الاستثناء معززا في مشروع قانون المحكمة العسكرية اللبنانية، ولا مكان لأي اضطراب ضميري


2014-03-05    |   

الاستثناء معززا في مشروع قانون المحكمة العسكرية اللبنانية، ولا مكان لأي اضطراب ضميري

في 14/2/2014، نشرت المفكرة القانونية تعليقاً على مشروع قانون تعديل قانون المحكمة العسكرية للمحامي المتدرج نجيب فرحات حمل عنوان (الإصلاح من دون منهجية ولا مبادئ). وكان مشروع القانون قد وضعته لجنة مكوّنة من أعضاء عيّنهم وزير العدل شكيب قرطباوي وهم رئيس مجلس القضاء الحالي جان فهد ونقيبا محامين سابقان بطرس ضومط ورشيد درباس (بات وزيراً في الحكومة الجديدة) فضلاً عن رئيس مجلس قضاء سابق (منير حنين) وقاضيين متقاعدين آخرين. وقد نشر المشروع على موقع وزارة العدل اللبنانية كخاتمة أعمال الوزير قرطباوي قبيل تشكيل الحكومة الجديدة في 15-2-2014. وإذ تحيل المفكرة قرّاءها الى تفاصيل الملاحظات التي أبداها فرحات، نكتفي هنا بالملاحظات الآتية:

ملاحظات بشأن المنهجية المتبعة
أول عيوب المنهجية تمثل في مواصفات أعضاء اللجنة. فعدا أن أياً منهم لم يعرف لا بأبحاثه في مجال القضاء ولا بطروحاته الإصلاحية، فإن اختيار رئيس مجلس القضاء الأعلى كعضو فيها إنما يشكل عاملاً سلبياً يُخشى منه أن يؤدي الى تغطيس المجلس برمّته في تكريس المحاكم الاستثنائية وعلى نحو يناقض تماماً أهدافه التي هي ضمان استقلال القضاء وشروط المحاكمة العادلة. كما أن هذه اللجنة لم تضم أياً من ممثلي الجمعيات غير الحكومية التي ربما تُعنى بإصلاح القضاء أو من الأساتذة في القانون أو من ذوي الاختصاصات غير القانونية، ما جرّد بالطبع عملها من أي بعد مجتمعي وعلمي. وما زاد الأمر قابلية للنقد طبعاً هو مراكمة مشاريع القوانين، بحيث أضيف هذا المشروع الى مشروع وضعته لجنة تحديث القوانين البرلمانية، وكل ذلك بأكلاف عالية تسدد لأعضاء اللجان، وبمعزل عن أي مناقشة اجتماعية لما تصل اليه هذه اللجان من اقتراحات وحلول.

ولكن أخطر من ذلك، هو أن اللجنة بدت منسلخة تماماً عن محيطها القانوني لبنانياً ودولياً. فهي لم تعر ولا أدنى انتباه للانتقادات الموجهة السابقة للمحاكم العسكرية لجهة إبقاء القاضي العسكري أو المحامي العسكري أو لجهة توسع صلاحياتها توسعاً سرطانياً. وتالياً، لم تعر أي انتباه الى ما قد يترتب على ذلك من تأثير على مبادئ المحاكمة العادلة، وخروج عن الخطة الوطنية لحقوق الإنسان التي التزمت وزارة العدل بتطبيقها. كما أن اللجنة سهت عن قصد أو غير قصد عن مجمل الورش الإصلاحية الحاصلة في دول الحراك العربي ومآل مبدأي “القاضي الطبيعي” أو “عدم جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية” في دساتير هذه الدول.

وبخصوص أولوياتها ومرجعيتها، أوضحت اللجنة ما أسمته أسباباً موجبة وذلك على هامش كل مادة على حدة، من دون أن تبيّن أو تلتزم بأي مبدأ أو توجه إصلاحي عام في أي حين. وعليه، فإن الإشارة الى الطابع الاستثنائي للمحكمة وردت فقط لاستبعاد مقترح في إنشاء هيئات اتهامية تشكل مرجعاً استئنافياً لقضاة التحقيق العسكريين، وبكلمة أخرى لاستبعاد مقترح كان من شأنه أن يصب في تحسين حقوق المتهم وبوجه خاص حقوقه بالمحاكمة العادلة، فيما نسي تماماً الطابع الاستثنائي عند مناقشة صلاحيات المحكمة والتي انتهت اللجنة الى توسيعها (فرحات).
وكان من الطبيعي تبعاً لذلك، أن يؤول مشروع القانون ليس فقط الى تكريس الاستثناء والتعامل معه على أنه أمر عادي، بل أيضاً في توسيع دوائره. وهذا ما سنتطرق اليه من خلال عدد من الملاحظات.

“القاضي العسكري”: لكل متهم قاض من سلْكه، ولكل ضابط محكمة يتعلم فيها القانون
ماخلا بعض التعديلات التي بقيت في الحد الأدنى في اتجاه تعزيز مؤهلات القضاة العسكري (اشتراط أن يكون القاضي العسكري المنفرد مجازاً بالحقوق) أو هيئات المحاكمة (رفع عدد القضاة العدليين في بعض هيئات المحكمة العسكرية)، لم يجد المشروع أي حرج بالإبقاء على القاضي العسكري، كما لم يجد حرجاً في إبقاء القضاة العسكريين غالبية في هيئات المحكمة المختلفة، متجنباً أي إشكالية بشأن أخلاقيات القضاة أو تمتعهم بضمانات استقلالية، أو بأي من شروط المحاكمة العادلة.

وأكثر التعديلات دلالةعلى توجه المشروع في هذا الخصوص، تمثّل في ضمان تمثيل الأسلاك العسكرية كافة في هيئات المحكمة، على نحو يؤدي الى تكريس درجة أعلى من الاستثناء. فليس كافياً أن يكون القاضي عسكرياً في جميع الدعاوى المتصلة بالجرائم المرتكبة من عسكريين، بل يقتضي أن يكون هنالك على الأقل قاض ينتمي الى السلك العسكري نفسه للمتهم أو المدعى عليه، كأن يكون هنالك ضابط قاض من ضباط قوى الأمن الداخلي إذا كان المتهم تابعاً لهذه القوى، “لأن لكل سلك خصوصياته ووظائفه ومسؤولياته”.

الى ذلك، عكست مسألة القاضي العسكري أحد أبرز الأخطاء المنهجية التي وقعت فيها اللجنة، وذلك في سياق تحديد مدة تعيين القضاة العسكريين في المحكمة العسكرية. فإذ حددت مدة تعيين القضاة العسكريين بين سنتين وثلاث حداً أقصى، بيّنت أن الهدف المعلن لتحديد المدة الأقصى لا يتصل إطلاقاً بتحسين شروط المحاكم، بل بتمكين الضباط من التناوب على مناصب القاضي العسكري، “لأننا رأينا أن تناوب الضباط في المحاكم العسكرية يكسب الضابط خبرة قانونية يطبقها في عمله الإداري العسكري” (بحسب ما ورد في الأسباب الموجبة). وبهذا المعنى، بدت اللجنة – وهي مكوّنة من قضاة ومحامين – وكأنها تقول صراحة إن الهدف من تعيين هؤلاء في المحكمة، ليس الاستفادة من خبراتهم فيها بدليل أنه لا يشترط تمتعهم بإجازة حقوق كما سبق بيانه، بل تدريبهم وتأهيلهم للقيام بأعمال أفضل في المؤسسات العسكرية التي سيرجعون اليها. ولا بأس في هذا المحل أن يتدربوا من خلال قرارات إعدام أو حبس يصدرونها بالجملة على المحكوم عليهم، من عسكريين ومدنيين. فمحور أي إصلاح للمحكمة العسكرية ليس تحسين شروط المحاكمة العادلة (فهي تبقى مسائل ثانوية) بل تحسين إدارات الأجهزة العسكرية والأمنية. وما يجعل الأمر أكثر غرابة هو تضمين الأسباب الموجبة شهادة حسية لأعضاء اللجنة (القضاة والمحامين) وذلك من خلال العبارة: “رأينا”.. فأين رأى هؤلاء حسن بلاء خريجي المحكمة العسكرية في الإدارات العسكرية؟ وأي خبرة لهم في تقييم هذه الإدارات؟ أم أن ضمير المتكلم “نا” يشمل هنا أشخاصاً تمت استشارتهم في مشروع اللجنة من دون أن يكونوا من أعضائها؟ أياً يكن، فإن من شأن شهادة كهذه صادرة عن أشخاص كهؤلاء أن تكشف الخلفيات الفكرية التي تحرّك أعضاء اللجنة وأن تنسف تالياً مشروع القانون برمّته.

صلاحيات المحكمة العسكرية تتوسع: الإرهاب وتمويله، وإثارة النعرات الطائفية
هنا أيضاً، وبدل أن تعمل اللجنة على تقليص صلاحيات المحكمة، فإنها انتهت الى أن تعمد اللجنة الى تضييق صلاحيات أن توسيعها لتشمل: “الجرائم المتعلّقة بالأعمال الإرهابية أو بإثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال أو النعرات الطائفية المنصوص عنها بالقوانين المرعية الإجراء، لا سيما قانون 11/1/1958”[1]. وبمعزل عن الجدل الحاصل حول إيراد قانون 11/1/1958، فإن هذا البند وضع في سلة المحكمة جرائم كثيرة جديدة أبرزها تمويل الإرهاب وإثارة النعرات الطائفية، وهي عبارات مطاطة قابلة للتوسع. وبذلك، بدت اللجنة في كل ذلك وكأنها تذهب في اتجاه معاكس تماماً لما كان ينتظر منها أن تقوم به، لجهة تكريس مبدأي القاضي الطبيعي وعدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم الاستثنائية.

محكمة الـRAISON D’ETAT؟
فضلاً عن ذلك، من اللافت الجهد الفكري الذي بذله أعضاء اللجنة لاتخاذ قرار بشأن تسمية مفوض الحكومة اللبنانية لدى المحكمة العسكرية، وتحديداً في ما إذا كان من الملائم استبدال هذه التسمية بتسمية نائب عام كما هي حال سائر النيابات العامة أو أيضاً تركه على حاله.

وقد بررت اللجنة موقفها بالإبقاء على تسمية “مفوض الحكومة” بأن اختصاص القضاء العسكري يشمل مواضيع تتعلّق بالإرهاب والتجسس والاقتتال الطائفي والفتن الداخلية ومحاكمة رجال الجيوش الأجنبية، وأن هذه المواضيع عموماً تتعلّق بسيادة الدولة وبالـRAISON D’ETATأي أنه يعود للدولة أن تتخذ المواقف النابعة من سيادتها أو من علاقتها بالدول الأخرى أو بالمؤسسات الدولية، وبالتالي يكون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية يمثّل الى حدّ ما رأي الدولة في هذه المفاهيم المحكي عنها دون أن يتجاوز مسؤولياته القضائية وصفاته هذه. ومن خلال هذه الفقرة التوضيحية، أفصحت اللجنة عن أمرين، الأول جهل هائل للمفاهيم القانونية قوامه المزج الكامل بين مفهومي الحكومة والدولة، إذ كان بالإمكان حتى في هذه الحالة استبدال التسمية لتصبح “مفوض الدولة”، والثاني، نظرة غريبة بشأن دور مفوض الحكومة بحيث يظهر وكأنه أداة لتنفيذ مآرب الحكومة عملا بمفهوم RAISON D’ETATالذي يبقى مرادفاً لتجاوز القانون وللتسويات التي قد تحصل في إطار المحاكم. ولا نبالغ إذا قلنا إن نظرة كهذه تنعكس على المحكمة برمّتها فتزيدها استثنائية.

نشر في العدد الرابع عشر من مجلة المفكرة القانونية 


[1] يشمل هذا القانون جرائم عدة أبرزها جرائم الاعتداء أو محاولة الاعتداء التي تستهدف إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي بتسليح اللبنانيين أو بحملهم على التسلّح بعضهم ضد البعض الآخر. وهو قانون مؤقت بطبيعته.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني