“قد نكون نمشي الآن فوق تراب بقايا مفقودينا ومخطوفينا” عبارة قالتها رئيسة “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان” وداد حلواني من حرش بيروت قبل سنوات وتحديدًا في العام 2009، لتعود وتكرّرها من الكارنتينا حيث تمّ الاشتباه الأسبوع الماضي بوجود مقبرة جماعيّة. وما بين التاريخين وقبلهما اشتباه بمقابر جماعيّة أقفلت ملفاتها من دون إجابة مقنعة لأهالي المفقودين والمخفيين قسرًا، وتقاعس من السلطات اللبنانيّة في هذا الملف. وقد بلغ هذا التّقاعس أوجّه ابتداء من العام 2000 حين كان أوّل إقرار رسمي بوجود مقابر جماعية بعد الحرب وتسمية ثلاث منها، وذلك من دون إعطاء أيّة معلومات عن التحقيقات التي أدت إلى تلك النتائج.
ما أن انتشر خبر الاشتباه بمقبرة جماعيّة في منطقة الكرنتينا تعود إلى الحرب الأهلية بالقرب من جامع الخضر أثناء حفر الجرافات لبناء قديم الأسبوع الماضي، حتّى سارع وفد من الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا لمعاينة موقع أعمال الحفر في المنطقة. وبحسب رئيس الهيئة بالإنابة زياد عاشور فإنّه حتّى اللحظة لا يوجد دليل ملموس على وجود رفات بشرية في الموقع إذ لم يتبين لأعضاء الهيئة الذين زاروا الموقع وجود رفات ظاهرة بالعين المجردة. ولكن هذا لا يعني إقفال الملف فالعمل حاليًا وكما أكّد عاشور لـ “المفكرة” مستمر إذ تقوم الهيئة بالتنسيق مع السلطات القضائية والأمنية بالإضافة الى مديرية الآثار واللجنة الدولية للصليب الأحمر بمتابعة الإجراءات الفنيّة العلمية للتأكّد من احتمال وجود أي رفات بشريّة. وفي حال وجود أيّ دلائل أو قرائن، تتدخّل الهيئة لتستكمل عملها بحسب ما ينصّ عليه القانون 105/2018.
وفي هذا الإطار، طلبت النيابة العامة التمييزيّة في بيروت وقف أعمال الحفر وتطويق الموقع تمهيدًا لاستكمال التدقيق من قبل الجهات المعنيّة بإشراف الهيئة.
صحيح وكما ذكرنا سابقًا أنّها ليست المرة الأولى التي يتمّ خلالها الاشتباه برفات بشرية تعود إلى الحرب الأهلية أو بوجود مقابر جماعيّة إلّا أنّها المرّة الأولى (ما عدا في بلدة مدوخا التي كانت ترتبط برفات عناصر فلسطينيّين قُتلوا على يد إسرائيل) التي يتمّ الاشتباه فيها برفات في ظلّ وجود هيئة وطنيّة ما يفترض أن يُعطي أملًا بمسار مختلف بالتحقيق وتقديم إجابة مقنعة للأهالي.
أمل محفوف بالمعوقات
انتشار خبر احتمال وجود رفات بشريّة تعود إلى الحرب الأهلية في الكارنتينا نكأ جراح أهالي آلاف المفقودين. “ما أن انتشر الخبر حتّى بدأ الأهالي يتواصلون معنا، طبعًا يعود إليهم الأمل، وأيضًا الحديث عن الكارنتينا حيث نعرف أنّ أعدادًا من المفقودين خُطفوا هناك، هو عامل إضافي” تقول حلواني لـ “المفكرة”، مضيفة “آن الأوان لحلّ هذا الملف، هناك مقابر جماعية في مختلف المناطق اللبنانية، يجب حلّ الملف قبل رحيل من يملك المعلومات من قادة الأحزاب، المطلوب تعاطٍ مختلف مع هذا الملف، ومع احتمال وجود مقبرة في الكارنتينا”.
وتقول حلواني لـ “المفكرة” إنّ تعاطي السلطات المتعاقبة مع موضوع المقابر الجماعيّة بشكل عامّ وفي كلّ مرّة اشتبه فيها بوجود مقبرة لم يكن مطمئنًا إلّا أنّه هذه المرّة من المفترض أن يكون التعاطي مختلفًا وذلك بسبب وجود قانون وهيئة. “من المفترض أن نكون مرتاحين لوجود الهيئة الرافعة الرسمية لتطبيق القانون، ولكنّنا قلقون من المعوقات التي قد تواجهها الهيئة التي وبسبب موازنتها ليس لديها حتى اللحظة فريقٌ إداريّ ولا مقرّ يتناسب مع طبيعة عملها، كما أنّ جميع أعضاء الهيئة ما عدا الرئيس، ليسوا متفرّغين”.
بالإضافة إلى تلك المعوقات، تعتبر حلواني الخوف الأساسي هو أيضًا من استمرار غياب الإرادة السياسيّة لتطبيق القانون “ناضلنا عقودًا لنحصل على القانون عام 2018، ومن ثمّ ضغطنا لتشكيل الهيئة انطلاقًا من القانون ولم تُشكّل حتى العام 2020، ولم تؤمّن لهذه الهيئة أدوات عملها، القانون مهمّ جدًا ولكن كيف يعمل من دون آليات تُساعد في تطبيقه” تقول حلواني. وتشير إلى أنّ هناك أملًا في أن يؤدّي العهد الجديد والذي ذكر في بيانه الوزاري قضية المفقودين، دورًا إيجابيًا في هذا الملف يختلف عن العهود السابقة.
بدوره يعتبر عاشور أنّ الهيئة أمام امتحان وتحدّ حقيقيّين وهي أمام مفترق طرق: فإمّا أن تقوم بعملها أو “تطلق رصاصة الرحمة على القانون” وهذه المرّة الأولى التي يتمّ الاشتباه بمقبرة جماعية في ظلّ وجود الهيئة غير رفات مدوخا التي توضع في سياق سياسي مختلف.
ويُشير عاشور إلى أنّ الهيئة اختارت أن تقوم بدورها ضمن الإمكانيات المتوافرة، لافتًا إلى أنّه وبحسب القانون، للهيئة مسار واضح لا يحتمل الاجتهاد، ففي حال وجود قرائن بوجود رفات تعود إلى الحرب الأهليّة تُصدر قررًا بوضع اليد، ليتمّ تشكيل لجنة تنسيق وفقًا للقانون يترأسها قاضٍ وتضمّ ممثلين عن الأهالي وأشخاصًا متعدّدي الاختصاصات.
وإذ يُكرّر عاشور أنّه لا وجود لأيّ معوقات قانونيّة، يوضح أنّ التخوّف هو من عدم تقديم الدعم اللازم لعمل الهيئة التي لم تُعطَ ما تحتاجه لبناء فريق عمل تنفيذي وليس لديها قاعدة بيانات، آملًا أن تُساهم التغيّرات التي حصلت في سورية أخيرًا وتشكيل حكومة جديدة في لبنان، في تعامل أفضل يليق بملف المفقودين والمخفيين قسرًا.
وفي إطار المعوقات، يُشير عاشور إلى عدم امتلاك الهيئة ولا حتّى الدولة قاعدة بيانات، فكلّ ما جمع كان من الصليب الأحمر وهو عبارة عن عيّنات بيولوجيّة وليست DNA فضلًا عن قاعدة صغيرة من البيانات موجودة لدى قوى الأمن الداخلي.
وكانت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان طالبت الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا في بيان، بسرعة “التحرّك على الأرض ومبادرتها إلى إجراء الاتصالات لاتخاذ الإجراءات الأوّلية اللازمة مع الجهات الرسمية المعنية ومع الجهات العلمية والتقنية المختصّة، وبمواكبة مسار العمل الميداني في الموقع للتثبّت ممّا يجري وإعلامها بالنتائج. كما طالبت اللجنة الهيئة بالعمل على توثيق ملف المقابر الجماعية المنتشرة على طول البلد وعرضه من المصادر الرسمية وغير الرسمية ليصار إلى تسييجها منعًا للعبث بها، والتلاعب بمشاعر الأهالي، وذلك تمهيدًا للتعامل مع هذه المقابر وفقًا لما ينصّ عليه القانون 105/2018”.
تجارب غير مشجّعة مع مقابر جماعيّة مشتبه فيها
عندما تتحدّث حلواني عن تاريخ طويل من تقاعس الدولة وغياب الإرادة السياسيّة لكشف مصير المفقودين والمخفيين قسرًا، تُذكّر بعدد من المحطّات التي سبقت القانون وتشكيل الهيئة. فتتحدّث في هذا السياق عن كيفية التعاطي مع الاشتباه بوجود مقبرة جماعية في تلّة مقام النبي العزير في مجدل عنجر العام 2005 حين لم يقتنع الأهالي بالنتيجة التي توصّل إليها العمل. فقد تمّ حفظ الملف العام 2006 بقرار من النائب العام التمييزي حينها القاضي سعيد ميرزا “لعدم الدليل على وجود جرم جزائي، وقد تم تبرير القرار بأنّ الرفات التي عثر عليها في تلة المقام عائدة إلى مقبرة عادية وليس بين الأشخاص المدفونين فيها من توفي بعد العام 1950”.
حينها لم يقتنع الأهالي من دون أن ينجح أي منهم في الاستحصال على أي إثبات على وجود مقبرة جماعية. وقد برز هذا التشكيك في حديث أدلى به للنهار حينها رئيس جمعية “سوليد” الراحل غازي عاد، حيث صرّح أنّ “مختار عنجر شعبان العجمي بلّغ السلطات عن مقبرة عنجر قبل ستة أشهر من إثارة الموضوع فطُلب منه إقفال الملف. ثمّ عادت السلطات وقررت فجأة نبش المقبرة في 2005 من أجل هدف سياسيّ محدد، وحين اكتشفت أنّ الموضوع أكبر منها وأنّه سيورّط كثيرين أقفل الملف”. وتابع عاد إنّه “قيل إنّ بعض الرفات يعود إلى 350 عامًا علمًا أنّ العجمي قال إنّ هناك جثثًا غير مهترئة”، مشيرًا إلى أنّ “اللافت في القضية أنّ المقبرة قد تكون قديمة إلّا أنّ الاحتمال بأنّها تحوي جثثًا حديثة وارد أيضًا وبالتالي لفلفة الموضوع بهذه الطريقة إضافة إلى توقيت إثارته ومن ثم طمسه يُثير لدينا لغزًا كبيرًا”. ونحن نعيد نشر هذه الشهادة التي تعبر عن حجم الشكوك التي بقيت من دون حلّ ومن دون أن يكون بإمكاننا الجزم بوجود مقبرة جماعية لغياب الدليل الحاسم.
كما تُذكّر حلواني بما حصل عند الاشتباه بمقبرة في وقف طائفة السريان الكاثوليك في الشبانية (2010) إذ جاء الإعلان الرسمي ليقول إنّ بقايا العظام التي عثر عليها في هذا المكان هي بقايا حيوانية (ماعز وكلاب). “لا أعرف ما هو التعبير المناسب للتعليق على هذا الرد، قيل لنا ما وجد بقايا حيوانات”، مشيرة إلى أنّ ممثلين من الأهالي وبهدف الاطلاع عن كثب على الموقع ذهبوا إلى المكان ولكن ووجهوا برفض قاطع من قبل وكيل الوقف ورئيس البلدية وممثل عن المقبرة وممثل من مخابرات الجيش حينها. وشكك الأهالي حينها في الرواية الرسمية، وأصدرت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان ولجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين والمركز اللبناني لحقوق الإنسان، بيانًا ذكرت فيه أنّها استمعت إلى شهود عيان شاهدوا البقايا من الجماجم وعظام ملفوفة بأكياس من النايلون. كما تمّ توثيق شهادة أحدهم بصورة رسمية من قبل خبير معيّن من قاضي الأمور المستعجلة في جبل لبنان، من دون أن تسفر التحقيقات عن أي نتيجة حاسمة.
ولا يمكن الحديث عن تعامل السلطات المتعاقبة مع قضيّة الاشتباه برفات تعود إلى الحرب الأهليّة أو مقابر جماعيّة من دون التذكير أيضًا بالعثور على رفات الصحافي والعامل السابق مع الأمم المتحدة أليك كوليت العام 2009 في موقع سابق لتنظيم حركة فتح ـــــ المجلس الثوري في أطراف بلدة عيتا الفخار الشرقية. فعلى الرغم من انتشال رفات شخص آخر حينها من الموقع ليُعاد دفنه، وعلى الرغم من احتمالات وجود مفقودين آخرين يمكن أن يكون قد دفنوا هناك، لم تأخذ السلطة أي خطوات عمليّة.
ودعت منظمة العفو الدولية حينها السلطات اللبنانية إلى بسط حماية فورية على الموقع وإلى اتخاذ إجراءات للتفتيش عن رفات غير تلك التي اكتشفت، معتبرة أنّه إذا ما تبيّن أنّ هناك جثامين أخرى، يتعيّن على السلطات اتخاذ الخطوات اللازمة للتعرّف على هوية أصحابها وتسليمها إلى عائلاتها.
مقبرة مدوخا 2023
كان التعامل مع احتمال وجود رفات تعود إلى الحرب الأهليّة الوحيد في زمن تشكيل الهيئة، في آب 2023 حين عُثر على رفات ثلاث أشخاص بلباس عسكري أثناء عمليات حفر في بلدة مدوخا في البقاع الغربي. عرفت الهيئة حينها بحسب عاشور بالأمر من وسائل الإعلام، قائًلا إنّ النيابة العامة لم تكن تعرف بوجود الهيئة وصلاحيّاتها. وبعدما تواصلت معها الهيئة وبيّنت لها دورها كانت متجاوبة ومتعاونة بشكل كبير. وتمّ اتخاذ قرار بوضع اليد. ويوضح عاشور أنّه تمّ تشكيل لجنة نبش حسب أحكام القانون 105 وأنّ اللجنة أجرت تحقيقاتها اللازمة وتمكّنت بالتعاون مع مختبر الأمن الداخلي، من تحديد 3 هويّات جينيّة, ولكن نتيجة البحث الاجتماعي لم تتوصل الهيئة حتى الآن إلى التعرّف على الهويّات الشخصية ولاسيّما في ظلّ غياب قاعدة بيانات وطنيّة في هذا الإطار. وبالتالي تمّ الاحتفاظ بالمعلومات.