على وقع استمرار حرب الإبادة في غزّة، عقدت محكمة العدل الدولية على مدار ستة أيام في شباط 2024 جلسات علنيّة لسماع المرافعات الشفهية حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في قضية تعدّ الأكبر في تاريخ المحكمة. 65 دولة ومنظمّة دولية، معظمها من دول الجنوب، شاركت في الإجراءات، سواء خطيًا أو شفهيًا، لإبداء رأيها حول السؤال الذي طرحته الجمعية العامّة للأمم المتحدّة: ما هي “الآثار القانونية الناشئة عن السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟”
وكانت عقود من الاحتلال والنكبات والتهجير والجرائم الممنهجة التي تمارسها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين قد دفعت الجمعيّة العامّة عام 2022 إلى اتخاذ قرار بالتوجّه إلى محكمة العدل الدولية لطلب رأيها الاستشاري. وبعد أن قدّمت الدول والمنظمات الدولية ملاحظاتها الخطية في تموز 2023، أظهرت مرافعاتها الشفهية وجود شبه إجماع، بخاصّة لدى دول الجنوب، في مطالبة المحكمة بالإفتاء بعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي وبانتهاكِه المستمرّ لحق الفلسطينيّين في تقرير مصيرهم. ومن المتوقع أن تُصدر المحكمة رأيها القانوني خلال الأشهر المقبلة.
يمكن اعتبار هذه القضية “الأكبر” في تاريخ المحكمة بناء على أربعة معايير:
أوّلًا، من حيث عدد مشاركات الدول في هذه الإجراءات الاستشارية، إذ شاركت 62 دولة وثلاث منظمات دولية (جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي) فيها. وهو ما يشكّل أعلى نسبة مشاركة في تاريخ المحكمة، علمًا أنّ القضية الثانية من حيث حجم المشاركة تتعلّق أيضًا بالقضية الفلسطينية، وهي قضية الرأي الاستشاري حول بقانونية الجدار الفاصل عام 2004 حين شاركت 48 دولة وثلاث منظمات دولية في إجراءاته.
ثانيًا، من حيث حجم وتعقيد الأسئلة المطروحة على المحكمة والتي تتناول القواعد المتعلّقة بقوانين الحرب والاستيلاء على الأراضي والحقّ في تقرير المصير والفصل العنصري والتهجير القسري.
ثالثًا، من حيث المدّة الزمنية التي تتناولها والتي تزيد عن خمسة عقود هي مدّة الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 على الاقلّ.
ورابعًا وأخيرًا، من حيث ارتباطها بدعوى الإبادة الجماعية التي قدّمتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل والتي أصدرت فيها المحكمة نفسها أوامر بتدابير عاجلة بعد أن سلّمت بوجود خطر بالإبادة. وإنْ انحصرت تلك الدعوى النزاعية بالنظر في مدى مخالفة إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية في عدوانها على غزّة بعد 7 أكتوبر، جاءتْ هذه القضية الاستشارية لوضع الإبادة في سياقها التاريخي منذ نكبة 1948.
بالطبع، لهذه القضية أهمية تاريخيّة وظرفيّة كبيرة بالنسبة للقضية الفلسطينية. فقد سمحت من جهة أولى بإعادة الصراع إلى إطاره التاريخي خاصة بعدما نسي أو تناسى جزء كبير من العالم أنّ التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر 2023. ومن جهة ثانية، فَرض واقع غزّة الحالي نفسه على الخطاب والمحاججة، سيّما في المرافعات الشفهية. وعلى الرغم من كون القضية الفلسطينية قضيةً عالمية تعني الإنسانية جمعاء، ومحوريّة في معارك التحرّر والتحرير من الاستعمار في هذا العالم، من الواضح أنّ أهمية هذه القضية تتعدّى الواقع الفلسطيني البحت. فقد أظهرت الجلسات العلنية إعادة رسم حدود الانشقاق بين دول الشمال والجنوب، وعلاقتهما مع منظومة القانون الدولي التي باتت مهدّدة بالانشطار بين قطبين: مؤسّسيه التاريخيين الذين وضعوه وبخاصّة بعد الحرب العالمية الثانية واستفادوا منه (دول الشمال التي هي بمعظمها استعمارية)؛ والدول التي كانت مجرّد متلقٍ له في بداياته، لكنّها استطاعت، رغم إجحافه أحيانًا وضعف فعالياته غالبًا، أن تستفيد منه لتتحرّر من الاستعمار وتطوّره على نحو يساهم في بناء عالمٍ أكثر عدالة ومساواة.
تأتي هذه القضية بعد خمسة أشهر دامية من حرب الإبادة على غزّة يقابلها تعطيل عمدي لمجلس الأمن عبر حقّ الفيتو لمنع فرض وقف إطلاق نار؛ وبعد استشهاد أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني تقابله شعارات فارغة بشأن “ضرورة حماية المدنيين” من دون أن يتوقف الدعم العسكري للاحتلال؛ وبعد مجاعة حصدت أرواح عشرات الأطفال وتهدّد مليوني فلسطيني تقابلها مسرحيات إنزال مساعدات قاتلة. وفي لحظة تاريخية تسقط فيها هشاشة ادّعاءات معظم دول الشمال السياسي بتمسّكها بأهم وأبسط قواعد القانون الدولي، ليظهر بوضوح سلوكها منحًى انقلابيًا عليه. ففي هذه اللحظة التاريخية، تتمسّك دول الجنوب بشرعية القانون الدولي وتدافع عن الحق الفلسطيني ضمن مساحاته.[1] [2]
وقبل المضي في تفصيل أبعاد هذه القضية سواء للقضية الفلسطينية (2) أو في الصراع بين دول الشمال والجنوب (3)، نتوقّف بداية أمام أبرز المواقف التي ظهرت من المشاركات في هذه القضية (1) على أن نتوسّع فيها وفي الحجج القانونية التي استندت إليها في الجزء الثاني من هذه المقالة.
1. مشاركة واسعة وإجماع حول الانتهاكات الإسرائيلية
شاركت 62 دولة وثلاث منظمات دولية في الإجراءات أمام محكمة العدل الدولية، منها ما قدّم مذكرات خطيّة (12) أو مرافعات شفهية (8) أو الإثنين معًا (45). وقد توّزعت الدول المشاركة جغرافيًا بين 17 دولة عربية، 14 من أوروبا، 8 من أفريقيا، 11 من آسيا، 8 من أميركا الجنوبية و2 من كلّ من أميركا الشمالية وأوقيانيا. وإذا اعتمدنا على معيار “أونكتاد” UNCTAD (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) للتمييز بين الدول التي تعتبر ضمن الشمال السياسي وتلك التي تعتبر ضمن الجنوب، فقد توّزعت المشاركات بين 43 دولة من الجنوب مقابل 19 دولة من الشمال. بمعنى أنّ نسبة مشاركة الدول الجنوبية قاربت 70%، وهي نسبة أعلى من تلك التي شاركت في قضية الجدار الفاصل عام 2004 حين بلغت النسبة 57%. وعليه، طغى الطابع الجنوبي على المشاركات، فيما غابت أي منظمة من دول الشمال، أبرزها الاتحاد الأوروبي الذي كان قد شارك في قضية الجدار.
وقد جاءت هذه المشاركات للمساهمة في النقاش حول المسألتيْن المطروحتيْن أمام المحكمة: أوّلًا، ما هي “الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمرّ لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافيّ لمدينة القدس الشريف واعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن”؟ وثانيًا، ما “تأثير هذه السياسات والممارسات على الوضع القانوني للاحتلال والآثار القانونية المترتّبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟”
افتتحت دولة فلسطين المرافعات الشفهية بعد أن كانت قد تقدّمت بمذكرة خطية تجاوزت 300 صفحة، وصفت فيها القضية بـ “التاريخية” تبعًا لحرمان الفلسطينيين من العدالة منذ عقود، في حين أنّ إسرائيل تريد أرض فلسطين من دون شعبها الذي تضعه أمام ثلاثة خيارات: التطهير العرقي أو الأبرتهايد أو الإبادة. أما إسرائيل، فلم تُشارك فيها مكتفية بتقديم مذكرة خطيّة مقتضبة من خمس صفحات طالبت فيها المحكمة برفض إصدار رأيها في القضية كون طلب الرأي من قبل الجمعية العامّة يشكّل “استخدامًا تعسّفيًا للقانون الدولي وللإجراءات القضائية”.
وفيما دعمت تسعة من الدول المشارِكة، موقف إسرائيل لجهة حثّ المحكمة على الامتناع عن إبداء رأيها في هذه القضية (كندا، إيطاليا، بريطانيا، هنغاريا، تشيكيا، نورو، توغو، فيجي، زامبيا)، أجمعت أغلبية المشاركات على ضرورة أن تصدر المحكمة رأيها وأن “تقول” كلمة القانون فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية والأسئلة التي طرحتها الجمعية العامّة (53 مشاركة).
وفي وقت ترفض إسرائيل قيام الدولة الفلسطينية، أجمع المشاركون أمام المحكمة على الإقرار بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم (51 مشاركة، من ضمنها 40 دولة أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية)، ومنهم من أصرّ أن تكون هذه الدولة قابلة للعيش وعلى أرض متواصلة. كما أكّدت المشاركات على عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (43 مشاركة من ضمنها 7 من دول الشمال) سواء منذ العام 1967 لمخالفته قواعد الحرب أو بسبب ديمومته، كما وعلى عدم قانونية المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية (46 مشاركة). فطالبت بضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة منذ العام 1967 (44 مشاركة) حيث شدّد بعضها على ضرورة أن يكون الانسحاب كاملًا و/أو فوريًا و/أو غير مشروطٍ (18 مشاركة)، كما طالبت بوجوب وقف سياسة الاستيطان و/أو إزالة المستوطنات (33 مشاركة).
وعليه، أدانت معظم المشاركات انتهاك إسرائيل المستمرّ لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم (47 مشاركة، من ضمنها 8 من دول الشمال)، واستيلاءها على الموارد الطبيعية الفلسطينية (33 مشاركة)، كما سياسة التغيير الديمغرافي التي تقترفها إسرائيل (41 مشاركة) سواء منذ العام 1948 أو بعد العام 1967، مع التركيز على القدس الشرقية. وذهبت بعض المشاركات إلى إدانة نظام الفصل العنصري أي الأبرتهايد (23 مشاركة) أو التمييز العنصري (13 مشاركة).
وانتهت هذه المشاركات إلى التأكيد على موجبات الدول والأمم المتحدة بعدم الاعتراف بالاحتلال، ولا دعمه، لا بل التعاون من أجل إنهائه (39 مشاركة)، حيث ذهب بعضها إلى تفصيل هذه الموجبات، منها وقف إمداد الاحتلال بالأسلحة، قطع العلاقات التجارية مع المستوطنات، أو محاسبة الأشخاص الذين يساهمون في جرائم الاحتلال ويخضعون لصلاحية الدول القضائية (23 مشاركة). كما شددت بعض الدول على موجب إسرائيل بالتعويض عن انتهاكاتها للقانون الدولي، كما بتقديم ضمانات بعدم تكرارها، بعد عقود من ارتكابها من دون أي محاسبة أو عواقب.
2. توثيق لرواية فلسطين التاريخية
رسمت المشاركات في هذه القضية رواية فلسطين ما قبل 1948 لغاية اليوم، لتُصبح هذه الذاكرة التاريخية موثّقة في السجلّات القضائية الدولية، فتبني المحكمة رأيها عليها ويستند إليها الحراك العالمي الداعم لفلسطين في المسارات المتعدّدة لمحاسبة الاحتلال على انتهاكاته.
الانتهاكات لم تبدأ في العام 1967
صحيح أنّ المسائل القانونية التي طرحتها الجمعية العامّة على المحكمة محدودة بتاريخ 1967 وما بعد، إلّا أنّ هذا لم يمنع نصف المشاركات، جميعها من الجنوب، من التذكير بقرن كامل من اللاعدالة، وبإدانة ظروف إنشاء إسرائيل عام 1948 وجرائم النكبة (22 مشاركة). وقد ذهبت بعض المشاركات إلى القول صراحة إنّ إنشاء إسرائيل بحدّ ذاته تمّ بطريقة غير قانونية. فأشار مجلس التعاون الإسلامي إلى أنّ إتمام هذه العملية التأسيسية خالف أهمّ المبادئ والقواعد التي تأسّس عليها القانون الدولي الحديث: حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في السيادة على أراضيها وسلامتها، حظر استخدام العنف غير المشروع، حظر الاعتراف بالأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها بالقوّة، وانتهاكات صارخة لمجمل قواعد القانون الدولي الإنساني.
وعلى الرغم من ندرتها، برزت مواقف تشير صراحة إلى المشروع الصهيوني كعامل أساسي لفهم الصراع وتوصيفه (فلسطين، قطر، إيران، اليمن، الكويت، كوبا، جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الإسلامي). فأعاد مجلس التعاون الإسلامي مصدر “الصراع” الإسرائيلي – الفلسطيني إلى القرن التاسع عشر، تحديدًا إلى لحظة ولادة المشروع الصهيوني، وأشارت إيران إلى أنّ إنشاء نظام الاحتلال الإسرائيلي في 1948 كان غير قانوني ومبنيًا على التهجير القسري للفلسطينيين بهدف إنشاء مستعمرة ذات أغلبية يهودية وفقًا لمطالب الصهيونية. كما أدانت قطر صفته الاستعمارية الصريحة. وشدّدت جامعة الدول العربية على أنّ تطبيق الصهيونية بالقوّة قد ترافق بالضرورة مع إفناء أو تهجير السكّان الفلسطينيين غير اليهود، ممارسة الهيمنة على المتبقّين منهم وإخضاعهم وسلب ممتلكاتهم وإفقارهم، بالإضافة إلى هجرة الشعب اليهودي إلى أرض فلسطين، بغض النظر عن أي صلة شخصية ومباشرة لهم، وحرمان اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة، كلّ هذا في إطار عنصري يميّز الشعب اليهودي عن الشعب الفلسطيني غير اليهودي.
وقد تميّزت مرافعة جامعة الدول العربية أيضًا بعودتها إلى اقتراح الجمعية العامّة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين عام 1947 الذي اعتبرته غير قانوني بالأساس لمخالفته حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة. إذ إنّ فلسطين كانت، من الناحية القانونية، أرضًا واحدة ذات شعب واحد يتمتع بحق تقرير المصير على أساس وحدوي. فما الرفض العربي لاقتراح التقسيم الأوّل إلّا تأكيد وتمسّك بالوضع القانوني القائم حينها. وقد أشارت دولة فلسطين في مرافعتها إلى كون خطة التقسيم المطروحة من قبل الجمعية العامة كانت “مجرد توصية (…) تمّت من دون مشاورة الشعب الفلسطيني ومن دون موافقته، في تجاهل صارخ لحقه الأساسي في تقرير المصير”، فاستغلّها الإسرائيليون لتأكيد مزاعمهم على الأرض و”إعلان الاستقلال” في أيار 1948 ليكون إنشاء الدولة “وفقًا لقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة”. وأشارت النرويج إلى فرادة الحالة الإسرائيلية التي تشير وثيقتها التأسيسية إلى قرار من الأمم المتّحدة، مع إصرارها على أنّ ذلك لا يعني أي “انتقاص في شرعية إنشاء دولة إسرائيل أو حقوقها”. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الجمعية العامّة “لم تكن تتمتع في ذلك الوقت بالطابع العالمي والتمثيلي الذي تتمتّع به اليوم بعد إنهاء الاستعمار وحصول غالبية بلدان العالم على الاستقلال” (فلسطين). ليكون بذلك، بحسب جامعة الدول العربية، إعلان دولة إسرائيل للشعب اليهودي والاعتراف بها كدولة وبعضويتها في الأمم المتحدة، كلّها غير شرعية، إذ أنّ “إسرائيل ليست الاستمرار القانوني أو الوريث للانتداب”.
الإبادة في غزّة في صلب النقاش
طغى العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة على المرافعات الشفهية التي جرت بعد أقلّ من شهر على إقرار محكمة العدل الدولية بخطر الإبادة بحق الفلسطينيين في غزّة. فحذّرت معظم الدول (32 مشاركة من ضمنها أربع دول من الشمال) من استمرار العدوان على غزة التي أكّد البعض أنّها كانت محتلّة قبل 7 أكتوبر ولا تزال، وأدان بعضها صراحة الإبادة الحاصلة بحق الفلسطينيين في غزّة (16 مشاركة جميعها من دول الجنوب)، فيما اكتفت روسيا بالإشارة إلى قرار المحكمة من دون إدانة الإبادة بشكل صريح. كما استغلّت بعض الدول الفرصة لإعادة التأكيد على الحاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار (12 مشاركة من ضمنها دولتان من الشمال هما فرنسا وإيرلندا).
وكان من اللافت ظهور بعض الفروقات في مواقف بعض الدول بين ما قدّمته خطيّا قبل 7 أكتوبر وما عبّرت عنه شفهيّا في شباط 2024، والتي سمحت ببلورة المواقف الرسمية أمام تطوّر الوضع في غزّة. على سبيل المثال، أصرّت الصين في مرافعتها الشفهيّة على التأكيد على حقّ الشعب الفلسطيني استخدام القوّة لمقاومة الاحتلال من أجل تقرير مصيره، وهو موقف كررته 10 من المشاركات الأخرى (فلسطين، قطر، اليمن، غامبيا، أندونيسيا، ايران، تونس، والمنظمات الثلاث)، كما رفضت أن يتذّرع الاحتلال بالدفاع عن النفس وأن يتم تصنيف الكفاح المسلّح الذي تخوضه الشعوب من أجل تحرّرها ضدّ الاستعمار والاحتلال كعملٍ إرهابيٍّ، وهي حجج لم تذكرها في مذكرتها الخطية. أمّا فرنسا التي كانت قد أدانت إسرائيل بشكل واسع في مذكرتها الخطية ورفضت تبرير انتهاكاتها (تحديدًا لجهة فرض تغيير ديمغرافي في الأراضي المحتلة) بحق الدفاع عن النفس أو حتى بحق حفظ أمنها، فأكّدت في مرافعتها الشفهية ليس على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وعن “شعبها” وفقاً للقانون الدولي فحسب، بل توّسعت في مفهوم هذا الحق ليشمل ممارسته بشكل استباقي بهدف منع تكرار هجمات مماثلة لعملية 7 أكتوبر. وهذا التفسير يناقض القواعد الثابتة في القانون الدولي التي تمنع التذرّع بالحق في الدفاع عن النفس لصدّ هجوم لاحق محتمل.
وعلى غرار فرنسا، أكّدت 11 دولة (من ضمنها 7 من الشمال) على حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، أو على وجوب مراعاة “مصالحها الأمنية”. واللافت أنّ اللوكسمبورغ التي ركّزت في مختلف محاور مرافعتها على خلاصات محكمة العدل السابقة بشأن الجدار، غاب عنها حجب الأخيرة حقّ الدفاع عن إسرائيل تجاه أيّ اعتداء منبثق من الأراضي الخاضعة لسيطرتها، لتعتبر أنّه “من الواضح أنّ لإسرائيل الحق في حماية نفسها وشعبها من أي هجوم” على أن يتمّ احترام مبدأي التناسب والضرورة. أمّا سويسرا، فاعتبرت أنّ إسرائيل “تتمتّع بسلطة تقدير واسعة في اختيار وتنفيذ الوسائل” في إطار دفاعها عن نفسها.
وفي هذا الصدد، كان من اللافت عدم إشارة لبنان في مرافعته إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة لسيادته، بما فيها استمرار احتلال جزء من أراضيه والقصف الإسرائيلي المستمر للجنوب، فيما لفتت سوريا إلى أنّ إسرائيل تُهاجم سوريا ولبنان فيما ترتكب الإبادة في غزّة المحتلة.
3. حين يتمسّك الجنوب بالقانون الدولي أمام تقاعس الشمال
إذًا طغى الطابع الجنوبي على المشاركة في إجراءات هذه القضية، وأظهرت غالبية الدول والمنظمات من الجنوب دعمها الصريح لحقوق الفلسطينيين، وإن اختلفت في صلابة موقفها سواء في الدفاع عن حق الفلسطينيين أو إدانة إسرائيل. لكنّ الدور الجنوبي المحوري لم يقتصر على حجم المشاركة، بل تمايز في تمسّكه في أهمية دور المحكمة أمام محاولات إقصائها، وفي إصراره على إعطاء قواعد القانون الدولي الآمرة كامل مفاعيلها، وفي رفضه لمفاوضات تتناقض مع القانون.
التمسّك بدور المحكمة وبضرورة إصدار الرأي
أشارت فلسطين في مشاركتها إلى أنّه في العام 1947، طلبت “اللجنة الفرعية المخصّصة للقضية الفلسطينية” عرض خطة التقسيم التي تبنّتها الجمعية العامة حينها على محكمة العدل الدولية لطلب رأيها حول “ما إذا كان لعضو أو مجموعة من الأعضاء في الأمم المتحدة الحق في تنفيذ أي من الحلول المقترحة من دون موافقة الشعب الفلسطيني”، لكن هذا الاقتراح لم يلقَ تجاوبًا. واعتبرت اللجنة حينها أنّ رفض عرض هذه المسألة على المحكمة من شأنه أن يكون بمثابة “اعتراف بأنّ الأمم المتحدة عازمة على تقديم توصيات في اتجاه معيّن، لا لأنّها تتّفق مع مبادئ العدالة والإنصاف الدوليين، ولكن لأنّ أغلبية المندوبين يرغبون في حل المشكلة بطريقة معيّنة، من دون الأخذ في الاعتبار جوهر المشكلة أو الالتزامات القانونية التي قد تكون موجودة على الأطراف”.
أما اليوم وقد وصلت قضية الاحتلال إلى المحكمة، فلم تكن صلاحية المحكمة لإصدار رأيها في هذه القضية موضع نقاش. فالكلّ أجمع على صلاحيتها الثابتة في الإجابة عن أسئلة قانونية تعني الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإن كانت تتعلّق بنزاع سياسي. إلّا أنّ قلّة من 10 دول، معظمها من دول الشمال، اعتبرت أنّ إبداء المحكمة رأيها هو أمر غير ملائم، فطلبت من المحكمة عدم ممارسة هذه الصلاحية مرتكزة على وجود “أسباب حاسمة” تمنعها من ذلك (إسرائيل، كندا، إيطاليا، بريطانيا، هنغاريا، تشيكيا، نورو، توغو، فيجي، زامبيا)، كما تركت اثنتان منها الأمر لتقدير المحكمة (غواتيمالا وهولاندا). لكنّ غالبية واسعة مؤلفة من 53 مشاركة حثّت المحكمة على استخدام صلاحيتها لإبداء رأيها. وتمايز الموقفان الروسي والأميركي في هذا الصدد: فقد طلبت روسيا من المحكمة أن تبدي رأيها من دون أن تفصّل نطاق مسؤولية إسرائيل أو تحدّد سبل تنفيذها بشكل دقيق. أمّا الولايات المتحدة الأميركية فطلبت منها أن تبديه “بحذر” وأن تحترم “الإطار الموجود لحلّ النزاع” ومبدأ “الأرض مقابل السلام”.
تعدّدت الأسباب التي استندتْ إليها هذه الدول لحثّ المحكمة على رفض إبداء رأيها، منها رفض “إقحام المحكمة في النزاع” معتمدة على حجة طابعه الثنائي، أو غياب الدلائل الكافية للإجابة على الاسئلة المطروحة، أو تأثير الرأي سلبًا على المفاوضات أو حتّى رفض إسرائيل لطلب الرأي. في المقابل، أتت مواقف دول الجنوب لتتمسّك بالقانون الدوليّ كمرجعية أساسية في محاولة لمواجهة هذا المنحى الخطير الذي يحيّد القانون الدولي أمام امتحان جدّي لتطبيقه.
التمسّك بعالمية الحقوق والقواعد أمام حجة ثنائية النزاع
تحجّجت الدول الرافضة للرأي بطبيعة النزاع الثنائية بين الفلسطينيين وإسرائيل، و/أو بالرفض الإسرائيلي اللجوء إلى المحكمة. ففيما استندت معظم الدول المشاركة إلى قواعد مسؤولية الدول المدنية لاستخلاص ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، اعتبرت بريطانيا أنّ هذا الالتزام يمثّل جوهر النزاع ولا يمكن بالتالي البتّ فيه إلّا عند حلّ النزاع كاملًا. من جهتها، صوّرت الولايات المتحدة الصراع على أنّه مجرد نزاع “حدودي” أو حول “ترتيبات أمنية”، متجاهلةً الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها إسرائيل.
وإن كانت هذه الحجّة مرفوضة ضمنيًا من كل المشاركات الأخرى، دحضت بعض الدول بشكل صريح ذريعة ثنائية الصراع على اعتبار الموضوع يعني الأمم المتحدة بشكل مباشر. وارتكز التصدّي الأبرز لهذه الادعاءات على طبيعة المسائل القانونية المطروحة أمام المحكمة ليؤكّد “وضوح تعددية أطراف الصراع” (السعودية). فحقّ تقرير المصير، وحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوّة، وحظر الفصل العنصري، ومجمل قواعد القانون الإنساني كلّها تشكّل قواعد قطعية وآمرة وتولّد التزامات تجاه كلّ الدول. وهو ما يعني أنّ هذا النزاع ليس ثنائيًا بل يعني جميع الدول. ويعكس هذا الموقف الجنوبي رغبة في الدفاع عن روحية القانون الدولي في مواجهة محاولات تفريغه من معناه. فما معنى وجود موجبات تجاه الكافة (erga omnes) إذا كان لا يمكن ضمان الالتزام بهذه الموجبات أو المطالبة بفرضه؟ وما معنى القواعد الآمرة والقطعية التي لا تقبل الانتهاك (jus cogens) إذا كان احترامها خاضعًا لمنطق التفاوض؟
التمسّك بالقانون لتثبيت الحق الفلسطيني أمام وهم المفاوضات
عام 2004، رفضت المحكمة اعتبار أنّ وجود إطار المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين يشكّل سببًا حاسمًا لمنعها من إبداء رأيها في قضية الجدار الفاصل. أمّا اليوم، فيستعيد الإسرائيليون الرافضون لإصدار المحكمة رأيًا جديدًا هذه الحجّة، معتبرين أنّ المفاوضات هي السبيل الوحيد لحلّ النزاع، مطالبين بضرورة احترامها وعدم جواز اللجوء إلى المحكمة كبديل عنها، وهو ما يشكّل محاولة ليس لإقصاء دور المحكمة فحسب، بل أيضًا لتجريد الفلسطينيين من أبسط حقوقهم التي قد يؤكّد عليها رأي المحكمة المرتقب.
وفي هذا السياق، اعتبرت الولايات المتحدة التي طلبت من المحكمة إبداء رأي مقتضب وغير مفصّل أنّ إبداء رأيها قد “يضرّ بقدرة الطرفين على التفاوض من أجل تسوية نزاعهما، عن طريق تعقيد الجهود لتحقيق تهدئة (…) لأنّه قد يدفع الأطراف إلى التمسّك بمواقفها وزيادة الانقسام بينها”. وهذا ما ينطوي ضمنيًا على تخوّف من أن يقف رأي المحكمة عائقًا أمام المزيد من التنازلات من جهة الفلسطينيين، وكأّن تنازلات أوسلو لم تكن كافية (فلسطين). فالمفاوضات تخضع لمنطق ميزان القوّة بين أطراف الصراع، إذ يستند كلّ طرف على ثقل قوّته لتحقيق مصالحه خلال عملية التفاوض. وفي إدراك تام لهذه البديهيات، تتابع إسرائيل بسط سيطرتها على كامل الأراضي الفلسطينية وارتكاب أقبح الجرائم من إبادة وتطهير عرقي واستيطان لتفرض “أمرًا واقعًا” لا يمكن الرجوع عنه وتنتزع المزيد من التنازلات من الجانب الفلسطيني وصولًا إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل “نهائي”.
في المقابل، أشارت دول أخرى إلى توقّف المفاوضات منذ زمن وإلى “موت عملية السلام” (قطر) لردّ هذه الحجّة، علمًا أنّ بعض هذه الدول ذهب حدّ تحميل إسرائيل المسؤولية المباشرة في إفشالها. وقد اعتبر مجلس التعاون الإسلامي مثلًا في هذا الصدد أنّه لا يوجد أفق للتفاوض ينبغي حمايته، بل فقط حرب مستمرّة، وأنّ الفلسطينيين لن يستعيدوا حقوقهم المشروعة من خلال المفاوضات بسبب اللامساواة الساحقة بين الطرفين.
وبرزت بعض المواقف الجنوبية التي أكّدت على عدم قابلية التفاوض على هذه الحقوق لأنّها بطبيعتها غير قابلة للتصرّف، وأن حلّ النزاع – حتى عبر التفاوض – يجب أن يكون على أساس المرجعية القانونية. ولعلّ الموقف الأبرز جاء في مرافعة جامعة الدول العربية التي رفضتْ إقصاء القانون عن حلّ النزاع، مشيرةً إلى “الاختلال الحادّ في ميزان القوى لصالح إسرائيل”. فاعتبرت أنّه لا يمكن إجبار الشعب الفلسطيني على التنازل عن حقوقه القانونية عن طريق استخدام إسرائيل للقوة، في انتهاك تام للقانون الدولي، وأنّ الشعب الفلسطيني يتمتع بكامل الحق في رفض المزيد من فقدان الأراضي والمطالبة بإنهاء فوري للاحتلال، بغض النظر عن موقف إسرائيل. كما اعتبرت الجامعة أنّ حجة المفاوضات في هذا السياق “تشكّل إهانة لسيادة القانون الدولي، ولميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على ضرورة تسوية المنازعات بما يتوافق مع القانون الدولي، وللوظيفة القضائية للمحكمة كحارس للنظام القانوني الدولي”.
وقد شكّل هذا الموقف ردًا على توّجه بعض دول الشمال لمحاولة الموازنة بين التمسّك بالقانون ظاهريًا، وترك المجال مفتوحًا أمام مخالفته في الواقع. وهو ما نقرأه مثلًا في الموقف الأخير الصادر عن الاتحاد الأوروبي حول ثبات موقفه الرافض للتوسّع الاستيطاني الإسرائيلي وبأنّه “لن يعترف بأيّ تغييرات على حدود ما قبل عام 1967، بخلاف تلك التي يتّفق عليها الطرفان”، ما يترك عمليّا الباب مفتوحًا لتنازل الفلسطينيين عن المزيد من حقوقهم.
من جهتها، لم تتطرّق معظم دول الشمال الداعمة للرأي لواقع المفاوضات (لوكسمبورغ، ليشتنشتاين، النرويج، سويسرا، فرنسا)، فيما حمّلت إسبانيا مسؤولية فشل المفاوضات إلى “دورات العنف المتعاقبة طوال عقود الصراع”. وحدها إيرلندا أشارت إلى غياب أي احتمال فوري للتوصّل إلى حلّ تفاوضي بين الطرفين، وتاليًا إلى الحاجة إلى رأي المحكمة من أجل توضيح قضايا القانون الدولي التي يطرحها الاحتلال بشكل يساعد “على توفير أساس مستقر لبناء حلّ عادل لهذا الصراع الذي طال أمده”. على نحو مماثل، أصرّت معظم الدول المشاركة على التأكيد بأنّ رأي المحكمة يساهم في العودة إلى المفاوضات وفي تحسين شروطها.
وقد أشارت صراحة عدد من الدول إلى سياسة إسرائيل في فرض الأمر الواقع (27 دولة)، مرتكزة بشكل واسع على رأي المحكمة السابق الذي حذّر من خطر فرض أمر واقع من خلال بناء الجدار الفاصل. وأشارت بعض الدول إلى “سوء نية إسرائيل” (السعودية) التي تستمر في “أنشطتها الاستيطانية وفي مجمل إجراءاتها الأحادية على الرغم من الدعوات المتكرّرة من المجتمع الدولي” (اليابان) وتتعمّد “وضع الفلسطينيين والمجتمع الدولي أمام أمر واقع” (فرنسا) “لا يقبل الرجوع عنه” (لبنان) و”يجعل انسحابها الكامل من الأرض الفلسطينية المحتلة أكثر صعوبة” (السعودية). وقد برزت في هذا الصدد مرافعة باكستان التي ذكّرت بأنّه تمّ التغلّب على إشكاليات عملية أكبر في سياقات أخرى، مثلًا عندما سحبت الحكومة الفرنسية مليون مستوطن من الجزائر عام 1962، إذ كان عدد المستوطنين الفرنسيين أكبر من عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية مجموعين. ولم تكن المستوطنات الفرنسية في الجزائر أكثر عددًا فحسب، بل كانت أيضًا “أقدم بكثير وأفضل ترسيخًا من مستوطنات إسرائيل في الضفة الغربية”.
ختامًا، وفي موازاة المحاولات الواسعة لطمس الحق الفلسطيني المشروع في مقاومة الاحتلال، يأتي رفض بعض الدول الاحتكام إلى محكمة العدل – وهو الذي يعدّ الإجراء الأكثر سلمية – ليترجم فعليًا محاولة طمس أوسع لأي مبادرة تؤكّد على أبسط الحقوق الفلسطينية. لكن، على الرغم من العقود التي تحاول إسرائيل خلالها تأبيد احتلالها وانتزاع قبول به، يأتي التمسّك الدولي بالقانون وبدور المحكمة، وتحديدًا من قبل دول الجنوب، ليؤكّد على إمكانية لا بل على واجب مواجهة الاحتلال المستمر بشتّى الوسائل المتاحة، بما فيها المساحات التي أنشأها القانون الدولي على أن تكون وسيلة تندرج في مشروع تحرّري أوسع.
نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل الملف بصيغة PDF
ونشر في مجلة تونس العدد 29