على صفحة رئاسة الجمهوريّة معتبرا أنّ “نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول بل بالدورتين”، مشبها التشكيك في مشروعية الانتخابات -نظرا لنسبة المشاركة الضعيفة جدّا فيها – ب “بالإعلان عن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول”.
نسبة المشاركة: الشعب لا يريد ويعرف ما لا يريد
بلغت نسبة المشاركة في الدور الأوّل من الانتخابات التشريعية -المتعلقة بالغرفة الأولى من البرلمان- 11.22%. نسبة لم تفاجئ سوى سعيّد وهيئته المطيعة للانتخابات التي اعتبرت أنّ مردّ النسبة الضعيفة للمشاركة هو “غياب المال السياسي” و”نزاهة” العملية السياسيّة، على خلاف انتخابات العشريّة السابقة. في ظلّ مقاطعة جلّ القوى السياسيّة الوازنة لانتخابات تأسّست على الانقلاب على دستور 2014، وتحكّم في كلّ خياراتها وشروطها سعيّد نفسه، تميّز الحدث بغياب لافت للجوّ الانتخابي. غابت الملصقات والاجتماعات العامّة والبرامج الانتخابية واقتصر التفاعل مع المترشحين والمترشحات على التندّر بمداخلاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي. برود يجد أساسه في المسار الذي مرّت به الانتخابات التشريعية، على غرار المحطات السابقة لخارطة طريق سعيّد. حيث لم يكتف بمصادرة تاريخ 17 ديسمبر-تاريخ اندلاع الثورة التونسية- للتبشير بتركيز أهمّ محطّات مشروعه، بل ذهب الى تغيير قواعد اللعبة الانتخابية، حسب أهوائه، وتعيين هيئة انتخابات تأتمر بأمره وتعدّل القواعد كلّما اقتضى “المشروع” ذلك.
لم يخف “أبناء المشروع” والمهللون له استبشارهم بالانتخاب على الأفراد باعتباره “استرجاعا لسلطة الشعب” وتكريسا لمشاركة أبنائه في الحياة السياسيّة بعد لفظهم لسنوات للأحزاب وماكيناتها. برّر المطبّلون لنظام الاقتراع على الأفراد في دوائر ضيّقة لخلق طبقة سياسيّة جديدة ينتخبها الشعب ويدعم رقابته عليها من خلال نظام سحب الوكالة، وتبادر لمخيّلاتهم أنّ الشعب سيهبّ هبّة لإيقاف “هيمنة” الأحزاب وتنصيب “أبناء الشعب” حكّاما. ارتطمت هذه الفرضيّة بمعطييْن أولاهما ثابت وثانيهما من المرجح أن يؤكده الدور المقبل للانتخابات: الأوّل، ضعف المترشحين وعجزهم عن حشد الناخبات والناخبين وصفّهم في مراكز الاقتراع، حتى أنّ عددا من المترشحين لم يستطيعوا تحصيل أصوات بقدر عدد التزكيات التي قدّموها للترشح[1]. أمّا الثاني، فهو عجز الرئيس على ترجمة ما يسميه ب “عمقه الشعبي” عبر صناديق الاقتراع بالرغم من استعماله لمرفق الإعلام العمومي يوم الانتخاب، كما فعل خلال الاستفتاء، لحثّ الناخبين على التصويت في خرق مفضوح للصمت الانتخابي.
سقوط مشروع سعيد أمام تناقضاته
راهن سعيّد منذ 2011، وصولا إلى حملته “التفسيريّة'” في 2019 وقبلها في 2011، على نظام الاقتراع على الأفراد بوصفه السبيل الوحيد للتعبير على “إرادة الشعب الحقيقيّة”. الاّ أنّ رهانه ارتطم في 17 ديسمبر 2022 بالإرادة الحقيقية للشعب وهي امتناع ما يقارب 89% من الناخبين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع. نسبة مشاركة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات التونسية، التي وإن تراجعت على مرّ السنوات فانّها لم تقلّ يوما عن 35.6%، في الانتخابات البلدية لماي 2018، وعن 41% في الاستحقاقات التشريعيّة. يبرّر موالو السلطة هزالة نسبة المشاركة بتضخّم الجسم الانتخابي والذي ارتفع -بطلب من سعيّد نفسه- ليبلغ أكثر من 9 ملايين ناخب وناخبة. فقد عمدت هيئته إلى التسجيل الآلي للناخبين، بغضّ النظر عن رغبتهم في ذلك من عدمها. لكنّ هذه الحجّة لا تصمد أمام مقارنة أعداد المشاركين. فبغضّ النظر عن نسب المشاركة، أقلّ عدد للمشاركين في انتخابات منذ سنة 2011 إلى اليوم تمّ تسجيله في الانتخابات التشريعية الحالية، حيث لم يقصد صناديق الاقتراع سوى بالكاد مليون ناخب في حين كان أضعف عدد مشاركين، قبل ذلك، قد تمّ تسجيله في الانتخابات البلديّة بأكثر من مليون وتسع مائة ألف ناخبا. كما تعدّ المشاركة الحالية هي الأضعف في تاريخ الانتخابات التشريعية بعد الثورة، تليها الانتخابات التشريعية لسنة 2019 والتي شارك فيها 2946628، أي قرابة 3 ملايين ناخب وناخبة.
رهان سعيّد الثاني والذي لم يتحمّل يوما مسؤوليّته هو خلق حياة سياسيّة من دون أحزاب وبالتالي خوض انتخابات من دون أحزاب سياسيّة. الحؤول دون مشاركة هذه الأحزاب لم يكرّسه بنصوص واضحة الاّ أنّه سرّبه مخاتلة في مرسومه الانتخابي وفي تطبيقه من طرف الهيئة، عبر إلغاء التمويل العمومي ومنع الأحزاب من تمويل مرشحيها مباشرة، وعبر حذف أيّة إشارة للانتماء الحزبي في ورقة الاقتراع. وقد ساهم ذلك في حصر برامج المترشحين في المسائل المحلّية. تسابق المترشحون على مقاعد البرلمان على أساس مشاكل لا تتعدى مقاومة التلوث والحفاظ على الشريط الساحلي في معتمدية ما الى جانب الوعود المتعلقة ببناء مراكز أساسية للصحة وصيانة مؤسسات تربويّة. هذا العرض السياسي الذي ظنّ سعيّد أنّه المنشود من قبل “الشعب” ارتطم ليس فقط بنسبة مشاركة ضعيفة ولكن خصوصا بتجاهل الشباب لهذا العرض ترشّحا واقتراعا. رغم ادعاء “تطهير” العملية السياسية من “المال الفاسد” و”ماكينات الأحزاب” لم تتجاوز نسبة الشباب 14% من المترشحين. أمّا المشاركة في الاقتراع، فقد بلغت نسبة عزوف الشباب 94%، حسب أرقام هيئة الانتخابات.
الكرة في ملعب المعارضات
بقطع النظر عن أنّ الدور الأوّل للانتخابات لم يمكّن من مرور أكثر من خُمس النواب القادمين، بقي العنصر الأبرز في نتائج هذه الانتخابات هو نسبة المشاركة، خاصّة في ظلّ مقاطعة الأغلبية الساحقة للقوى السياسيّة. على خلاف سعيّد الذي طالب بالانتظار لقراءة أرقام الدور الثاني من الانتخابات التشريعية للتقييم، حسم المعارضون والموالون “النقديّون” أمرهم من الأرقام المفزعة للمشاركة، فتراوحت مواقفهم بين قراءتين سياسيتين -لم تخلُ من بعض التدرجات- ألا وهما العزوف والمقاطعة.
اعتبرت جبهة الخلاص وكذلك حركة النهضة أنّ موقف الشعب التونسي جاء حاسما في “رفض المشاركة في مهزلة الانتخابات لأنها فاقدة لأي شرعية أو رهان أو أفق” معتبرة أنّ الانتخابات كانت استفتاء على شخص سعيّد وسياساته ومشروعه مؤكدة على أنّ الشعب قد لفظه. كما قرأت النهضة نسبة المشاركة الضئيلة على أنّّها “مقاطعة” للمسار العابث وسحب الثقة من قيس سعيد ومنظومته ومشروعه.
من جهته، اعتبر حزب التيار الديمقراطي كذلك أنّ نسبة المشاركة الضعيفة تمثّل “مقاطعة تاريخية” وهي “رسالة واضحة من الشعب التونسي تنزع عن قيس سعيد كل شرعية ومشروعية وتعلن إغلاق قوس مشروعه العبثي”. في نفس السياق، قام الحزب الدستوري الحر بإصدار تنبيه شعبي الى قيس سعيّد معتبرا أنّ الشعب التونسي رفض المشاركة في التصويت طبق المنظومة المفروضة عليه ولم يعترف قرابة 90% من الجسم الانتخابي بانتخابات يوم 17 ديسمبر 2022.
وعلى الرغم من انخراطها الكلّي في مسار 25 جويلية ومشاركتها في الانتخابات، لم تجنِ حركة الشعب سوى مرور 12 مترشح من صفوفها الى الدور الثاني، وهو ما قد يفسّر دعوتها رئيس الجمهورية الى استيعاب الدرس وفهم رسالة العزوف الشعبي ليس من الانتخابات فقط، بل من العملية السياسية برمتها.
نسبة المشاركة الهزيلة لم تمنح فقط المعارضات، السياسيّة والاجتماعيّة، فرصة للضغط على سعيّد، وإنما دفعتها إلى البحث في الخطوات العمليّة لإنهاء نفق حكم سعيّد وغلق “قوس الانقلاب”. أجمعت القوى السياسيّة المعارضة، كلّ على حدة، على مطلب انتخابات رئاسيّة سابقة لأوانها. كما طالبت جبهة الخلاص على لسان أحمد نجيب الشابي بتعيين قاض برئاسة الجمهورية يدير فترة انتقالية إلى حين انتخاب رئيس جديد. في المقابل، طالب الحزب الدستوري الحرّ بضرورة “إعلان حالة الشغور على مستوى مهمة رئاسة الجمهورية” والدعوة فورا إلى انتخابات رئاسية في أقرب وقت.
بدا الملف الاقتصادي والاجتماعي كأبرز أوراق الضغط على سعيّد حيث طالب حزب آفاق تونس بتركيز حكومة طوارئ اقتصادية. في حين طالبت حركة الشعب الموالية لسعيّد بإيلاء الملف الاجتماعي والاقتصادي الاهتمام الذي يستحقه لتخفيف العبء على التونسيين” مطالبة ب “إدخال التحويرات اللازمة على الجهاز التنفيذي مركزيا وجهويا لوقف نزيف الفشل والارتباك الذي لا يزال مستمرا”.
لاح موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الأكثر حدّة من بين المنظمات الاجتماعية حيث اعتبر أنّ التدنّي في نسبة المشاركة في الانتخابات يفقدها كلّ مصداقية “ويؤكّد بوضوح موقفا شعبيا رافضا للخيارات المكرَّسة إلى حدّ الآن وعزوفا واعيا عن مسار متخبّط لم يجلب للبلاد إلاّ مزيدا من المآسي والمآزق. مذكّرا بتحذيراته “من الانزلاقات والانحرافات التي سقط فيها مسار التصحيح بدءا بالتغيير القسري للدستور في اتّجاه نظام حكم رئاسوي منغلق يشكّل تربة صالحة للاستبداد وحكم الفرد ومرورا بقانون انتخابي مسقط كرّس الإقصاء والعروشية والقبلية ووصولا إلى انتخابات لا لون لها ولا طعم”. على الرغم من وضوح توصيفه للواقع، بدا الاتحاد العام التونسي للشغل ضبابيا من حيث الحلول المقترحة أو الرسالة الموجهة لسعيّد. ضبابية بدأت تزول من خلال دعوة نورالدين الطبوبي إلى إلغاء الدور الثاني من الانتخابات وكذلك عبر اللقاءات المتواترة التي انطلقت يوم 27 ديسمبر الجاري وجمعت بين الاتحاد والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان “كثلاثي راعٍ للحوار” يرنو لبلورة تصوّر لإنقاذ البلاد.
ضعف نسبة المشاركة والمبادرات المتواترة لحلحلة الوضع السياسي والاقتصادي، قوبلتْ بخطاب ساخط من رئيس الوظيفة التنفيذية المحاط بقياداته العسكرية والأمنية ووزراء الداخلية والدفاع والعدل، اتّهم فيه معارضيه على اختلاف مشاربهم بالتآمر على أمن الدولة و”التطاول” على مؤسساتها و”رموزها”. خطاب فاضل من خلاله بين أصوات 9 بالمائة من الشرفاء وأصوات 99 بالمائة من المشاركين في الانتخابات السابقة، متناسيا للحظة أنّ احدى المحطات الانتخابية التي رماها بالزور مكّنته من سدّة الحكم قبل الانقلاب على دستورها الشرعيّ.
أقلّ من ستة أشهر فصلت بين الاستفتاء والانتخابات التشريعية، كانت كفيلة بتغيير الموازين السياسيّة ولو ظرفيا. لا يمكن القول بأنّ المعارضات قد نجحت في إقناع الشعب بالمقاطعة بقدر ما يمكن القول بأنّ سعيّد قد فشل في حلحلة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن الأزمة السياسية. لم ينجح سعيّد، خلال سنة ونصف من حكمه الفرديّ، إلاّ في تعميق عزوف التونسيات والتونسيين عن المشاركة السياسيّة وتفكيك المكاسب الديمقراطيّة المحقّقة بعد الثورة، وفي تبديد الآمال في مخرج ديمقراطي من المأزق، وربّما أيضا، في استعجال لحظة سقوطه.
[1] المترشح عبد القادر بن زينب عن دائرة سليمان تحصل على 0 صوتا.
المترشح سليم حراقة عن دائرة منزل بورقيبة–تينجة تحصل على 0 صوتا.
المرشحة حنان القبلي عن دائرة سوق الأحد– قبلي تحصلت على 255 صوتا.
المترشح مالك السائحي عن دائرة نابل تحصل على 221 صوتا.
المترشح محمد طارق يدعس عن دائرة قربة تحصل على 103 صوتا.