الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية (3): أي موجبات قانونية؟


2024-07-18    |   

الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية (3): أي موجبات قانونية؟
رسم رائد شرف

تعقد محكمة العدل الدولية جلسة علنية يوم الجمعة 19 تمّوز لتلاوة رأيها الاستشاري بشأن التبعات القانونية الناتجة عن الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ للأراضي الفلسطينية وانتهاكه لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وكانت المحكمة قد عقدت طيلة ستة أيام في شباط 2024، وعلى وقع استمرار حرب الإبادة في غزّة، جلسات لسماع المرافعات الشفهية حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في قضية تعدّ الأكبر في تاريخها حيث شاركت فيها 62 دولة وثلاث منظمات دولية (جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي). بعد ما استعرضنا في الجزء الأول من هذه المقالة البعد السياسي العالمي المتمثّل بطغيان الطابع الجنوبي على المشاركات والإجماع على عدم قانونية هذا الاحتلال، وبحثنا في الجزء الثاني منها في الحجج القانونية التي قدّمتها المشاركات حول المسائل القانونية المطروحة أمام المحكمة، نعرض في هذا الجزء الثالث أبرز الموجبات القانونية التي طالبت المشارَكات من المحكمة تأكيد ترتبها نتيجة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي، وهو جوهر السؤال المطروح على المحكمة.

فإذا سلّمت المحكمة بعدم قانونية الاحتلال وعدم قانونية الممارسات الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، ينتج عن ذلك آثار قانونية واضحة لا تقتصر على إسرائيل بصفتها مقترفة هذه الأفعال (1)، بل تشمل أيضًا جميع الدول (2)، كما هيئات الأمم المتحدة (3). والقانون المطبّق لتحديد هذه الآثار القانونية هو مجموعة من القواعد العرفية حول المسؤولية الدولية الناتجة عن أعمال غير شرعية التي قامت لجنة القانون الدولي باستخلاصها ووضعها خطيًا في عام 2001. ذكّرت 19 مشاركة بشكل عام بهذه الالتزامات من دون تفصيلها، فيما قدّمت 23 مشاركة شرحاً مفصلاً لبعض هذه القواعد وكيفية تطبيقها على الحالة الفلسطينية.

موجبات سلطة الاحتلال

بالنسبة لإسرائيل، تتعلّق الموجبات الأساسية التي تقع عليها بوقف الأعمال غير الشرعية التي ترتكبها وبموجب التصحيح أي الرد العيني، أو التعويض إذا كان الردّ غير ممكن والترضية. فقد أشارت غالبية المشاركات إلى ضرورة انسحاب الإسرائيليين من الأراضي المحتلة (إلى خط هدنة 1949)، ووقف الأعمال الاستيطانية وإزالة المستوطنات، فكّ الحصار عن غزة، تفكيك كلّ البنى التحتيّة لنظام الفصل العنصري والعدول عن كافة الإجراءات القانونية والمادية المتعلّقة بها، وتحرير الأسرى والموقوفين الفلسطينيين. وقد أشارت بعض المشاركات إلى ضرورة أن يكون أمر المحكمة واضحًا بهذا الخصوص ويتضمّن صراحة الانسحاب الفوري وغير المشروط مستشهدين برأي المحكمة في قضية ناميبيا، إذ إنّ حق تقرير المصير لا يمكن أن يكون رهينة أي اعتبارات أخرى[1].

أمّا بشأن موجب التصحيح، فطالبت بعض المشاركات بإعادة جميع الأراضي والممتلكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي إسرائيل المملوكة من الفلسطينيين والتي تمت مصادرتها إلى أصحابها. أمّا إذا لم يكن استرداد الأراضي والممتلكات المعنية ممكنًا ماديًا، اعتبرت المشاركات أنّه يتعين على إسرائيل دفع تعويضات مع الفوائد لأصحابها عن الأضرار الناجمة عن الاستيلاء عليها.

ولا يقتصر التعويض على  الخسائر الناجمة عن عمليات الهدم والمصادرة، إنّما يغطي أيضًا خسارة الأرباح. ويشمل أيضًا هذا الموجب تعويض جميع الأضرار التي لحقت بالأفراد الطبيعيين أو المعنويين (وخاصة الأشخاص الفلسطينيين) نتيجة لاحتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية وسياساتها وممارساتها التمييزية، بما فيها القتل، والاحتجاز، والإصابات الجسدية، وإصابات الصحة النفسية والعقلية، الدمار والأضرار التي لحقت بالمنازل والممتلكات الأخرى التي لا يمكن استعادتها، والأضرار التي يمكن تقييمها ماليا للشركات. وقد اقترحت ناميبيا من أجل تقدير قيمة التعويض الاعتماد على دراسة البنك الدولي حول التكاليف الاقتصادية للاحتلال وتقارير UNCTAD (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) المتعلّقة بالكلفة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي وتأثيرها على غياب  التنمية الاقتصادية الفلسطينية[2].

كما أكّد عدد كبير من المشاركات على حق العودة للاجئين الفلسطينيين كتدبير تصحيح عيني، حيث يجب على إسرائيل أن تفعل كلّ ما في وسعها لتسهيل هذه العودة إذا رغب الضحايا بذلك.

من جهتها، ركّزت بعض الدول (قطر، لوكسمبورغ) على مسؤولية إسرائيل في ملاحقة الأفراد المسؤولين شخصيًا عن اقتراف هذه الأعمال غير الشرعية ومحاسبتهم بعدما حظيوا بالإفلات من العقاب طوال فترة الاحتلال، وإنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة، مستندين إلى تجارب سابقة لا سيما في جنوب أفريقيا، وأوروغواي وبيرو وتشيلي.

فضلا عن ذلك، تلقي قواعد المسؤولية الدولية للأفعال غير الشرعية في بعض الحالات موجب تقديم ضمانات بعدم تكرار الأفعال غير الشرعية.  وكانت المحكمة قد اعتبرت في اجتهاد سابق لها (ألمانيا ضد الولايات المتّحدة الأميريكية – قضية 2001 Lagrand) أن إصدارها أمرًا بفرض الضمانات بعدم التكرار لا يتم إلّا في “ظروف خاصة”، لأنه “لا يوجد سبب للافتراض بأن الدّولة التي أعلنت المحكمة أن عملها أو سلوكها غير قانوني سوف تكرره في المستقبل”، بما أنّه يجب افتراض حسن النية لدى الدول. من هنا،  ركّزت بعض الدول على وجود “ظروف خاصة” تسمح لا بل تدفع المحكمة إلى إلقاء موجبات مماثلة على إسرائيل، بالنظر إلى طول أمد الممارسات غير الشرعية وغياب النية الإسرائيلية في تصحيح ممارساتها (قطر، بنغلادش). فإذا كانت في السابق قد رفضت المحكمة طلب ألمانيا  بالحصول على ضمان عام بعدم التكرار، لأن الولايات المتحدة أعربت حينها عن “التزام لضمان تنفيذ التدابير المحدّدة”، فإن إسرائيل لم تلتزم ولم تتّخذ فعليّاً إجراءات لتنفيذ الالتزامات التي ما زالت تنتهكها منذ أكثر من 55 عاماً. بل على العكس من ذلك، فإن السياسة التي تنتهجها إسرائيل منذ زمن طويل هي الإبقاء على احتلالها غير القانوني، في تجاهل صارخ لرأي المحكمة بشأن الجدار والقرارات المتكررة للجمعية العامة ومجلس الأمن. وبالتالي، فإن سلوك إسرائيل السابق والحالي  يشير إلى أنها قابلة لتكرار انتهاكاتها الخطيرة للقانون الدولي في المستقبل. بالإضافة إلى خطر التكرار، تشكّل طبيعة الالتزامات التي تم انتهاكها وخطورتها عوامل يجب أخذها في الاعتبار عند تحديد ما إذا كانت الظروف تتطلب تأكيدات وضمانات. وفي هذه القضية، ومع الأخذ في الاعتبار القواعد القطعية التي تنتهكها إسرائيل وخطورة انتهاكاتها لها، فإن هذه العوامل ترجح بشدة لصالح الاستنتاج القائل بأنه يجب على إسرائيل تقديم التأكيدات والضمانات المذكورة.

موجبات كافة الدول

بما أنّ القواعد المنتهكة من قبل إسرائيل هي قواعد قطعية وآمرة، تتخطّى العلاقة الثنائية بين طرفي النزاع، فإنّ من شأن ذلك أن يخلّف موجبات على عاتق جميع الدول. ويشمل ذلك موجبات سلبية تتمثّل بعدم الاعتراف بالوضع الناشئ عن الممارسات غير الشرعية، وعدم المساعدة في اقترافه، ولكن أيضا موجبات إيجابية تقوم على العمل على إنهاء الأعمال غير الشرعية بجميع السبل الشرعية المتاحة.

بالنسبة للموجبات السلبية، اعتبرت بعض الدول أنّ موجب عدم الاعتراف بالوضع القائم يعني أنّه لا يجوز للدول الثالثة إرسال بعثات دبلوماسية أو خاصة إلى إسرائيل بصلاحيات تمتد إلى الأراضي المحتلة، كما لو كانت تلك الأراضي مجرد جزء من إسرائيل (مالديف، جيبوتي، بوليفيا، ايرلندا، السعودية، قطر، اسبانيا، باكستان). كما استنتجت بعض الدول من هذا الموجب موجبًا آخر يقوم على التمييز، في تبادلاتها، بين أراضي دولة إسرائيل والأراضي المحتلة منذ عام 1967 (اسبانيا، فرنسا، اللوكسمبورغ، بلجيكا، بوليفيا، السعودية، ايرلاندا). وهذا ما يترجم في قانون الاتحاد الأوروبي – احترامًا للقانون الدولي ولرأي محكمة العدل حول الجدار الفاصل (2004) – من خلال معاملة المنتجات بشكل مختلف وفقاً لمصدرها. وبشأن موجب عدم تقديم المساعدة، ركّز عدد من المشاركات حول ضرورة امتناع جميع الدول عن تزويد إسرائيل بالأسلحة والتكنولوجيا والمعدات والمساعدة المالية، فضلًا عن أي نوع آخر من الدعم المادي المرتبط بالحفاظ على نظام التمييز العنصري أو الاحتلال (بيليز، بوليفيا، ناميبيا، ماليزيا، تونس، قطر).

أمّأ بشأن الموجبات الإيجابية والتزام جميع الدول بالتعاون من أجل إنهاء أي انتهاك من جانب إسرائيل، ركّزت المشاركات على ضرورة العمل من ضمن الأطر المؤسساتية الموجودة (الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية)، وقد ذهبت بعض المشاركات إلى حدّ اعتبار وجود موجب بالامتناع عن ممارسة حق النقض (الفيتو) في اتخاذ قرارات المنظمات الدولية لمنع اتخاذ قرارات تهدف إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والسياسات والممارسات التمييزية (قطر، ايران، كوبا). وطالبت بعض المشاركات أن تقدّم المحكمة شرحاً تفصيليّاً  لأشكال التعاون المفروض على الدول لإنهاء الاحتلال ونظام الفصل العنصري، مثل إعلان السفراء أو الدبلوماسيين الإسرائيليين أشخاصًا غير مرغوب فيهم، وإنهاء العلاقات العلمية والثقافية، تنفيذ مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، تطبيق عقوبات مستهدفة ضد إسرائيل والكيانات الإسرائيلية والمسؤولين الإسرائيليين، ودعم قرارات الأمم المتحدة الهادفة إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والأعمال ذات الصلة.

وبما أن النظام الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل نظام فصل عنصري، طالبت قطر أن تتخذ بحق إسرائيل جميع الإجراءات التي اتّخذت ضد جنوب افريقيا. وذلك يشمل مثلًا فرض حظر إلزاميّ على توريد الأسلحة لإسرائيل، ومطالبة الدول بالامتناع عن توريد النفط إلى إسرائيل، وإغلاق موانئها أمام جميع السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي، ومنع سفنها من دخول الموانئ الإسرائيلية، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية والفرق الرياضية الإسرائيلية، والامتناع عن تصدير البضائع إلى إسرائيل وإنشاء لجنة خاصة لمراقبة سياسات إسرائيل وممارساتها التمييزية.

موجبات هيئات الأمم المتحدة

ذكّرت المشاركات بموجبات الأمم المتحدة المشابهة للدول فيما يخصّ عدم الاعتراف بالأوضاع الناشئة عن الممارسات غير الشرعية وضرورة العمل على إنهائها. لكنّ عقودًا طويلة من إدانات متواصلة للاحتلال وممارساته بيّنت عجز المنظّمة حتى اللحظة من إحقاق أي تقدّم ملموس في وقف هذه الممارسات، دفع بعض الدول إلى الطلب من المحكمة أن توضح إجراءات جديدة يمكن ويجب على المنظّمة اتخاذها. فطالبت بألا يمكن لأي هيئة تابعة للأمم المتحدة أن تعترف بسلطة إسرائيل على الأراضي المحتلة، ولكن أيضا ألا توفر الأموال اللازمة للحفاظ على الوضع غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما طالبت بإخضاع جميع الأموال المخصصة لإسرائيل للعناية الواجبة المناسبة من أجل ضمان ألا يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر في تقديم المعونة أو المساعدة في الحفاظ على الوضع غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وبما أن إسرائيل لم تمتثل لقرارات مجلس الأمن التي تطالبها بإنهاء الاحتلال، فذهبت بعض المشاركات في الطلب من المحكمة بتذكير مجلس الأمن بصلاحياته المستمدة من المادتين 41 و42 من ميثاق الأمم المتحدة، لتفعيل قراراته السابقة والتي تسمح بقطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع إسرائيل، أو حتى فرض هذه التدابير “بواسطة القوات الجوية أو البحرية أو البرية”، أي بعمليات عسكرية. كما طالبت بتذكير الجمعية العامة، بصلاحيتها بأن توقف إسرائيل عن ممارسة حقوقها وامتيازاتها كعضو في الأمم المتحدة، بناء على توصية مجلس الأمن.

كما أشارت قطر إلى ضرورة اتخاذ تدابير من قبل الأمم المتحدة لدعم ممارسة الصلاحية القضائية الجنائية على الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة في ظل الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية المحتلة وفي إطار ممارساتها وسياساتها التمييزية، أو العمل على إنشاء محكمة دولية خاصة لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم على غرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا.


[1] باكستان، جنوب أفريقيا، البرازيل، الكويت، غامبيا، بيليز، موريشيوس، كولومبيا، ماليزيا، جيبوتي، العراق، ليبيا،قطر، المالديف، جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي، مجلس التعاون الإسلامي

[2] يذكر هنا أنّه عملًا برأي المحكمة في قضية الجدار الفاصل، تم إنشاء سجل الأمم المتحدة للأضرار الناجمة عن تشييد الجدار في الأرض الفلسطينية المحتلة (UNRoD) عام 2007 بموجب قرار الجمعية العامة وهو  يتولّى مهمّة تسجيل مطالبات المتضررين من تشييد الجدارولكنّه لا يقدّم التعويضات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، فلسطين ، محكمة العدل الدولية ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني