نشر هذا التقرير ضمن العدد 66 من المفكرة القانونية حول “الثورة في مواجهة السلطة وعنفها”، وهو جزء من سلسلة تقارير توثق أساليب قمع السلطات اللبنانية لحرية التظاهر بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين. تظهر هذه التقارير حجم تضحيات القوى المعترضة في لبنان وتشكّل مضبطة اتّهام بحقّ السّلطة، وتحديداً المرفق القضائي-الأمني، لجهة استخدام القوّة ضدّ معارضيها وارتكاب الأجهزة الأمنية جرائم عديدة وجسيمة بقيت بمنأى عن أيّ محاسبة جدّية. في الجزء الأوّل، نتناول التوقيفات التي تعرّض لها المتظاهرين والمنتفضين خلال الفترة الممتدة بين 17 تشرين الأوّل 2019 و15 آذار 2020. في الجزء الثاني، نتناول العنف والتعذيب بحقهم خلال هذه الفترة. في الجزء الثالث، نتطرّق إلى قمع حرية التظاهر خلال فترة إعلان التعبئة العامة والإغلاق لمواجهة وباء كوفيد-19 بين 16 آذار و30 حزيران 2020. وفي الجزء الرابع، نتناول استدعاءات المنتفضين إلى التحقيق خلال هذه الفترة. للإطلاع على منهجية التوثيق، إضغط هنا.
رصدنا، بالإضافة إلى التوقيفات، أكثر من 230 استدعاءً للتحقيق لناشطين بين 17 تشرين 2019 و15 آذار 2020 على خلفية مشاركتهم في الثورة أي بمعدل 1.5 استدعاء في اليوم، من دون أن يتمّ توقيفهم لأكثر من 24 ساعة. ورغم تعليق الاستدعاءات مؤقتاً بعد إعلان التعبئة العامة بسبب انتشار فيروس كورونا، عادت ملاحقة الناشطين فور فتح الإدارات الرسمية حيث سجّلنا أكثر من 60 استدعاء للتحقيق لغاية نهاية حزيران 2020. وقدّمت “لجنة المحامين للدّفاع عن المتظاهرين” الدّعم القانوني للمستدعين. كما تضامن معهم العديد من ناشطي مجموعات 17 تشرين ونفّذوا وقفات احتجاجية رفضاً لسياسات كمّ الأفواه.
حصلت معظم هذه الاستدعاءات بناءً لإشارات من النيابات العامّة سواء سنداً لشكاوى شخصية أو تبعاً لتحريك الدعوى العامّة، باستثناء استدعاءات فروع مخابرات الجيش. وتولّت التحقيقات جميع الأجهزة الأمنية بدءاً من الجيش (المخابرات والشرطة العسكرية) ثمّ قوى الأمن الداخلي (المخافر والشرطة القضائية ومكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية وشعبة المعلومات والمباحث الجنائية المركزية)، بالإضافة إلى أمن الدولة والأمن العام. كما شملت مختلف المناطق اللبنانية، بخاصّة بيروت والشمال والبقاع.
أسباب الاستدعاء: تأديب المنتفضين بدلاً من محاسبة السّلطة
رفضت بعض الأجهزة الأمنية التصريح عن سبب الاستدعاء أو الجهة القضائية التي أمرت به قبل مثول المستدعى لديها، وهو ما عزّز المقاربة الأمنية لهذه القضايا على حساب حقوق الدفاع. وتبيّن من التدقيق في هذه الأسباب أنّ النيابات العامّة والأجهزة الأمنية عمدت إلى التحقيق مع المنتفضين حول أفعالهم الاعتراضية على أداء السلطة والمصارف، بدون الالتفات إلى أسبابها أو التحقّق من صحّتها.
تشابهت أسباب الاستدعاء وأسباب توقيف المنتفضين عامّة، كالمشاركة في التظاهرات والتجمعات السلمية على الطرقات العامة، التحريض على التظاهر أو تسهيله، مقاومة عناصر أمنيّة وعسكريّة ومعاملتهم بالشدّة، وأفعال التخريب وإحراق صور السياسيين وواجهات المصارف ومراكز التيار الوطني الحر. إلّا أنّها حصلت أيضاً على خلفية رش الغرافيتي على جدران المصارف وقضايا القدح والذم بحق السياسيين والمؤسسات الأمنية.
ورصدنا أكثر من 70 استدعاءً على خلفيّة النشر على شبكات الإعلام الاجتماعي، لا سيّما فيما يتعلّق بمنشورات تكشف الفساد وتنتقد رموز السلطة السياسية وممارسات المؤسسات الأمنية والعسكرية خلال التظاهرات.
طرحت هذه القضايا عدداً من الإشكاليات المتعلّقة بالوسائل المشروعة للاعتراض والتعبير وانتقاد الزعماء والمسؤولين، وفتحت النقاش حول الوظيفة الاجتماعية والسياسية للحقّ في التشهير والشتيمة في مواجهة رموز السلطة والفساد الذين لا يخضعون للمحاسبة أو المساءلة القانونية. وفي حين أسقطت الانتفاضة نهج المجاملة في الخطاب العام إزاء المسؤولين والنافذين، أظهرت هذه القضايا توّجهاً واضحاً لدى النيابات العامّة لتأديب الشعب بدلاً من محاسبة السلطة من خلال التحقيق جدياً في قضايا الفساد واختلاس الأموال العامّة والخاصّة أو حتى أعمال العنف المرتكبة من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية.
على سبيل المثال، استدعت مخابرات الجيش العديد من الناشطين الذين انتقدوا أداء المؤسسة العسكرية خلال فضّها للتظاهرات لا سيما على أثر مقتل أحمد توفيق وفواز السمّان في طرابلس رغم عدم إعلان الجيش عن نتائج تحقيقاته في هذه الوفيات لغاية تاريخه. واستدعت النيابة العامة التمييزية أكثر من 15 شخصاً، من ضمنهم الناشط جينو رعيدي والصحافية ديما صادق، إلى المباحث الجنائية المركزية على خلفية انتقادهم لرئيس الجمهورية ووزير الصحة والتيار الوطني الحر وإحراق مكتب التيار في حلبا ردّاً على اعتداء مرافقي النائب زياد أسود على متظاهرين من طرابلس في جونيه. كما استدعت النيابة العامّة في البقاع 15 شاباً من طلاب المدارس، بينهم 12 قاصراً، إلى مخفر رياق (زحلة، البقاع) في كانون الأوّل 2019 على خلفية إحراق صورة لرئيس الجمهورية.
كذلك استدعى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية أكثر من 17 شخصاً على خلفية انتقادهم للسياسيين وكشفهم لقضايا الفساد على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن أبرز الاستدعاءات التي حظيت باهتمام الرأي العام: استدعاء عدد من الناشطين على خلفية منشورات حول اعتداء مناصري أحزاب السلطة على خيم الاعتصام في النبطية، والناشط ربيع الأمين بناء على شكوى من صاحب مصرف “الموارد” على خلفية انتقاده، والناشط شربل خوري بناء على شكوى من مستشار لحزب التيار الوطني الحر. بالإضافة إلى ذلك، استدعت مديرية أمن الدولة 7 ناشطين على خلفية انتقادهم لها أو لرئيس الجمهورية في تجاوز واضح لصلاحيّاتها القانونية، كما استدعى الأمن العام سيّدة أجنبية على خلفية مشاركتها في التظاهرات.
استدعاءات المخابرات: تجاوزٌ للصلاحيات ومخالفات قانونية
جاءت أعلى نسبة من هذه الاستدعاءات (أكثر من 100) من قبل فروع مخابرات الجيش في مختلف المناطق اللبنانية، بخاصّة في البقاع والشمال والجنوب. وتستوجب هذه الاستدعاءات ملاحظات عدّة حول المخالفات القانونية الجسيمة التي تضمّنتها والتي تقاعست النيابات العامّة التمييزية والعسكرية عن وضع حدٍ لها رغم المطالبات المتكرّرة للجنة الدّفاع، مما يشير الى استخدام الجهاز كأداة سياسية لقمع المعارضة:
• الخروج عن الرّقابة القضائية: حصلت العديد من استدعاءات المخابرات في غياب أيّ إشارة قضائية واتّخذت طابع الاستدعاءات الأمنية غير الرّسمية والخارجة عن أيّة رقابة قضائية. كما لم يتّضح لنا مدى تمتّع المحقّقين بصفة الضبّاط العدليين لكي يكون لهم صلاحية استجواب المدنيين. وأفاد عدد من الذين تمّ استدعاؤهم أنّ المحققين لم يقوموا بتنظيم محاضر رسمية أو بضبط إفادتهم رسمياً، بل أخذوا بصماتهم ومعلومات شخصيّة عنهم وعن انتماءاتهم السياسية ودوافعهم للمشاركة في التظاهرات والمواد المنشورة على صفحاتهم في شبكات الإعلام الاجتماعي ومن يحرّضهم على هذه الأفعال. كما احتجزوهم لساعات (بين 5 و13 ساعة) قبل الإفراج عنهم. وتخلّلت هذه التحقيقات تهديدات وشتائم لبعض المتظاهرين وإلزامهم بتوقيع تعهّدات بعدم النزول إلى الشارع وتسكير الطرقات مجدداً أو انتقاد رئيس الجمهورية والمؤسسة العسكرية.
• الخروج عن الصلاحيات العسكرية: تناولت عدداً من هذه الاستدعاءات قضايا لا تدخل ضمن صلاحية القضاء العسكري أو المؤسسة العسكرية، لا سيما الأفعال المتعلّقة بالتظاهر والتجمّعات على الطرقات العامّة وانتقاد رئيس الجمهورية. تؤكّد هذه الممارسات توّسع صلاحيات المخابرات في التحقيق مع المدنيين في غياب أيّ ضوابط قانونية أو قضائية، بخاصّة في منطقتي الشمال والبقاع، وكأنّ هذه الأصول القانونية هي امتياز للمقيمين في محيط العاصمة ولا يتمتّع بها المقيمون في أطراف البلاد.
• انتهاكات لحقوق القاصرين: رصدنا استدعاء خمسة قاصرين على الأقل لدى مخابرات الجيش في أبلح (البقاع) والريحانية (جبل لبنان)، وقد تمّ التحقيق معهم من دون حضور مندوب الأحداث أو أحد أهاليهم خلافاً لقانون حماية الأحداث رقم 422/2000. وأفاد بعض القاصرين أنّهم شعروا بالخوف الشديد خلال التحقيق معهم، بخاصة نظراً لتكبيل أياديهم وعصب أعين بعضهم.
والنيابات العامّة تعتدي على صلاحيات المحاكم
رغم أنّ أغلب هذه الاستدعاءات لم تؤدّ إلى توقيف المستمع إليهم احترازياً، إلّا أنّ النيابات العامة، وبشكل خاصّ النيابة العامة الاستئنافية في بيروت وجبل لبنان، لجأت إلى استخدام الاحتجاز “التكديري”، حتى في القضايا المتعلّقة بالنشر على شبكات الإعلام الإجتماعي والتي لا تتجاوز فيها عقوبة الجريمة المدّعى بها الحبس مدة سنة. وفي هذه الحالات، تمّ إبقاء المشتبه فيهم قيد الاحتجاز لساعات بعد الانتهاء من التحقيق معهم وتدوين إفاداتهم.
أدّت هذه الاحتجازات إلى إنزال عقوبة مسبقة بحق المشتبه فيهم، كما والضّغط عليهم من أجل إزالة أو تعديل منشورات على شبكات التواصل الإجتماعي أو التوقيع على تعهّدات بعدم التعرّض لرموز السلطة السياسية وأصحاب المصارف أو عدم القيام بأعمال تخريب. وقد رفض عددٌ من المنتفضين توقيع هكذا تعهّدات وإزالة منشوراتهم انطلاقاً من رفضهم التنازل عن حقّهم بممارسة حرية التعبير والانتقاد وكشف الفساد، لا سيما في وجه النافذين من مؤسسات وأشخاص يتولّون مناصب عامّة أو إدارة مصارف.
تشكّل هذه الممارسات المخالفة للقانون تعدّياً واضحاً من قبل النيابات العامّة على صلاحيات قضاء الحكم الذي يعود له وحده صلاحية إدانة المدّعى عليهم وإنزال العقوبات بحقهم. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ قضاء الحكم كان قد برّأ العديد من الناشطين الذين تمّت ملاحقتهم بتهم القدح والذمّ والتحقير بحقّ المسؤولين على خلفية الاحتجاجات الشعبية خلال حراك 2015. واعتبرت القاضية عبير صفا في سلسلة من الأحكام القضائية الرائدة أنّ الدفاع عن المجتمع وعن المصلحة العامّة ينفي النيّة الجرميّة ولا يشكّل إساءة للأشخاص المعنيين، مما يُلزم تغليب المصلحة المتمثّلة في ضمان حرية التعبير على المصلحة المأمولة من منعها.