أعلنت العديد من الأحزاب والائتلافات الحزبية التونسية[1] مقاطعتها الانتخابات التشريعية المُزمع إجراؤها في 17 ديسمبر القادم. تضم جبهة المقاطعة معظم الأحزاب البرلمانية السابقة التي كان لها دور في صياغة تركيبة المجلس النيابي طيلة أكثر من 10 سنوات. ويندرج الموقف المقاطع للانتخابات التشريعية ضمن استمرار الرفض الحزبي للمسار السياسي الذي دشّنه الرئيس سعيد منذ 25 جويلية 2021. فقد سبق وأن قاطَعت هذه الأحزاب الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد المقترح من الرئيس سعيد. وقد جاء المرسوم عدد 55 المتعلق بتنقيح القانون الانتخابي ليُعزّز موقف المقاطعة، فقد اعتبرته جلّ المعارضات مدخلا لتهميش المنظومة الحزبية والحدّ من فعاليتها السياسية والاجتماعية.
في الأثناء، أعلنت أحزاب أخرى مُساندة للرئيس سعيّد نيّتها الترشح للانتخابات التشريعية القادمة، رغم التحفظات الإجرائية التي أبدتها بخصوص القانون الانتخابي. وتضم الكتلة الحزبية المشاركة بالأساس من يطلقون على أنفسهم “مساندو مسار 25 جويلية”، من ضمنهم حركة تونس إلى الأمام وحركة الشعب وحزب التيار الشعبي. وتنضوي تحت جبهة المشاركين أحزاب أخرى حديثة النشأة تَنسب نفسها إلى مشروع الرئيس سعيد رغم موقفه المعادي لفكرة التنظّم الحزبي، ومنها حزب صوت الجمهورية وحراك 25 جويلية. بالإضافة إلى هذا كشفت حملة الاستفتاء الأخيرة بروز أحزاب صغيرة مؤيّدة للدستور الجديد، يعود تأسيسها إلى السنوات الأولى التي عقبت ثورة 2011 ولكنها لم تكن فاعلة في الحياة السياسية.
على الأحزاب ارتداء جبّة الأفراد
جاء المرسوم 55 متناسبا إلى حدّ كبير مع هدفين رئيسيين: يتمثل الهدف الأول في إضعاف المنظومة الحزبية عبر التشريع الانتخابي. أمّا الهدف الثاني فيتجسد في الإحلال التدريجي لمشروع البناء القاعدي الذي يُبشّر به الرئيس وأنصاره.[2] ويشكّل التصويت على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين عند الاقتضاء عوضا عن التصويت على القائمات مدخلا لإفراغ التمثيل الانتخابي من الحمولة الحزبية والسياسية وربطه بمشاريع فردية ذات أفق “محلّوي”. في هذا السياق، أعلنت هيئة الانتخابات أنها ستتعاطى مع كل المترشّحين بصفاتهم الفردية، حتّى وإن كانوا منتمين إلى أحزاب سياسية أو مدعومين منها. وستكون تزكيات الناخبين[3] مشروطة بالمصادقة على البرامج الفردية للمترشحين حسب الاستمارة المنشورة على موقع الهيئة.
يبدو أن مركزيّة فكرة الحدّ من الفاعليّة الانتخابية للأحزاب داخل المرسوم 55 أدّت أيضا إلى إلغاء التمويل العمومي والتنصيص في الفصل 75 جديد على أن “يتمّ تمويل الحملة الانتخابية وحملة الاستفتاء بالتمويل الذّاتي والتمويل الخاص دون سواهما وفق ما يضبطه هذا القانون”. ويُشكّل هذا الإجراء انعكاسا لتقدير قديم للرئيس سعيد ينظر من خلاله إلى التمويل العمومي المشروط للقائمات الانتخابية بوصفه إهدارا للمال العام ودعمًا من الدولة لمنظومة المحاصصة الحزبية. ويبدو أن هذا التقدير المُنساق وراء إيديولوجيا “نهاية الأحزاب” يُغفل دور التمويل العمومي في عقلنة الإنفاق الانتخابي وخلق موارد مالية دنيا متساوية بين المترشحين الجديّين. كما أنّه يُغفل ظاهرة المال الانتخابي الخاص الذي تتعزّز أشكاله ومصادره -غير المعلومة في بعض الأحيان- ويصبح أكثر تأثيرا كلّما تعلّق الأمر بترشّحات ذات رهان محلّي.
رغم أن هيئة الانتخابات لم تُصدر بعد قرارها الترتيبي المتعلّق بتنظيم الحملة الانتخابية -خاصة في الجانب المتعلق بالمشاركة الحزبية- فإن هناك نزوعا نحو التضيّيق على الظهور العلني للأحزاب وربط مشاركتها الانتخابية بتأييد مرشحين أفراد دون سواهم. فقد صرّح محمد تليلي المنصري، الناطق الرسمي باسم هيئة الانتخابات، أنّ “الأحزاب لا يمكنها أن تترشّح ولا يمكنها أن تتقدّم بطلب إلى الهيئة من أجل إجراء تظاهرات أو اجتماعات خلال الحملة الانتخابية باعتبارها غير مترشّحة ولكن يمكنها أن تدعم المترشّح الذي ينتمي إليها”. وعلاوة على عدم الحقّ في الترشّح أو القيام بأنشطة انتخابية فإن الناطق باسم هيئة الانتخابات قد أدلى بتصريحات متناقضة بخصوص موقع الأحزاب في الحملة الانتخابية، إذ صرّح أوّل الأمر أن “الأحزاب السياسية لا حقّ لها في القيام بحملات انتخابية أثناء فترة الحملة الانتخابية للاستحقاق التشريعي المقرّر ليوم 17 ديسمبر القادم”. ثم عادَ ليصرّح في فترة لاحقة أن المترشّح بإمكانه القيام بحملته الانتخابية “على أساس انتمائه الحزبي وبإمكانه استعمال برنامج الحزب وشعاره لأنه لا يوجد أيّ نصّ قانوني يمنع ذلك”. وعموما هذه التصريحات المرتبكة والمتضاربة تُشير إلى أنّ هيئة الانتخابات لا تملك زمام أمرها وإنما تخضع للقرار السياسي الذي يمليه عليها رئيس الجمهورية، طالما أن المرسوم 55 برمته يعد انعكاسا للتصوّر الانتخابي الخاص لرئيس الجمهورية. إذ لم ينبثق عن تداول وطني واسع، وحتى الهيئة نفسها والأحزاب الصديقة للرئيس لم يتمّ استشارتهم أثناء صياغته.
التنظّم المحلّوي بديلا عن التنظّم السياسي
إن التدرّج المرحلي في إقصاء الأحزاب من الحياة السياسية، لا يتعلّق فقط بحسابات سلطوية آنيّة تهدف إلى إزاحة خصوم حزبيين وازنين على غرار حركة النهضة والحزب الدستوري الحر. وإنما يندرج ضمن تصوّر كلّي للفعل السياسي ومؤسسات التنظّم المواطني. هناك نزوع عشوائي نحو تحطيم الاجتماع السياسي الوطني الذي يُهيكله الانتماء السياسي العابر للرابطة القروية والجغرافية من أجل استبداله بنظرة محلّويّة للفعل السياسي، تَضيق فيها المواطنة لتصبح أكثر التصاقا بالخصوصية المحلية التي تفرضها أوضاع القرية بالأساس، ثم المعتمدية والولاية بدرجة أقل.
هذا التصوّر لا يرى أية جدوى في تأسيس مواطنة “فوق-محليّة” تَربط المجتمع بالدولة عن طريق مؤسسات عامّة وسياسات وتشريعات مشتركة. وإنما يهدف إلى إنتاج “مواطن محلي” معزول داخل محيطه الجغرافي، تربطه علاقات اجتماعية واقتصادية هشة بالدولة والسلطة المركزيتين، ولا يمتلك آليات كافية لمراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها حول سياساتها العامة. وأكبر دليل على ذلك أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية المصيرية للبلاد، وعلى رأسها برنامج التعديل الهيكلي الجديد، يجري التخطيط لها بمعزل عن حاجيات وانتظارات سكان القرى والمعتمديات. وهناك تهميش قَصدي للشأن الاقتصادي في النقاش السياسي العام. لأن هذا النوع من النقاش سيعرّي استمرار السلطة الحالية في اتباع المنوال التنموي القديم وانحدارها بسرعة زمنية أكبر من سابقيها نحو الرضوخ لنموذج التقشف والخوصصة.
رغم هشاشة الأداء الحزبي والتنظيماتي طيلة السنوات الأخيرة، إلا أن التّنظّم السياسي يظل الحصانة الفضلى للمجتمع من أجل مراقبة السلطة السياسية ومعارضة خياراتها. وتهدف السردية التنظيمية لمشروع الرئيس ودُعاته إلى إلغاء كل أشكال التنظّم السياسي -وخاصة الحزبي- وتعويضه بـ”التنظّم المحلّوي”. وهو ما عبّر عنه مؤخرا أحمد شفطر قائلا: “نحن لسنا تشكيلا إيديولوجيا ولسنا تشكيلا سياسيا. نحن بالأساس متطوعين دون أي تنظم…نحن نتنظم تلقائيا داخل محلياتنا حول مشاريع تنموية وكل المشاريع التي تمسّ حياة الناس ثقافية واجتماعية واقتصادية وصناعية وفلاحية”. مضيفا بالقول: “نحن أبناء المحليات ولم نتشكّل في أيّ حزب…وأتحدى أي شخص يقول أنّه انخرط في مجموعة اسمها البناء القاعدي أو التنسيقيات”.[4]
هذا التصوّر الذي يعمل الرئيس وأنصاره على إرسائه يعطي لمحة أوليّة عن المجلس النيابي القادم، الذي ستَتَشكّل داخله الكتل وفقا للمطالب المحلية والمصالح المناطقية. وسيجري إفراغه من محتواه التشريعي والرقابي الوطني ضمن نظام سياسيّ يشهد اختلالا مشطا في التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لصالح الأخيرة التي يستحوذ فيها رئيس الجمهورية على مطلق الصلاحيات من دون وجود سلطات رقيبة ومضادة. وتُبرّر النظرة المحلّوية لنفسها من داخل المعادلة القائلة بأن “السلطة تُبنى من تحت إلى فوق” وترفع أيضا شعار “تحرير الروابط التحتية من الهيمنة الفوقية”. ولكن المفارقة أن هذه النظرة ستؤدي على المستوى العملي إلى مزيد عزل البنى الاجتماعية التحتية داخل مناطقها الضيقة عبر ربطها بأفق محلّوي مسدود، ولا مستقبل لها في ظل استمرار الهيكلة الاقتصادية العامة الحالية. وسيَخدم هذا الهدف في نهاية المطاف سلطة فوقية منفردة بإدارة القرار والموارد وتقف فوق الرقابة والمساءلة، ولكنها لا تجد حرجا في ادّعاء التعبير عن الإرادة الشعبية العامة. وعلى المستوى الاجتماعي ستحافظ النظرة المحلّوية على الاختلال الجهوي القائم، ولن تشكّل مدخلا اقتصاديا للحدّ من سطوة الاحتكارات المركزية ولوبيّات المال والاقتصاد.
أحزاب الرئيس: الصراع حول غنائم ما بعد 25 جويلية
لا تبدو الكتلة الحزبية المؤيدة للرئيس سعيّد متجانسة من حيث الروافد والتأثير والفهم السياسي للأوضاع، ولكن يبدو الرهان مشتركا حول وراثة الفراغ الحزبي الذي سيخلّفه موقف المقاطعة. فالمنظومة التي يصفونها بـ”العشرية السوداء” -رغم أن الكثير منهم تقلّد فيها مناصب وزارية وبرلمانية- ستُخلّف وراءها غنائمها وكراسيها الفارغة أيضا. ويبدو هذا الرهان محفّزًا على خوض المغامرة بالنسبة إلى البعض، رغم التّحايل الاصطلاحي في عرض خيار الاصطفاف، من قبيل “نحن مع مسار 25 جويلية ولسنا مع الرئيس”.
جزء من هذه الأحزاب يملك تجارب قديمة في العمل السياسي على غرار حركة تونس إلى الأمام والتيار الشعبي وحركة الشعب وحلقات يسارية وعروبية أخرى غير مُنتظمة. وينظر جزء كبير منها إلى حقبة الرئيس سعيد بوصفها “مرحلة تكتيكية” ستَكنس خصومًا جبابرة غير مقدور عليهم بجهود حزبية ذاتية، على غرار حركة النهضة والحزب الدستوري الحر. وتسعى هذه الأحزاب والحلقات إلى بناء قوة تنظيمية وامتداد اجتماعي أكبر من خلال النّهل من موجة 25 جويلية. وهي تجتهد أيضا في افتكاك موقعها داخل اللعبة الانتخابية الجديدة، التّي تظن أنها قادرة على توظيفها لصالح خزّانها التنظيمي. ولكن هذه الأحزاب ستصطدم بمحدوديّتها التنظيمية واللوجيستية في الانتخابات التشريعية القادمة. كما ستجد نفسها في صراع مع “أبناء المشروع” الذين يبدون أقرب إلى مُهجة الرئيس وإلى موارد الدّولة أيضا. إضافة إلى البروز المحتمل لمراكز النفوذ المحليّة التي سيغريها القانون الانتخابي بخوض المغامرة التشريعية من أجل إرفاق الوجاهة المحليّة بوجاهة سياسية أكبر. وستصطدم هذه الأحزاب أيضا بإرثها النقابوي الثقيل الذي سيَحوّل دون قدرتها على تأسيس جبهة انتخابية قوية وموحّدة.
بعض الأحزاب الأخرى نشأت في غمار البحث عن مواقع نفوذ داخل المرحلة الجديدة، وهي أشبه بالعشوائيات الحزبية التي تبحث عن عنوان سياسي يربطها في نظر الناخبين باسم الرئيس قيس سعيد. ومصيرها مرتبط بمدى قدرتها خلال الفترة القليلة القادمة على إقناع جمهور الناخبين بولائها للرئيس وانتسابها الشرعي إليه. ودون ذلك فهي لا تملك برامج ومشاريع ذات دلالات نحو المستقبل.
[1] الأحزاب التي أعلنت مقاطعتها الانتخابات التشريعية إلى حد الآن هي: الحزب الدستوري الحر، حركة النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة، حراك تونس الإرادة، حزب الأمل، حزب العمال، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، التيار الديمقراطي، الحزب الجمهوري، حزب القطب، حزب آفاق تونس، الحزب الاشتراكي، حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، حزب الائتلاف الوطني، حركة مشروع تونس.
[2] للوقوف أكثر حول علاقة المرسوم عدد 55 بمشروع البناء القاعدي، انظر: مهدي العش. سعيد يصدر مرسومه الانتخابي: ملامح البناء القاعدي تتضح رغم تنازلات ملحوظة. موقع المفكرة القانونية.
[3] يشترط التنقيح الجديد للقانون الانتخابي على المترشحين ارفاق مطالب الترشح بـ400 تزكية من الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية، نصفهم من الذكور ونصفهم من الإناث. ولا تقل نسبة عدد المزكين والمزكيات من الشباب دون سن الـ35 سنة عن 25 بالمائة.
[4] حوار مع أحمد شفطر. أسبوعية الشارع المغاربي، العدد 328، 27 سبتمبر 2022.